ستمعت مرة إلى الأديب الكبير الراحل د.يوسف إدريس كان يحكى أنه فى شبابه تعلم أن يضع علبة السجائر فى الشراب، بعد أن شاهد محمود المليجى يفعل ذلك فى أحد الأفلام، فأصبحت علبة سجائره منذ ذلك الحين لا تعرف سوى هذا الطريق. فى أحد مشاهد فيلم «اللمبى» قالت له أمه متأكد إن ساندوتشك فى شنطتك ومطوتك فى جيبك، وعندما أجابها نعم، قالت له إذن على بركة الله انطلق للمدرسة. أصبح علينا أن نتحسس جيوبنا بين الحين والآخر لنتأكد أن الريموت كنترول لا يزال يقظا. تشن بين الحين والآخر الفضائيات، التى صارت هى المصدر الرئيسى لحالة الانفلات اللفظى والحركى زخات مكثفة من المسلسلات والبرامج التى يتباهى صُناعها بأنهم يقدمون آخر صيحة فى دنيا الإسفاف. كلمات وتعبيرات واستخدام مفرط للأصابع فى التلميحات الإباحية، كأن من يقف أمام الكاميرا يعتقد أن الشتائم هى الطريق الوحيد المضمون للفت الانتباه للوصول لقاعدة جماهيرية ضخمة. والغريب أن أغلب من يهاجمون تلك البرامج والمسلسلات تكتشف أنهم صاروا مدمنين لها، أتصور أن السبب الرئيسى هو زيادة عدد الفضائيات، الذى وصل إلى 700 ناطقة بالعربية بينها أكثر من 30% ظهرت مباشرة بعد ثورات الربيع العربى فصار التنافس بينها شرسا، كل منها يبحث عن متفرج جديد يقدم له البضاعة التى يعتقد أنها ترضى ذائقته. هل نُحمّل «الميديا» تبعات المسؤولية كاملة، حيث تنقل الشاشة السلوك للشارع فى نفس اللحظة التى تستقى فيه مفرداتها من الشارع؟ قبل نحو ما يزيد على عشرين عاما أخرج أوليفر ستون فيلمه «ولدوا ليقتلوا» ينتقد فيه وسائل الإعلام وكيف أنها صدرت العنف للمجتمع فبات أكثر دموية، استند إلى دراسة أكدت زيادة ملحوظة فى السنوات الأخيرة للجينات البشرية المحفزة للعنف. العلاقة كانت ولا تزال تبادلية بين الشارع والشاشة، تنقل «الميديا» ما يجرى فى الشارع ثم تصدره للناس وبعد إعادة تدوير البضاعة، بعض الجرائم تم تنفيذها مباشرة محاكاة لفيلم أو مسلسل، كما أن بعض أساليب تعاطى المخدرات كانت الشاشة هى الوسيلة المضمونة لذيوعها. الشارع كان ولا يزال يسمح بهامش من التجاوز اللفظى، ولكن زاد المعدل على حدود المسموح. فى كل لغات العالم تتوالد كلمات وتتغير الأطر الدلالية لبعضها من حقبة زمنية إلى أخرى، ويجب علينا أن نذكر أن الكلمة قبل أن يتم تداولها لا تأخذ ضوءا أخضر ولا تصريحا رسميا من جهات رسمية، ولكنها تنتزع حضورها عنوة فى الحياة، وكل زمن يطرح أسلوبه، ولو تابعت لغة التخاطب عبر «النت» ستكتشف أن ما تسمعه فى المسلسلات والأفلام والبرامج هى كلمات مهذبة جدا بالقياس لما هو مستخدم بكثافة الآن فى العالم الافتراضى. علينا ملاحظة أن كلمات مثل حضرتك وأفندم وبعد إذنك ولو سمحت وعفوا وغيرها، يبدو أن عمرها الافتراضى قد انتهى من قاموس التعامل اليومى، ومن لا يزال حريصا عليها صار فى عرف هذا الزمن «أنتيكة»!! لو قلبت فى صفحات الدراما ستكتشف أن أشهر عبارة أحدثت ضجة فى العالم العربى ووصفت وقتها بالانفلات هى تلك التى أطلقتها فاتن حمامة فى فيلم «الخيط الرفيع» فى منتصف السبعينيات «ابن الكلب» التى نعتت بها محمود يس فى حوار ساخن كان من المستحيل العثور على مرادف لفظى آخر، إلا أن الذى حدث بعدها هو أن البعض طالب بالمعاملة بالمثل ورأينا سيلا عارما من مشتقاتها تتسلل للأفلام. لا ينجح عمل فنى ولا برنامج لأن به بذاءات، الناس بطبعها تكره الإفراط والحكمة تقول «الفضيلة تقع بين رذيلتين الإفراط والتفريط»، وهكذا بقدر ما أرفض تلك الأعمال التى تبدو مهذبة لدرجة التعقيم فأنا أرفض أيضا الإسراف الذى يصل إلى حد الإسفاف. النوعان مرفوضان سواء تلك التى تغلف نفسها بغطاء من أوراق «السوليفان»، أو الأخرى التى تبدو كأنها قد تخلصت تماما حتى من ورقة التوت. لا نستطيع أن نعزل الشاشة عما نراه فى الشارع، ولا أن ننكر أن الدراما أيضا أثرت فى لغة الشارع. إنهما وجهان لعملة واحدة، ولا أتصور أن ميثاق الشرف الإعلامى من الممكن أن يملك آليات للمواجهة، بعد أن أنجب الانفلات مزيدا من الانفلات، لنترحم على زمن علبة سجائر محمود المليجى!!