أدار الندوة: عاطف النمر محمد سلطان أعدتها للنشر :نادية البنا تكريمى فى معرض القاهرة للكتاب حدث مُميز .. والإسكندرية مدينة لا تنتهى! اختارت جريدة «الأخبار»، أن تمنح صفحاتها وروحها يومًا يليق بالإبداع، للاحتفال بعيد ميلاد الروائى الكبير إبراهيم عبد المجيد، الذى تشهد الدورة المقبلة من معرض القاهرة الدولى للكتاب تكريم اسمه ومسيرته، جاءت الندوة مُحَملة بدفء يليق بمبدع عاش حياته بين الناس، ومن أجلهم، ودار الحوار بإدارة رئيس تحرير الأخبار د.أسامة السعيد، بمشاركة الكاتب الصحفى والشاعر عاطف النمر مدير تحرير الأخبار، والأستاذ محمد سلطان مدير التحرير، والزملاء بالقسم الأدبى، وكان إلى جوار المُحتفَى به شريكة رحلته الإنسانية والإبداعية، السيدة تيسير السماك.. لم يكن الاحتفاء بالروائى الكبير إبراهيم عبد المجيد، فى احتفالية «الأخبار»، مجرد مناسبة عابرة لتسجيل لحظة تكريم، بل بدا كما لو أن الأخبار نفسها تفتح ذراعيها لواحد من أكثر الأصوات الأدبية حضورًا وتأثيرًا فى المشهد الروائى العربي. افتتح د.أسامة السعيد، الندوة بكلمة أكد فيها أن لقاءاته بإبراهيم عبد المجيد تكشف له فى كل مرة جوانب جديدة، قائلًا: «نحن لسنا أمام مبدع واحد، بل أمام مجموعة كُتاب فى شخص واحد، روائى يتمرد حتى على نفسه، ويرفض التكرار، ويصر على أن يقدم جديدًا فى كل رواية وكل عمل». وشدد السعيد، على أن مشروع عبد المجيد، السردى يجعل القارئ يشعر بأنه أمام روائى «متعدد الأصوات والأنفاس»، وضرب مثالًا، قائلًا: «مَن يقرأ لا أحد ينام فى الإسكندرية لن يجد روح «أداجيو»، ومَن يقرأ الإسكندرية فى الثلاثية لن يجدها هى نفسها فى كل أسبوع يوم جمعة، كل رواية عالم مستقل وكاتب جديد». ثم توقف السعيد عند الجانب الإنسانى مؤكدًا: «أمام هذه القيمة الأدبية الكبيرة، نجد إنسانًا بسيطًا، طبيعيًا، متواضعًا، كأنك تجلس مع صديق أو قريب تراه كل يوم، وهذه البساطة لا تأتى إلا من الامتلاء؛ فالسنابل الممتلئة تنحنى دائمًا». وأضاف: «الأستاذ إبراهيم نموذج للمثقف المصرى الذى لا ينفصل عن قضايا وطنه، مخلص لمشروعه الروائى والفكري، لم ينجرف أبدًا إلى معارك جانبية أو هوامش تسرق الوقت، كَرَّس حياته للإبداع، ومنحنا منجزًا أدبيًا فريدًا، ولا أبالغ إذا قلت إنه اليوم أهم روائى على الساحة الأدبية المصرية»، واختتم رئيس التحرير: «احتفاء الأخبار به اليوم احتفاء مستحق... بالكاتب والقيمة والإنسان». وجود شريك حياة مُتفهم يُحدث توازنًا بين عالمى الورق والحقيقة الذكاء الاصطناعى أداة مساعدة وليست بديلًا عن إحساس المُبدع وتجربته الإنسانية بدأ إبراهيم عبدالمجيد فى الحديث، وفتح صندوق الذاكرة ليحكى عن المدينة التى شَكَّلته، وعن تجربته الممتدة بين الكتابة والحياة، مُحافظًا على روحه الهادئة وصدقه المعهود. البدايات والكتابة الأولى استعاد إبراهيم عبدالمجيد، سنوات التأسيس الأولى، حين بدأ طريقه ككاتب شاب لا يملك سوى شغف المعرفة ورغبة الاكتشاف، تَحَدَّث عن ولعه المبكر بالقراءة، وعن تلك اللحظة التى أدرك فيها أن الكتابة ليست مجرد موهبة عابرة، بل قدرٌ يلازمه، أوضح أنه لم يسع يومًا وراء صخب الشهرة، وأن كل ما كان يخطط له هو أن يكتب نصًا صادقًا، يعبر عن البشر كما يراهم، وعن المدن كما يشعر بها، وعن الحياة كما تخترق روحه، واستعاد بداياته قائلًا: «منذ بدأت الكتابة وأنا أعرف أن التكرار موت، لا أستطيع أن أكتب الرواية نفسها مرتين، كل كتاب يجب أن يكون مغامرة لا أعرف نهايتها». وأوضح أن هذا الطريق كان صعبًا لأنه يفرض على الكاتب أن يخترع نفسه من جديد كل مرة، لكنه كان المسار الوحيد الممكن بالنسبة له، لأن الكتابة بلا مغامرة... مجرد وظيفة». الإسكندرية... ليست مكانًا بل مصير قال عبد المجيد، إن الإسكندرية لم تكن خلفية لرواياته، بل كانت «الجوهر نفسه»، مضيفًا: «الإسكندرية ليست ديكورًا فى أعمالي، إنها الذاكرة والروح، مدينة صنعتنى قبل أن أكتب عنها، هى طفولتى وشبابى وأصدقائى وأول أحلامى». وأكد أن الإسكندرية، رغم حضورها المتكرر، لم تكن لديه مكانًا ثابتًا يتكرر كما هو، بل كانت مدينة تتغير داخل النص كما تتغير داخل الواقع؛ مدينة لها وجوه عديدة، تمامًا كما للإنسان وجوه لا تُحصى. وأضاف: «كلما كتبت عن الإسكندرية اكتشفت أنها أكبر مني، مدينة لا تنتهي... تتغير مثل إنسان يعيش عمرًا كاملًا، ومع كل تغير أجد سببًا جديدًا للكتابة». تكريمه فى معرض الكتاب أسعدنى جدًا إعلان تكريمى فى الدورة المقبلة لمعرض الكتاب، والحقيقة أن هناك الكثير من الأمور الجميلة التى سيشهدها فى المعرض، خاصة تكريم شخصية نجيب محفوظ، وكذلك تكريم العديد من الشخصيات مثل رضوى عاشور وآخرين، وهذا بحد ذاته إنجاز عظيم ومجهود رائع من د.أحمد جاهد ود.خالد أبو الليل رئيس الهيئة، ومن كل القائمين على المعرض. أما ما يُمَيِّز هذا التكريم فى معرض القاهرة للكتاب، فهو أن المعرض له جمهور كبير ورواد كثير، وحضور واسع، ويُقام وسط احتفالات كبيرة، مما يضفى على الحدث خصوصية كبيرة بالنسبة لي، المعرض يذكرنى بذكريات قديمة، إذ بدأت أول مشاركة لى فيه عام 1969، حين جئت من الإسكندرية ومعى 7 جنيهات اشتريت بها بعض الكُتب، واليوم أصبح المعرض حدثًا ضخمًا يجمع آلاف الزوار. لقد تشرفت كثيرًا بالمشاركة فى الندوات الثقافية، وكنت أول مَن قدم المقهى الثقافي، منذ عام 1988 وحتى عام 2000، حيث قدمت فيها محاضرات وورش عمل للشباب والشعراء والروائيين، وكانت تجربة رائعة ومميزة للغاية. بالنسبة لي، المعرض يظل حدثًا ذا خصوصية كبيرة، حتى ولو أصبحت زيارتى محدودة بسبب الانشغالات والصحة، فالتجربة تبقى غنية بالذكريات واللقاءات الثقافية القيمة، كما أتطلع لقراءة أعمال الشباب الجديدة، وأعد بمتابعة الروايات التى تصلني. أكد عبد المجيد، أن تعدد أنماط كتاباته ليس قرارًا واعيًا بقدر ما هو طبيعة داخلية؛ فهو لا يستطيع كتابة الرواية بالطريقة نفسها مرتين، موضحًا أن كل عمل ينشأ من مزاج مختلف، ورؤية جديدة، وتجربة لم يخضها من قبل، يرى أن الكاتب الذى يُعيد إنتاج نفسه لا يتقدم خطوة، وأن الرواية فى حقيقتها «رحلة» على الكاتب أن يدخلها من دون أن يعرف أين سينتهي. توقف أمام بعض أعماله المعروفة، مشيرًا إلى أن روايات مثل «لا أحد ينام فى الإسكندرية» و«الإسكندرية فى غيمة»، ليست تكرارًا لبعضها، بل محطات مختلفة فى مشروع سردى طويل، يختبر فيه الإنسان فى مواجهة التاريخ والمدينة والوجود. تحدث عبد المجيد، عن مصادر شخصياته قائلًا: «بعض الشخصيات لها جذور فى الحياة، لكنها لا تنتمى إلى شخص واحد، الشخصية عندى تولد من عشرين روحًا... من ضحكة سمعتها، من كلمة فى المقهى، من لحظة عابرة على الكورنيش»، وأكد أن القارئ يشعر بأن تلك الشخصيات موجودة لأنه كتبها بحقيقة الداخل، لا بمظهر الواقع. وتذكر حينها فترة عمله فى الترسانة البحرية، والتى وصفها بأجمل أيام حياته، ومنها تكونت العديد من الشخصيات فى عقله، ومنها شخصية حاول كتابتها منذ أكثر من أربعين عامًا، ولكن لم يكمل العمل، وعادت لذاكرته من جديد فكتبها فى روايته السيكلوب. عن السينما والتعامل مع المخرجين تحدث الروائى الكبير عن علاقته بالسينما، التى نشأت منذ الطفولة، حيث كان يهرب من مدرسته فى مرجلة الروضة ليشاهد أفلام السينما، وعندما نضج زاد شغفه بالسينما ولكنها أصبحت مدخلًا جديدًا للتعلق بالأدب، فكلما شاهد فيلمًا بحث عن الرواية الأصلية المأخوذ عنها وقرأها، ثم تعمق فى البحث ليقرأ تطور الأدب العربي، وفيما يخص التعامل مع المخرجين، أكد أنه ليس من الأدباء الذين ينزعجون من تدخلات المخرجين، يرى أن السينما وسيط له لغته الخاصة، وأن الرواية حين تُنقل إلى الشاشة يجب أن تتحول إلى عمل جديد مستقل، لذلك، لم يعترض يومًا على أن يعيد المخرج صياغة بعض الأحداث أو الشخصيات، ما دام الجوهر باقيًا. أشار الروائى الكبير، إلى التجارب التى جمعته بمخرجين كبار، وكيف تعلم من كل تجربة شيئًا مختلفًا، مؤكدًا أن السينما - رغم اختلاف وسيلتها - قادرة على أن تمنح الرواية حياة أخرى. جدل الجوائز قال عبد المجيد: «الجوائز جميلة وتسعد القلب، لكن الأديب لا يكتب للجائزة، بل لأنى لا أستطيع ألا أكتب، هذا قدري، حتى لو لم أُنشر»، وبَيَّن أن الكتابة عنده «حاجة داخلية لا تخص العالم الخارجي»، وأنه ظل وفيًا لهذه القناعة طوال مسيرته. ولم يتجاوز عبد المجيد، الحديث عن الجدل الذى أثير حول فوزه بإحدى الجوائز، وكان من بينها جائزة نجيب محفوظ ووقتها كانت سعادته مضاعفة، فصاحب نوبل بنفسه، هو مَن دافع عنه، رغم أنه لم يكن من المقربين منه ومريديه، كما أن فوزه بالجائزة جاء باختيار اللجنة لعمله وليس بترشيحه لنفسه. وبعد فترة صمت طويلة، أوضح عبد المجيد، أن الأمر لم يكن يومًا شأنًا شخصيًا له؛ فالجوائز تأتى وتذهب، وقد فاز عبر تاريخه بالعديد من التكريمات والجوائز، داخل مصر وخارجها، ما يعنيه دائمًا الكتاب وحده، وما يتركه العمل فى ذاكرة القارئ، وأكد أنه لم يسع يومًا وراء جائزة، ولم ينتظر من المؤسسات الثقافية أن تمنحه اعترافًا. تجربة الوصول أوضح عبد المجيد، أنه يكتب بضمير عربى مفتوح، وأن أعماله وُجدت لتصل إلى القارئ العربى فى أى بلد، تحدث عن مسار ترجمات رواياته إلى لغات متعددة، وعن أهمية أن يجد النص العربى منفذًا للعالم، ومع ذلك، شدد على أن ما يهمه حقًا هو أن يشعر القارئ القريب - قبل البعيد - بأن هذا النص يمس حياته، ويلتقط من روحه شيئًا كان يبحث عنه. وأشار إلى ندرة الترجمة عن العربية، لما تتحمله من أعباء مالية تحتاج إلى أن يُنظر إليها بعين الاعتبار، مشيرًا إلى أن حل تلك المشكلة ليس صعبًا، فيمكن لوزارة الثقافة، أن تصل لصيغة مع رجال الأعمال لدعم الترجمة عن العربية، ويصبح ذلك ضمن مشروعات الخدمة المجتمعية لديهم. حول كتابة المسلسلات، قال إنه لم يكتب للدراما بشكل مباشر، إلا مسلسل واحد وهو «بين شطين ومية»، وكان السبب فى ذلك تعرضه لأزمة مالية كبيرة بعد إصابة زوجته الأولى بالسرطان مما جعله يصرف كل ما يملك على العلاج، ولكن قدر الله أن تتوفى، فقرر أن يبدأ من جديد وكتب المسلسل، ويتقاضى عنه أكبر مبلغ كسبه وقتها، أوضح أنه ليس ضد الدراما، بل ضد تحويل الفن إلى «منتج سريع»، يؤمن بأن الرواية تُكتب لأنها تريد أن تُقال، لا لأنها تصلح للمسلسل، ومع ذلك، لا يمانع أن يتحول نصه إلى عمل تليفزيونى حين يكون الاحترام موجودًا. الرواية التاريخية وأدب الرعب تناول فكرة الرواية التاريخية باعتبارها مساحة إبداع لا يجوز تقييدها بالبحث الأكاديمى وحده، فالروائي، فى رأيه، ليس مؤرخًا، ولا يعمل وفق منهج علمى جامد؛ مهمته أن يرى العصر بروح إنسان عاشه ولو من بعيد، لكنه فى الوقت نفسه يلتزم بالخطوط العامة للواقع التاريخي، دون أن يخضع للإملاءات أو «التقديس المبالغ فيه» للوقائع. أوضح أنه لا يكتب الرعب لأنه لا يعكس روح عالمه الداخلي، يرى أن الرعب ينتمى إلى منطقة فنية أخرى تعتمد على الإيهام والعتمة والصدمات، بينما مشروعه يقوم على الإنسان والمدينة والتاريخ والعلاقات والوجدان، وأكد أنه يحترم كتاب الرعب، لكنه لا يجد نفسه فى هذا الشكل من الكتابة. الحرية... ومسافة الأمان من السياسة أوضح عبد المجيد، أنه كان دائمًا قريبًا من السياسة بالمعنى الفكري، لكنه حافظ على مسافة آمنة منها كممارسة يومية: «كنت أعرف أن الدخول فى المعارك سيأخذنى بعيدًا عن الرواية، اخترت أن أحافظ على شيء واحد: الحرية... حرية أن أكتب، وأن أكون نفسي». واستطرد: العمل السياسى يحتاج إلى طبيعة خاصة ونظام حياة مختلف ومنظم، وأرى أن هذا كان يقيد إبداعي، لذلك قررت أن أبتعد عن الساحة السياسية، وأعود لساحتى الإبداعية. الإبداع والذكاء الاصطناعى فى حديثه عن الذكاء الاصطناعي، قال عبد المجيد إنه يتعامل معه كأداة لا بد منها فى عالم يتطور بسرعة، لكنه لا يرى أن الآلة قادرة على أن تحل محل الإنسان فى جوهر الإبداع، لأن الكتابة ليست تركيب كلمات، بل إحساس وحياة وتجربة وذاكرة، ومع ذلك، لا يخشى المستقبل، ويؤمن بأن الإنسان سيظل مركز العالم مهما تقدمت التكنولوجيا. الحياة الشخصية وتجربة العمر تحدث عن رحلته الإنسانية، وعن سنوات تعب ومعارك ومحطات ثقل، وكيف لعبت زوجته تيسير سمك دورًا أساسيًا فى حياته الإبداعية، فكانت صديقته وونيسه وشريكته فى أصعب اللحظات، قال إن الكاتب قد يعيش عالميْن فى وقت واحد: عالم الورق، وعالم الحقيقة، وإن وجود شريك متفهم يوازن بين الاثنين نعمة لا تُقَدَّر. نصيحته للشباب أشار عبد المجيد، إلى تأثره الكبير بفكر مندور الذى كان سببًا، بأن يتوقف عن الكتابة لنفسه، ويتجه إلى التعلم قبل الكتابة، من خلال قراءة المذاهب الأدبية، لذلك وَجَّه نصيحته للشباب قائلًا: «اقرأ تاريخ الأدب.. لتبدأ من حيث انتهى الآخرون، وذلك ما سيجعلك كاتبًا متميزًا، فللأسف عدد كبير من الأدباء حاليًا يكتبون بطريقة الحكى، فلا تشعر بقوة الرواية وقوامها السليم. واختُتمت الندوة بتهنئة إبراهيم عبد المجيد، بعيد ميلاده وتكريمه المنتظر فى معرض الكتاب، وسط تقدير كبير من الحضور، بدا واضحًا أن الاحتفال لم يكن بروائى فحسب، بل بإنسان ظل وفيًا لمشروعه، مخلصًا لفنه، غير معنى بالضجيج ولا بالمعارك الجانبية، مُكتفيًا بأن يكتب ويمنح قارئه متعة لا تنضب. بهذه الروح، وبكل ما قدمه خلال عقود، بدا تكريمه طبيعيًا ومُستحقًا، لا يضيف إليه بقدر ما يُضيء منجزًا ظل حاضرًا فى وجدان القراء، ويمثل واحدة من أكثر التجارب الروائية ثراءً ونُضجًا فى الأدب المصرى والعربى.