بيئة العمل السامة، أكثر من مجرد مصطلح؛ في السنوات الأخيرة لم تعد الكلمات مثل "الوصوليين" أو " الطبالين " أو حتى "العصافير" كلمات تُقال في ممرات المؤسسات، بل أصبحت انعكاسًا لواقع إداري يُقاسي منه كثيرون في أماكن العمل، فكل مصطلح منها يصف سلوكًا شائعًا يعكس اختلالًا في القيم المهنية، وغلبة المصالح الشخصية على حساب الأداء والتقدير العادل. فمن هم " الطبالين "؟ الولاء المظهري بدلًا من العمل الحقيقي، هو تعبير عامي/دارج، يطلق هذا الوصف على من يُفرطون في إظهار الولاء للمدير أو المسئول، ليس انطلاقًا من احترام حقيقي أو تفان في العمل، بل من أجل الترقية أو تجنب المساءلة، وهذا السلوك غالبًا ما يُعزز ثقافة المجاملة والمحسوبية الفارغة ويُضعف من قيمة الأداء الفعلي، يشير العديد من علماء السلوك التنظيمي، مثل Robbins & Judge)) إلى أن "التملق" المصطلح العلمي ل " الطبالين " هو شكل من أشكال السلوك السياسي في المنظمات، حيث يسعى الفرد للتأثير على الآخرين (المديرين) لتحقيق أهداف شخصية، وغالباً ما يكون على حساب الأداء الموضوعي. من هذا المنطلق، فإن الطبالين (مجاملي المديرين) قد يمثلون تهديدًا مُستدامًا؛ فولائهم مرتبط بالشخص لا بالمؤسسة، ما يحد من الشفافية ويضعف الثقة داخل الفرق، وفي النهاية قد يعيق النمو الحقيقي للمؤسسة. أم "الوصوليين" صعود على أكتاف الآخرين، هو ذلك الشخص الذي يتسلق السلم الوظيفي على حساب غيره، عبر استغلال علاقاته أو تشويه الآخرين أو الاستحواذ على جهودهم، الوصولية ليست مجرد سلوك فردي، بل نتاج بيئة تسمح بالتحايل على النظام وتكافئ النتائج على حساب الأخلاق، وتُبين دراسة في Journal of Organizational Behavior عام 2020 أن شعور الموظفين بوجود سلوكيات وصولية غير منصفة يهدد العدالة التنظيمية، وتضعف ثقتهم في نظام التقييم داخل المؤسسة؛ مما يُصيب المجتهدين بالإحباط، ويُضعف الحافز على التطوير ويفقدهم الدافعية في العمل . بينما "العصافير" ناقلو الكلام والمراقبون السريون، مصطلح شائع يُطلق على الموظفين الذين يتجسسون على زملائهم وينقلون الأخبار للإدارة، ورغم أن بعض المديرين يرونهم وسيلة للسيطرة لا لتطوير بيئة العمل، فإن الواقع يقول إن اعتماد الإدارة على هذا النمط يُضعف الحوار، ويُشيع الخوف، ويزرع الشك بين الزملاء ويهدم الثقة، أساس أي فريق ناجح.، وقد أظهرت دراسة "السلوك غير الأخلاقي في مكان العمل عام (2017) في Journal of Business Ethics، أن الاعتماد على "قنوات غير رسمية للمعلومات" ونقل الشائعات يُشعر العاملين بالتهديد وعدم الأمان؛ مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات دوران الموظفين وضعف الثقة، ويعد خطرًا على المُناخ الأخلاقي للمنظمة . إن سلوكيات الأفراد الانتهازيين، سواء كانت تملقًا للمدير أو وصولية على حساب الزملاء، لا تقف عند حدود الضرر الفردي، بل هي جزء من ظاهرة أوسع تُعرف ب "بيئة العمل السامة"، حيث تشير الأبحاث في هذا الإطار إلى أن بيئات العمل التي تنتشر فيها السلوكيات السامة، مثل النفاق الوظيفي، والتسلق غير الشرعي، ونقل الشائعات؛ تؤدي إلى انخفاض ملحوظ في جودة القرارات، وتدهور مستوى الثقة بين العاملين، كما تتراجع مؤشرات الأداء والإبداع، لأن الطاقة الذهنية تُهدر في حماية النفس، بدلًا من تحسين العمل، وقد أظهرت دراسة نشرتها Harvard Business School عام 2016 أن الموظف السلبي الواحد قد يكلف المؤسسة أكثر من الموظف المتميز، ليس بسبب قلة إنتاجه، بل بسبب تأثيره العدوى على الآخرين . ما الذي يمكن أن تفعله الإدارة الآن؟ تُجمع الأدبيات الإدارية الحديثة على أن القيادة العادلة والشفافة هي السلاح الأقوى لمواجهة السلوكيات السامة؛ فالإدارة القائمة على معايير واضحة في التقييم والترقية، وعلى تواصل مفتوح، وعلى محاسبة عادلة للسلوكيات غير المهنية، يمكنها تحويل ثقافة المؤسسة بالكامل، الإدارة الفعالة هي تلك التي تُنشئ ثقافة واضحة ترفض السلوكيات السامة، وتضع معايير للأداء لا يمكن تجاوزها، وتضمن قنوات اتصال تحترم الموظفين وتعزز مشاركتهم، وهذا ما أوصت به منظمة العمل الدولية (ILO) عام 2023 بضرورة "تعزيز العدالة التنظيمية وتطوير ثقافة الثقة" بوصفها حجر أساس في أي بيئة عمل تسعى إلى تحقيق إنتاجية مُستدامة . إن بيئة العمل ليست مجرد مساحة لتبادل المهام، بل منظومة تُصنع فيها القيم، ويُبنى فيها الانتماء، وتتحدد عبرها ملامح مستقبل المؤسسة. ولهذا، فإن السماح للسلوكيات السامة؛ كالطبللة، والوصولية، ونقل الكلام داخل المؤسسات، ليس مجرد خلل إداري، بل خطر إستراتيجي يهدد العدالة والدافعية والابتكار على المدى الطويل . بيئة العمل الصحية لا تُبنى على الخوف أو التملق؛ فالإنتاجية والابتكار لا تزدهر في بيئة يغيب عنها الإنصاف وتغيب فيها المعايير المهنية، وحدها الإدارة الواعية القادرة على وضع معايير شفافة، وتشجيع ثقافة الاحترام، وتمكين الموظفين، هي التي تستطيع تحويل بيئة العمل من "نظام نجاة فردي" إلى "منظومة نجاح جماعي"؛ فالمؤسسات التي تحترم الإنسان، تبقى . لكل مؤسسة أن تختار طريقها، إما أن تبني بيئة عمل قائمة على الشفافية والتقدير، أو تسمح بانزلاقها إلى مستنقع السلوكيات السامة، وشتان بين المؤسستين . كاتبة المقال: باحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة