تخيل أن تأتي إلى مكان عملك كل يوم لتواجه موجة من السلبية والتحقير من زميل لك، تخيل أن كل إنجاز تحققه يصبح هدفًا للتشكيك والتجريح، هذا واقع يعيشة الكثيرون من حولنا وفي مجتمعاتنا ، يتعرضون لحملات من التنمر النفسي من قبل زملاء لهم ، طعن في الظهر ، تقليل من النجاحات ، سخرية من الجهد والعطاء ، وربما تتطور الأمور لعراك وشتائم وسب وقذف. مواقف كهذه شائعة للأسف في بيئات العمل، وتؤثر سلبًا على طرفي المنظمة الموظفين والمنظمات، فبدلاً من أن يكون الزملاء سندًا لبعضهم البعض، نجد منهم من يتحولون إلى مصدر للتوتر والضغط النفسي، مما يؤثر على أدائهم وكفاءتهم، ويطلق الباحثين في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد على هذا النوع من الأشخاص اسم الموظفين السامين. حيث تتنوع أسباب السلوك السام، ولكن بشكل عام يمكن تلخيصها في العوامل التالية، وجود خلافات شخصية بين الموظفين، مما يؤدي إلى التنافس السلبي والثرثرة، كما أن الشعور بالغيرة من نجاح الآخرين يدفع بعض الموظفين إلى التصرف بشكل سلبي، هذا بالإضافة إلى غياب التعاون والعمل الجماعي داخل المنظمة، مما يضعف الأداء العام، وقد توصلت البحوث الاجتماعية أن هناك أشخاص بطبيعتهم يميلون إلى السلوك العدواني أو السلبي بشكل عام، بغض النظر عن بيئة العمل. كما أن سلوكيات الزميل السام قد تتسم بالتشويه المُتعمد للأعمال، ونشر الشائعات الكاذبة، والتلاعب بالمعلومات، إن مثل هذه السلوكيات السامة لا تؤثر فقط على صحة النفسية للموظف، بل تخلق جوًا من التوتر والقلق في مكان العمل بأكمله، حيث أكدت الدراسات العلمية في أدبيات العلوم الإدارية، أن التنمر والتحرش النفسي في مكان العمل ليسا مجرد مشكلة شخصية، بل هما تهديد حقيقي لإنتاجية المنظمة وسمعتها، فعندما يشعر الموظفون بعدم الأمان والاحترام، فإنهم يفقدون الدافع للعمل بٍجد ويصبحون أكثر عرضة للإرهاق والاكتئاب، هذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع معدلات الغياب والتسرب، وتدهور جودة العمل. وقد أظهرت دراسة استقصائية موسعة قامت بها جامعة هارفارد شملت أكثر من 50000 موظف في 11 شركة، أن الموظفين السامين لديهم جميعًا قاسمًا مشتركًا، هو أنهم يميلون في المتوسط إلى أن يكونوا أكثر إنتاجية، كما وجدت أن الموظفين السامين يميلون إلى أن يكونوا أكثر أنانية من الموظف العادي، ويميلون إلى أن يكونوا أكثر ثقة بالنفس، هذا بالإضافة إلى إنهم دائمًا ما يعلنون عن التزامهم بالقواعد التنظيمية والأخلاقية. والسؤال الذي يطرح نفسه، بعد أن استعرضنا الآثار المدمرة للزملاء السامين على بيئة العمل، كيف يمكننا مًواجهة هذه المشكلة؟ إن التعامل مع زميل سام يًمثل تحديًا كبيرًا، فلا يمكن مقارنة العمل مع شخص قد لا تتوافق معه في بيئة العمل، بالمقارنة في التعامل مع زميل سام؛ فوجود زميل سام في مكان العمل يشبه وجود سم في جسد، قد يبدو الأمر بسيط في البداية، لكنه ينتشر بسرعة ويؤثر على الجميع، مشكلة الزملاء السامين تتجاوز حدود مكان العمل، إنها تعكس مشكلة أوسع في مجتمعنا، وهي مشكلة التعامل مع الاختلافات والتعايش السلمي، عندما نتعلم كيفية بناء علاقات صحية في العمل، فإننا نكون قد خطونا خُطوة مهمة نحو بناء مجتمع أفضل. حيث تتطلب إدارة السلوك السام في مكان العمل نهجًا متكاملًا، ففي كثير من الحالات، يكون الأشخاص السامون غافلين عن تأثيرهم على الآخرين، كما أنهم في معظم الأوقات لا يدرك هؤلاء الموظفين أنهم مُدمرون، فهم يركزون أكثر على سلوكهم واحتياجاتهم الخاصة، لهذا السبب من المهم إعطاء ملاحظات مباشرة وصريحة حتى يفهموا المشكلة ويتاح لهم الفرصة للتغيير. كما أن الحل لا يكمن فقط في توعية الموظفين بأضرار السلوك السام، بل يتطلب أيضًا تدخلًا من الإدارة لتوفير بيئة عمل صحية وآمنة، وتلعب المنظمة دورًا محوريًا في معالجة هذه المسألة، من خلال تنظيم ورش عمل توعوية، حول أهمية الاحترام والتعاون، بالإضافة إلى تطبيق سياسات صارمة تضمن بيئة عمل صحية، وذلك من أجل تحقيق أقصى استفادة من قدرات موظفيها، وبناء ثقافة عمل قائمة على الثقة والاحترام المتبادل؛ حيث تهدف هذه الثقافة إلى تعزيز التعاون والصداقة بين الأفراد، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والإبداع، وتحسين الأداء العام للمنظمة. ومن جانب آخر، يتطلب التعامل مع الزملاء السامين اتباع إستراتيجيات فردية حكيمة، ومنها وضع حدود واضحة في التعامل معهم، وتجنب الانزلاق في صراعات غير مُجدية، كما أن البحث عن دعم زملاء موثوق بهم يمكن أن يخفف من الأثر السلبي لهذه العلاقات، وفي حال استمرار المشكلة وعدم جدوى الحلول قد يكون الخيار الأفضل هو البحث عن بيئة عمل أكثر صحية. وفي الختام، يمكن القول أن السلوك السام ليس مقبولًا بأي شكل من الأشكال، يجب على جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الإدارة والموظفين العمل معًا لحل المشكلة؛ فبيئة العمل الصحية هي حق لكل موظف، وهي ضرورية لتحقيق النجاح المهني والشخصي، دعونا نعمل جميعًا على بناء بيئات عمل تعتمد على الاحترام المتبادل والتعاون، حيث يشعر الجميع بأنهم جزء من فريق واحد؛ لنجعل عملنا مصدرًا للسعادة والإنجاز. كاتبة المقال: باحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة.