تخيل أنك تبذل قصارى جهدك لتحقيق مشروع طموح، وبعد أشهر من العمل الشاق، تحقق نجاحًا باهرًا، ولكن بدلاً من الاحتفال بإنجازك، تجد نفسك محاطًا بأجواء من الغيرة والحسد من زملائك، هذا السيناريو، للأسف، ليس بعيدًا عن الواقع في العديد من بيئات العمل، فالحسد، هذه العاطفة السلبية المدمرة، تستطيع أن تتحول إلى سلاح فتاك يقوض الإنتاجية ويُسمم العلاقات بين الزملاء، ويحول بيئة العمل إلى ساحة حرب. ولا يمكن إنكار أن الحسد يشكل تهديدًا جسيمًا لبيئة العمل الإيجابية، لذلك، في هذا المقال، سنتناول أبعاد هذه المشكلة المُعقدة، وكيف تؤثر على الأفراد والمنظمات، وكيف يمكننا مُعالجتها. لنأخذ على سبيل المثال، تجربة صديقتي التي كانت تتمتع بعلاقة عمل مثالية مع مديرها، حيث كان يثني على أدائها في العمل ويشجعها على المزيد من تقديم الأفكار التي تُساهم في تطوير العمل، كما أن زميلاتي كانت تُشيد بمهارات مديرها القيادية، ولكن بدأت هذه العلاقة الودية تتآكل عندما أبدت إحدى زميلاتها حسدًا واضحًا على هذه العلاقة، قائلة: "يبختك بمدير يقدر جهودك ويستمع لمقترحاتك"، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قامت الزميلة الحاسدة بنشر الشائعات بينهما، مما أدى إلى تدهور العلاقة بشكل كبير، لم تتخيل صديقتي أن هذا الشعور البسيط بالحسد يمكن أن يدمر علاقتها بمديرها ويجعلها تفكر في ترك عملها. هذه القصة، وإن بدت شائعة، إلا أنها توضح كيف يمكن للحسد أن يتسلل إلى بيئة العمل ويؤثر سلبًا على مساراتنا المهنية، الحسد، هذا الشعور الخفي المدمر، يستطيع أن يحول بيئة العمل الهادئة إلى ساحة صراع؛ فبسبب طبيعته الخبيثة، يؤدي إلى تدهور العلاقات بين الزملاء ويفشل في تحقيق أهداف المنظمة. ويعرف الباحثين الحسد، بأنه ظاهرة إنسانية طبيعية تظهر في مقارنة الذات بالآخرين، ورغبة الإنسان في امتلاك ما يملكه الآخرون، وقد ينبع الحسد من شعور عميق بعدم الأمان، حيث يحاول الفرد تقليل قيمة الآخرين ليرفع من شأنه، وفي سياق العمل، حيث تتنافس الأفراد على الموارد والمكانة، يصبح الحسد أكثر وضوحًا، فالمقارنة المستمرة بين الإنجازات والمرتبات قد تحول التنافس الصحي إلى صراع سلبي، مما يؤدي إلى تدهور العلاقات بين الزملاء ويهدم روح الفريق. وبينما يدفع التنافس البناء الموظفين إلى آفاق جديدة من الإبداع والابتكار، يُشكل الحسد عائقًا يحول دون تقدمهم، فبدلًا من السعي إلى التميز، ينشغل الحاسدون بهدم نجاحات زملائهم، مما يؤثر سلبًا على أداء المنظمة ككل. وعلى الرغم من حداثة اهتمام الباحثين بالحسد في إطار السلوك التنظيمي، إلا أن آثاره السلبية واضحة للجميع، فالحسد يشجع على ظهور سلوكيات غير مرغوبة، مثل الغيبة، والنميمة، وإشعال الفتن، مما يؤدي يهدد بيئة العمل الإيجابية. ويعود انتشار الحسد في بيئة العمل إلى عدة عوامل مُتداخلة، أبرزها المقارنات المستمرة بين الزملاء والضغوط الوظيفية التي قد تحفز الشعور بالحرمان، بالإضافة إلى عدم التوزيع العدال من جانب المنظمة للمهام والحوافز، وغالبًا ما تتفاقم هذه المشكلة بسبب المقارنة المباشرة للإنجازات والرواتب، مما يحول التنافس الشريف إلى صراع سلبي يؤثر على العلاقات بين الزملاء ويضعف روح الفريق والعمل الجماعي، وبالتالي ينعكس سلبًا على أداء المنظمة. وعلى الرغم من اقتصار اهتمام الباحثين في مجال السلوك التنظيمي على الحسد وتأثيراته السلبية، إلا أنهم قدموا في السنوات الأخيرة مفهومًا جديدًا للحسد التنظيمي يخلو من الجوانب الخبيثة، ويرتكز على جانب التحفيزي أطلق عليه "الحسد الوديع "، حيث يؤكد على تحفيز الجوانب الايجابية والتي تنشأ نتيجة الأعجاب مع الرغبة بالمضاهاة للمحسود. كما توصلت الدراسات العملية إلى عدة طرق لتجاوز آثار الحسد السلبية على بيئة العمل، وذلك من خلال اتباع عدة إستراتيجيات، منها، أنه يجب على الأفراد العمل على تطوير ثقتهم بأنفسهم وقبول قدراتهم، فالثقة بالنفس تقلل من الشعور بالنقص الذي هو أساس الحسد. ويمكن للقيادات فتح قنوات للتواصل بين الموظفين تشجع على تبادل المعرفة والخبرات بين الموظفين، وتقديم الدعم اللازم للتغلب على مشاعر الحسد، مما يخلق جوًا من التعاون والتكامل بدلًا من التنافس. كما يجب على المنظمات أن تتبنى إستراتيجيات شاملة لمكافحة هذه الظاهرة السلبية، وأن تُساهم في خلق بيئة عمل إيجابية تشجع التعاون والتنافس الشريف، وذلك من خلال تنظيم برامج تدريبية تهدف إلى بناء مهارات التواصل والعمل الجماعي، كما يمكن للمنظمات أن تعزز مفهوم العدالة في توزيع الموارد والمكافآت، أو وضع سياسات شفافة لتقييم الأداء، مما يقلل من الشعور بالظلم الذي قد يؤدي إلى الحسد. كما يجب على المنظمات بناء ثقافة تنظيمية قائمة على التقدير المتبادل والاحترام، وتنفيذ برامج تدريبية مُتخصصة لتطوير المهارات الشخصية والاجتماعية، وتوفير فرص متساوية للجميع، والاحتفاء بالنجاحات الجماعية والفردية، وكلها عناصر أساسية في هذه الإستراتيجية، من خلال هذه الجهود المُتكاملة، يمكننا تحويل مكان العمل إلى بيئة مُحفزة للإبداع والابتكار، حيث يُساهم الجميع في تحقيق أهداف المنظمة ورفاهية الموظفين. في الختام، يمثل الحسد تحديًا حقيقيًا لبيئة العمل، ولكنه ليس مشكلة مستعصية على الحل، من خلال فهم أسباب الحسد وتأثيراته السلبية، يمكننا اتخاذ خُطوات فعالة لمكافحته، يجب على الأفراد والمنظمات أن تعمل معًا لبناء بيئة عمل تعتمد على الثقة والاحترام والتعاون، حيث يشعر الجميع بأنهم جزء من فريق واحد يسعى لتحقيق هدف مشترك؛ فبالتكاتف والعمل الجاد، يمكننا تحويل بيئات العمل إلى أماكن إيجابية ومحفزة للإبداع والابتكار. كاتبة المقال : باحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة