ونحن الآن فى سنة اولى ذكاء اصطناعى، من الصعب أن تفرق بين الأخبار الحقيقية والكاذبة، ولا بين الصور والفيديوهات الصحيحة والمزيفة.. فما بالنا بسنوات الرعب القادمة، عندما يصبح الذكاء الاصطناعى سلاحا فى يد من يسيئون استخدامه؟ وبدأ الذكاء الاصطناعى بالفعل يجرى تجارب اولية لإثارة الفتن والغضب وحشد الناس للمجهول.. والسؤال: كيف تحمى وسائل الإعلام الرأي العام من أكاذيب الذكاء الاصطناعى؟ هذه التحذيرات ليست من عندى، ولكن نبه إليها الخبير العالمى جيفرى هنتون «أبو الذكاء الاصطناعى» الرجل الذى أسهم فى بناء هذه التكنولوجيا والفائز بجائزة نوبل العام الماضى، ويؤكد أنها قد تنتج «كائنات رقمية» تتجاوز قدرات البشر، أو تُستخدم لصناعة فيروسات رقمية وأسلحة مستقلة القرار، والأخطر هو قدرتها على خلق «عزلة فكرية» عبر تغذية كل مستخدم بفقاعة محتوى ضيقة لا يرى فيها إلا ما يريد أن يرى.. والمشهد اليومى على منصات مثل «تيك توك» مثال حي: الخوارزميات لا تقيس القيم، بل تقيس التفاعل، وتروّج للمحتوى الذى يجذب الجمهور، حتى لو كان مبتذلًا أو مضللًا، ويتحول التافهون إلى نجوم، بينما يُهمَّش المحتوى الجاد وتُعاد برمجة وعى المجتمعات من الداخل. نحن فى عصر سرعة تداول الأخبار، وتضاعفت معها أخطاء البشر والآلات، ولم يعد كافيًا أن يعتمد الصحفى على مصدر واحد، بل أصبح التحقق من أساسيات العمل، ومقارنة الخبر مع وكالات الأنباء والبيانات الرسمية وتصريحات الجهات المسئولة والمنصات الرقمية المعتمدة، واللجوء إلى سجلات البيانات المفتوحة لكشف التناقضات وتحديد الحقائق. ولم يعد التدقيق مقتصرًا على النصوص، بل امتد إلى أدوات متقدمة لكشف المحتوى المزيّف، مثل تحليل البصمة الرقمية وفحص بيانات الصورة، وبرامج كشف التزييف والبحث العكسى، وهذه الأدوات لا تضمن تدقيقا كاملا، لكنها توفر مؤشرًا قويًا يساعد الصحفى على اتخاذ قرار مهني صحيح. غرف الأخبار الحديثة تحتاج فرقًا مدرَّبة على فهم كيفية إنتاج النماذج اللغوية للنصوص، وكيف يمكن للصور والفيديوهات أن تبدو طبيعية رغم احتوائها على أخطاء دقيقة، وكيف يمكن للشات بوتس أن «تخترع» معلومات غير حقيقية. والصحافة ليس امامها إلا اللحاق بالقطار السريع، بتدريب جيل من الباحثين القادرين على تحليل السياق السياسى والاجتماعى للخبر.. وتطوير مناهج أكاديمية جديدة تُنشئ «مدقق سلامة الذكاء الاصطناعى» بوصفه وظيفة المستقبل. الإنسان هو صانع الآلة ولن تُلغى الآلة دوره، وسيظل الصحفى «الضمير الحى للذكاء الاصطناعى» والحارس على القيم والمبادئ، وسط توحش الخوارزميات، وظائف ستختفي وأخرى ستولد مثل مهندسى خوارزميات المحتوى، ومحلل بيانات الجمهور، ومراقب أخلاقيات الذكاء الاصطناعى. مخطئ من يتصور أنه يستطيع حجب المعلومات او الرقابة المطلقة، والمواجهة تكون بالوعى القادر على التمييز، وقانون صارم يردع التلاعب.. السؤال الآن ليس: هل نستطيع إيقاف الذكاء الاصطناعى؟ ولكن: هل نملك الوعى لاستخدامه دون أن يستخدمنا؟ .. والجواب يبدأ من إعلام يعرف كيف يواجه الأكاذيب، وكيف يصنع الحقائق؟