في قلب الجيزة، حيث تتقاطع ظلال الأهرامات مع وهج الشمس، يقف المتحف المصري الكبير (GEM) شامخًا كأحدث معجزات مصر الثقافية، لكنه لا يكتفي بعرض ماضي الفراعنة، بل يعيد بعث التاريخ بروح المستقبل، مستخدمًا أحدث تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز والهولوجرام. إنه ليس مجرد متحف، بل مختبر حضاريّ يجمع بين عبقرية الأجداد وابتكار الأبناء، وبين الحكاية الفرعونية القديمة ولغة التكنولوجيا الحديثة، ليجعل من زيارة المتحف تجربة تفاعلية تغمر الزائر حسًّا ومعنى، وتشعل فيه دهشة لا تُنسى. أوضح الدكتور محمود حامد الحصري، أستاذ الآثار واللغة المصرية القديمة المساعد بجامعة الوادي الجديد، في تصريحات خاصة ل"بوابة أخبار اليوم"، أن المتحف الكبير يمثّل جسرًا رقمياً بين الماضي والمستقبل، حيث لم تعد التكنولوجيا مجرد وسيلة مساعدة، بل أصبحت لغة جديدة لسرد التاريخ المصري بأسلوب معاصر يجذب العقول والقلوب معًا. المتحف المصري الكبير.. رؤية جديدة لمفهوم المتحف العالمي يقف المتحف المصري الكبير، المطل على أهرامات الجيزة، كأحد أكبر المشروعات الثقافية في القرن الحادي والعشرين، فهو لا يسعى فقط لاحتضان كنوز مصر القديمة، بل لتقديمها عبر عدسة المستقبل الرقمي. يعتمد المتحف على منظومة من التقنيات الحديثة، أبرزها الواقع الافتراضي (VR)، والواقع المعزز (AR)، لتغيير الطريقة التي يتفاعل بها الزائر مع التاريخ، من مجرد المشاهدة إلى المعايشة الفعلية. ويؤكد الدكتور الحصري أن هذه الرؤية "تجعل من المتحف المصري الكبير متحفًا يتحدث لغة الأجيال الجديدة، ويدمج التراث الإنساني بالابتكار التكنولوجي، ليبقى حيًا ومتجددًا مهما تغيّر الزمن". - الواقع المعزز (AR).. عندما يُضاف بُعد جديد إلى الحقيقة تقنية الواقع المعزز تمثل البوابة الأولى التي يدخل منها الزائر إلى العالم الرقمي داخل المتحف، فمن خلال تطبيقات ذكية يمكن تثبيتها على الهواتف أو الأجهزة اللوحية المخصصة، يُوجّه الزائر كاميرته نحو قطعة أثرية ليُفاجأ بظهور طبقات رقمية إضافية صور، رسوم متحركة، معلومات تفاعلية، ونصوص هيروغليفية مترجمة تُعرض في الزمن الحقيقي على شاشة جهازه. - أبرز استخدامات الواقع المعزز في المتحف المصري الكبير: 1- الترميم الافتراضي: باستخدام تقنيات AR، يمكن للزائر رؤية القطع الأثرية كما كانت في أصلها قبل آلاف السنين، فتمثال فقد رأسه أو لونه يُعاد ترميمه رقميًا بدقة علمية مذهلة، تُعيد له هيبته الأولى، بذلك، لا يعود الزائر متفرجًا على ما تبقى من الأثر، بل شاهدًا على اكتمال جماله. 2- سياق القطعة الأثرية: بمجرد توجيه الكاميرا نحو تمثال أو بردية، تظهر أمام الزائر مشاهد ثلاثية الأبعاد توضح كيفية استخدام القطعة أو مكانها في الحياة اليومية الفرعونية، تظهر الكهنة وهم يستخدمون الأواني المقدسة، أو الفنانون وهم يرسمون جدران المعابد، هذا الأسلوب يحوّل القطعة من "شيء صامت" إلى كائن حي يروي قصته. 3- التفاعل الحي مع الزوار: تسمح تقنيات AR بتخصيص التجربة حسب الفئة العمرية أو الاهتمام العلمي للزائر، فمثلاً يمكن للطفل أن يشاهد عرضًا مبسطًا ملونًا، بينما يرى الباحث المعلومات الدقيقة والمخططات الهندسية. ويضيف الدكتور الحصري: "الواقع المعزز لا يُثري فقط تجربة الزيارة، بل يفتح بابًا جديدًا لتعليم التاريخ بأسلوب ممتع، ويجعل من المتحف كتابًا حيًا يمكن تصفحه بالعين والحركة، لا بالأوراق" . - الواقع الافتراضي (VR).. آلة الزمن الرقمية أما تقنية الواقع الافتراضي فهي التجربة الأكثر انغماسًا وإثارة في المتحف الكبير، باستخدام نظارات VR، يُنقل الزائر من عالم العرض الواقعي إلى بيئة رقمية ثلاثية الأبعاد تحاكي بدقة العصور الفرعونية، يجد نفسه داخل مقبرة الملك توت عنخ آمون كما كانت يوم اكتشافها عام 1922، يرى تفاصيل الحوائط المزخرفة، يسمع أصوات أدوات الحفر، ويشاهد لحظة رفع الصندوق الذهبي لأول مرة. أبرز تطبيقات الواقع الافتراضي داخل المتحف: الجولات الافتراضية 360°: يمكن للزوار حول العالم القيام بجولات رقمية داخل المتحف دون أن يغادورا منازلهم، مع إمكانية التفاعل مع المرشدين الأثريين في الوقت الفعلي، هذه الميزة جعلت المتحف الكبير أول متحف مصري يتيح التجول الرقمي الكامل. تجارب محاكاة الحياة اليومية الفرعونية: الزائر يمكنه "العيش" في مشهد من الأسواق القديمة أو المعابد الملكية، أو حضور مراسم تتويج أحد الملوك. إنها تجربة تجعل التاريخ قصة يُعاش فيها لا تُقرأ فقط. تعليم وتدريب الأثريين: تُستخدم تقنيات VR أيضًا في تدريب طلاب الآثار والمرشدين على التعامل مع القطع النادرة دون لمسها، ما يحافظ على التراث ويطوّر مناهج التعليم الأثري. يقول الدكتور الحصري: "الواقع الافتراضي هو امتداد للخيال العلمي الذي أصبح واقعًا، حيث يعيش الزائر في الزمن الفرعوني كما لو كان أحد سكانه". - تقنية الهولوجرام.. حين يعود الملوك للحياة من أكثر التقنيات سحرًا في المتحف المصري الكبير الهولوغرام (Hologram) الإسقاط الضوئي ثلاثي الأبعاد الذي يجعل الصورة تبدو حقيقية تتحرك في الهواء، وقد تم توظيفها لإحياء شخصيات الملوك والملكات المصريين القدماء بطريقة مبهر. تخيّل أن تدخل قاعة العرض فيستقبلك الملك توت عنخ آمون وهو يروي لك بنفسه قصة اكتشاف مقبرته، أو أن تظهر أمامك الملكة حتشبسوت وهي تتحدث عن رحلتها التجارية إلى بلاد بونت، هذا النوع من العروض لا يقدم فقط المعلومات، بل يعيد الحياة إلى التاريخ بطريقة تفاعلية مؤثرة. استخدامات الهولوجرام داخل المتحف: عروض تفاعلية للزوار: في القاعات الكبرى، يستخدم المتحف عروض الهولوجرام لتقديم مشاهد أسطورية مثل المعارك أو طقوس التحنيط، هذه العروض تجمع بين الدراما الفنية والحقائق العلمية، فتثير الخيال وتغذي المعرفة. المرشد الذكي ثلاثي الأبعاد: يمكن للهولوجرام أن يعمل ك"مرشد رقمي" يتحدث مع الزائر، يجيب عن أسئلته، ويوجهه في جولته داخل المتحف، هذا النوع من التفاعل يعيد تعريف مفهوم "الزيارة المتحفية"، ليجعلها رحلة تعليمية شخصية. العروض الليلية الكبرى: في المساحات المفتوحة والدرج العظيم، تُستخدم الهولوجرامات لخلق عروض ضوئية مذهلة تربط بين التماثيل العملاقة والقصص التاريخية التي تجسّدها، فتتحول الزيارة إلى تجربة فنية متكاملة. - الرقمنة والتراث.. من الحفظ إلى المشاركة يتكامل استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز والهولوجرام مع مشروع الرقمنة الشامل الذي يتبناه المتحف الكبير، فكل قطعة أثرية يتم توثيقها رقمياً بتقنية المسح ثلاثي الأبعاد (3D Scanning) لضمان حفظها رقمياً للأجيال المقبلة، ولتكون متاحة للباحثين حول العالم عبر منصات رقمية. بهذا يصبح المتحف المصري الكبير ليس فقط مكانًا للعرض، بل مركزًا عالميًا للبحث والتوثيق والحفظ الرقمي، يواكب الاتجاهات الحديثة في إدارة التراث الثقافي. - تجربة الزائر.. رحلة متعددة الحواس ما يميز المتحف المصري الكبير هو أن التجربة فيه تخاطب الحواس الخمس. فالمؤثرات الصوتية والمرئية والضوئية تُصمم بعناية لتخلق حالة وجدانية تربط الزائر بالمكان. يمكن سماع أصوات خطوات الكهنة، أو همسات الملوك، أو أصوات الحفر في وادي الملوك، بينما تحيط بك الإضاءات التي تعكس تدرجات الفجر فوق المعابد القديمة. هذه التفاصيل الدقيقة تجعل المتحف أكثر من مجرد صالة عرض، بل عالمًا متكاملاً من التجربة الإنسانية. - التكنولوجيا في خدمة الهوية المصرية في النهاية، لا تُستخدم التكنولوجيا هنا لمجرد الإبهار، بل كوسيلة لخدمة القيمة الجوهرية للحضارة المصرية: الخلود. فالواقع الافتراضي والمعزز والهولوغرام جميعها أدوات لإبقاء روح التاريخ حيّة في الوجدان المعاصر. إنها تجسد فلسفة المتحف المصري الكبير: "أن نحفظ الماضي لا بوضعه خلف الزجاج، بل بإدخاله في وجدان الحاضر." ويختتم الدكتور الحصري حديثه قائلاً: "الواقع الافتراضي والمعزز في المتحف المصري الكبير ليس مجرد تطور تقني، بل هو ثورة فكرية في كيفية التواصل مع التراث، فالتاريخ لا يُعرض فقط، بل يُعاد خلقه بطريقة تجعل كل زائر شريكًا في سرده" . بهذا المزج المذهل بين الحضارة والتكنولوجيا، يُثبت المتحف المصري الكبير أن مصر لا تنقل ماضيها إلى المستقبل فحسب، بل تصنع مستقبلًا يُعيد تعريف الماضي. في كل خطوة داخل أروقته، يشعر الزائر أن الفراعنة لم يغيبوا، بل عادوا ليرشدوا الأجيال القادمة بلغتهم الجديدة لغة العلم والابتكار. فالمتحف المصري الكبير ليس مجرد معبد للآثار، بل مسرح تفاعلي للتاريخ الإنساني، يعلن أن حضارة مصر القديمة، التي ألهمت العالم قديمًا، ما زالت قادرة اليوم على إبهار العالم من جديد، ولكن هذه المرة عبر شاشات ثلاثية الأبعاد وفضاءات افتراضية لا تعرف حدودًا.