أول المكتسبات التى تحققت من قمة شرم الشيخ للسلام يتمثل فى سقوط أسطورة «فرض السلام بالقوة» التى طالما روجت لها أبواق العنف والتطرف فى تل أبيب، فكل تلك الترسانة العسكرية والتكنولوجية الهائلة، عجزت جميعًا عن إخراج أسرى إسرائيل أحياء أو أمواتًا من القطاع، إلا باتفاق سياسى وتفاوض لثلاث مرات على مدى العامين. ولا يعترف التحليل السياسى بالأمنيات والأغراض الشخصية، فالتحليل السياسى الجاد والاحترافى يعتمد على تقييم موضوعى للنتائج وقراءة واقعية لنقاط القوة والضعف. وأعتقد أن أى تحليل منصف لوقائع ما جرى فى قمة شرم الشيخ للسلام لا بد أن يتوقف طويلًا بالدراسة والفهم أمام قيمة وعمق المُكتسبات التى تحققت خلال تلك القمة الاستثنائية فى كل شىء بداية من ترتيبات انعقادها، مرورًا بوقائع المشاركة فيها ومخرجاتها، وصولًا إلى استبصار ما يمكن أن تقود إليه. ودون مبالغة أو تهويل فى حجم وقيمة ما تحقق، أقول إن مجمل نتائج تلك القمة كان عظيمًا وسيكون أعظم إذا ما استمرّت الإرادة الإقليمية والدولية التى عكستها مجريات قمة شرم الشيخ فى الحفاظ على المسار الذى أرسته القمة، والبناء على ما تحقق لبناء مستقبل مختلف لمنطقة لم تعد تحتمل مزيدًا من الويلات. ■ ■ ■ كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال القمة عكست المسار المأمول ووضعت خارطة الطريق الواجب السير فيها كى نتجنب مآسى الحروب المدمرة مجددًا. كلمات الرئيس مكتوبة بحروف من ذهب، وصادرة من عقل وقلب قائد يليق بمصر، وزعيم قادر على طرح رؤية وقيادة عمل أنقذتا المنطقة والعالم من مصير أسود كانت كل المؤشرات تؤكد أن المنطقة سائرة إليه لو تواصل نهج الاستعلاء بالقوة والغطرسة الإسرائيلية. أكد الرئيس السيسى على ضرورة بناء فرصة جديدة للحياة، وجعل حرب غزة آخر الحروب فى الشرق الأوسط عبر التزام صارم بتجنب الحلول العسكرية وسيلة لحسم النزاعات، وإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، وبناء مستقبل يعتمد على العدالة والمساواة لكل شعوب المنطقة، فالسلام «لا تصنعه الحكومات وحدها، بل تبنيه الشعوب حين تتيقن أن خصوم الأمس يمكن أن يصبحوا شركاء الغد». كما أظهر الرئيس السيسى الوجه الحقيقى للقيادة وهو يؤكد أن «القيادة الحقيقية ليست فى شن الحروب، وإنما فى القدرة على إنهائها».. نعم فبناء السلام قد يكون أصعب ألف مرة من إشعال الحرب. ■ ■ ■ هذه الرؤية الصادقة التى طرحها الرئيس السيسى تعكس بالفعل رغبة عارمة لدى شعوب المنطقة لتجاوز تداعيات الظلم التاريخى الذى تعرض له الشعب الفلسطينى ولا يزال على يد احتلال جرب كل الوسائل لتحقيق أهدافه العبثية، لكنه لم يجرب أبدًا أن ينخرط بصدق وجدية فى طريق يقود إلى سلام حقيقى مع شعوب المنطقة، ولا أعتقد أنه سيتخلى بسهولة عن عقلية الهيمنة والاستيطان مادام الفكر اليمينى المتطرف مهيمنًا على عقل الدولة فى تل أبيب. أول المكتسبات التى تحققت من قمة شرم الشيخ للسلام يتمثل فى سقوط أسطورة «فرض السلام بالقوة» التى طالما روجت لها أبواق العنف والتطرف فى تل أبيب، فكل تلك الترسانة العسكرية والتكنولوجية الهائلة، والدعم غير المسبوق من عدة دول تتقدمها أقوى دولة عسكريًا فى العالم وهى الولاياتالمتحدة عجزت جميعًا عن إخراج أسرى إسرائيل أحياء أو أمواتًا من القطاع إلا باتفاق سياسى وتفاوض لثلاث مرات على مدى العامين. القوة إذن لا تفلح دائمًا ولا تصنع حقًا، ولا تفرض شرعية. نعم قد تمنح القوة صاحبها تفوقًا مؤقتًا، لكنه سيبقى أسير خوفه من فقدان تلك القوة، وعبدًا لهلعه من أن يمتلك غيره قوة أكبر تهدد وجوده، وهذا ما يعانيه الاحتلال اليوم وسيبقى مُحاصرًا بين الخوف والهلع مادامت عقلية الهيمنة تحكمه. ■ ■ ■ أفكار «إسرائيل الكبرى» وحلم التوسع على حساب 8 دول بالمنطقة، ومخططات تهجير الشعب الفلسطينى واقتلاعه من أرضه بإخلاء غزة وضم الضفة الغربية كلها سقطت على أعتاب شرم الشيخ. لا أقول إن تلك الأفكار انتهت إلى الأبد، فهى ستبقى حية فى عقول غلاة المتطرفين الصهاينة، لكن البيئة الإقليمية والدولية التى كانوا يراهنون على بقائها لتحويل تلك المخططات إلى واقع اختلفت تمامًا بعد قمة شرم الشيخ، وهو ما يُعد مكسبًا بحدّ ذاته. يضاف إلى ذلك أن وقف الحرب يُضعف من القدرة السياسية لبنيامين نتنياهو ومعسكره اليمينى المتطرف، فالرجل الذى كان يتحدث قبل أسابيع عن حلمه بتحقيق «إسرائيل الكبرى» بات الآن منشغلًا بمصيره السياسى والقضائى، وأبدى ارتياحًا لافتًا عندما التمس له الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى خطابه أمام الكنيست عفوًا رئاسيًا للنجاة من السجن جراء إدانته فى قضايا فساد! ■ ■ ■ مكاسب القضية الفلسطينية من قمة شرم الشيخ للسلام - فى تقديرى - هى الأهم، سواء للشعب الفلسطينى الصامد على أرضه والمناضل من أجل قضيته العادلة، أو للإقليم كله، فقد ازدادت القناعة بأن القضية الفلسطينية هى لب الصراع وجوهر عقدة الشرق الأوسط. وأدرك الجميع أن توارى الاهتمام بالقضية وحلها بشكل شامل وعادل، أو محاولات القفز على تلك القضية وصولًا لاتفاقات تطبيع لا تستند إلى أسس راسخة تدعم السلام وتؤدى إلى بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة، لن تقود إلى حلول مستدامة، بل ستظل المنطقة جراء ذلك مُحاصرة فى دوائر مفرغة من الصراع والتهدئة، ولن يجدى دفن الرءوس فى الرمال أو التهرب من تلك الحقيقة فى بناء مستقبل آمن ومستقر لجميع الأطراف. العودة إلى الاقتناع بمركزية القضية الفلسطينية، وإدراك أن أية حلول تتجاهل التعاطى الجاد والواقعى والعقلانى مع تلك القضية، أراه مكسبًا كبيرًا، فمن خلال تلك القناعة يمكن أن تتوافر إرادة إقليمية ودولية أكثر جدية تُفضى لحلول سياسية مختلفة عن كل ما عهدته المنطقة من قبل، وبدلًا من التهرب من الحقائق سيكون على الجميع مواجهتها والاعتراف بها، بل والبحث عن أفق يضمن أن تكون مأساة غزة بكل ما حملته من وجع وألم وأضرار لحقت بالجميع، سواء الذين انخرطوا فى الصراع أو الذين تضرروا جراء تداعياته، آخر حروب الشرق الأوسط. وجود السلطة الوطنية الفلسطينية فى قمة شرم الشيخ للسلام كان مكسبًا أيضًا، وأعتقد أن مصر وقفت بقوة وراء هذا الوجود ودعمته، وهى رسالة بالغة الدلالة على أهمية السير باتجاه الدولة، لنتجاوز حقبة الهيمنة الفصائلية فى التاريخ الفلسطينى، والتى ربما كانت تناسب عصرًا تجاوزه الزمن وواقع المنطقة والعالم، وبات على الجميع إيجاد أفق وأدوات مختلفة إذا ما أردنا أن نصل إلى نتائج مغايرة لما عهدنا طيلة العقود الماضية. التوافق أيضًا على ضرورة الحلول السلمية للصراعات، فى ظنى يفتح أفقًا نحو حلول واعدة تعتمد على تقبل التفاوض سبيلًا لحل النزاعات، وهو ما أراه نقطة انطلاق نحو تغيير تلك المواقف الجامدة سواء التى تبديها الإدارة الأمريكية بشأن حل الدولتين، أو تجاوز التعنت الإسرائيلى بشأن هذا الحل. فإذا اعتمد الجميع الحوار والتفاوض سبيلًا لبناء التفاهمات، فلا شىء مستحيل، والدليل أنه قبل أسابيع قليلة لم يكن لدى كثيرين أى تفاؤل بشأن وقف الحرب، لكن من رحم الظلمة الحالكة انبثق ضوء الأمل فى إنقاذ الشعب الفلسطينى من «محرقة نتنياهو»، ولاحت فرصة جديدة لما كان البعض يظنه مستحيلًا. ■ ■ ■ مكاسب مصر والمنطقة من ذلك اليوم الاستثنائى فى تاريخ الشرق الأوسط أكبر من أن تُحصى، وستتعاظم تلك المكاسب إذا ما تم الالتزام باتفاق شرم الشيخ، واستطعنا إنجاز مفاوضات المرحلتين الثانية والثالثة، وهما الأصعب والأدق بكل تأكيد. وأعلم جيدًا أن المساعى المصرية لا تستهدف مكاسب خاصة، بقدر ما تستهدف توفير حالة من الهدوء والاستقرار الإقليمى بما ينعكس إيجابًا على واقع المنطقة أمنيًا واقتصاديًا، وهو مصلحة للجميع وفى مقدمتهم بالطبع مصر، التى تعمل بدأب لاستكمال مشروعها الوطنى للبناء والعمران، والتى تحملت عبئًا كبيرًا ماديًا ومعنويًا طيلة العامين الماضيين، لكن ذلك لم يثنها عن مواصلة دورها الذى تؤمن به، ولم تتخل عن ثوابتها التى باتت أكثر رسوخًا وقادت الجميع إلى إنجاز لم يكن ليتحقق لولا مواقف القيادة المصرية وجدية العمل الاحترافى مع مختلف الأطراف، وصولًا إلى يوم الاثنين المشهود فى مدينة السلام.. شرم الشيخ. عودة الحضور الدولى بهذا الزخم الذى جسدته القمة يمكن أن نعده مكسبًا كبيرًا أيضًا ومؤشرًا مهمًا على أن الطريق الذى وضع اتفاق السلام ملامحه الأولية يمكن أن يمتد حتى نهايته، فقد أدرك الجميع أن السلام مصلحة للمنطقة والعالم، وأن ترك مصير المنطقة بيد حفنة من المغامرين والمقامرين وأسرى الماضى والمهووسين بأساطير التاريخ الزائف مخاطرة كبرى لا يحتمل أحد عواقبها، فضلًا عن كارثية تكرارها. ■ ■ ■ المرحلة المقبلة من عمر الإقليم هى الأدق والأخطر ربما منذ غزو العراق قبل أكثر من عشرين عامًا، بل ربما يتجاوز التحدى الراهن ما عانته المنطقة قبل عقدين، فنحن أمام حالة من الاستقطاب الدولى كادت أن تؤدى إلى حرب عالمية ثالثة وفق اعتراف الرئيس الأمريكى خلال كلمته أمام القمة، وهذا ما حذرت منه مصر بالفعل، ودقت مرات عدة ناقوس الخطر من أن تتسع دائرة الصراع وتصل إلى حرب إقليمية واسعة، وهو ما كان سيُفضى بطبيعة الحال إلى مواجهة عالمية غير مأمونة العواقب. الفترة المقبلة لا تحتمل تهاونًا، وتحتاج إلى عمل مضنٍ ربما يتجاوز فى دقته وخطورته ما تم بذله لوقف الحرب، فضمان التزام جميع الأطراف بالاتفاق ضمانة أساسية للحفاظ على مكتسبات قمة شرم الشيخ، فضلًا عن ضرورة استثمار الزخم الإقليمى والدولى الذى أحرزته القمة للإسراع بجهود إعادة إعمار قطاع غزة قبل أن تفتر الهمم، ولعل ذلك ما دفع الرئيس السيسى إلى الإعلان عن تنظيم قمة جديدة لإعادة إعمار القطاع خلال الأسابيع المقبلة، وتوجيه الدعوة للرئيس الأمريكى لحضورها. كما أن إعادة ترتيب البيت الفلسطينى الداخلى أيضًا باتت ضرورة ملحة فى ضوء متغيرات عديدة لا يستطيع أحد تجاهلها أو تجاوزها، فالتوافق الفلسطينى صار «فرض عين» لاجتياز عقبات عديدة وسد ثغرات كثيرة يمكن للاحتلال الإسرائيلى التذرع بها لخرق الاتفاق وإعادة الأمور إلى المربع الأول. ■ ■ ■ مهام جسام سيكون على جميع الأطراف القيام بها خلال الآونة المقبلة، وستكون مصر هى القلب النابض والرئة التى تتنفس بها تلك الجهود من أجل الوصول إلى خطوات أكثر تقدمًا تعيد توجيه بوصلة المنطقة من الاندفاع نحو هاوية الحرب والخراب، إلى أفق يحمل فرصة جديدة حقًا لحياة مختلفة، ومستقبل لا تشوهه قذائف الموت أو تخنقه أدخنة البارود المشتعل.