قد تتبدل القناعات، وتتغير المواقف، ويظل الثابت الوحيد هو المعتقدات الدينية، فما بالك إذا كانت قائمة على أكاذيب وتزوير وأساطير، يتم استثمارها لتحقيق مكاسب سياسية، هذا بالضبط ما يحكم العلاقات مع كيان مثل إسرائيل، ولهذا فإن التاريخ والتاريخ وحده، هو من يدفعنا إلى خفض سقف التوقعات من إمكانية أن تؤدى التحركات الجارية فى المنطقة، إلى تحقيق سلام شامل وعادل بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، الأمر هنا لا يخضع لتشاؤم أو تفاؤل، بل حقائق تتعلق ببعدين، (الأول) إيديولوجى و(الثانى) التجارب السابقة، لما وصلت إليه اتفاقيات السلام، التى عقدتها ثلاث دول عربية مع إسرائيل فى مراحل مختلفة. ولنبدأ بالبعد الأيديولوجى، حيث تجيد إسرائيل الاستخدام المتعسف للتوراة المحرفة، لخدمة أهداف سياسية، وقد قالها موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق فى أغسطس 1967، (إذا كنا نملك التوراة، ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا، أن نملك كل الأراضى المنصوص عليها فيها)، وهى مقولة مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل أيضًا، عندما أعلن عن مشروعه التوسعى 1904، وتحول إلى برنامج سياسى منذ وصول حزب الليكود إلى السلطة بزعامة مناحم بيجين فى عام 1977، وتكرس مع تصاعد أحزاب اليمين الصهيونى المتطرف، وشعارها (لا صهيونية بدون استيطان)، (ولا دولة يهودية بدون إخلاء العرب، ومصادرة أراضيهم)، والاعتقاد الجازم بأن اليهود شعب الله المختار، ولم يكن غريبًا فى هذا السياق، حديث نتنياهو المتكرر عن مشروع إسرائيل الكبرى، والذى تجاوز الرؤية التوراتية، ليصبح سياسة توسعية، تبنتها تلك التيارات، بكل أحزابها. أما الوقائع التاريخية، فكل محطات الصراع العربى الإسرائيلى كشفت عن عدم الالتزام بأى عهد، أو تنفيذ أى اتفاق، وكانت البداية منذ قرار التقسيم الذى أقرته الأممالمتحدة فى نوفمبر 1947، ويقضى بإعلان دولتين (يهودية) على أكثر من نصف مساحة فلسطين تحت الانتداب، رغم أنهم لم يكونوا يشكلون أقل من ثلث السكان، ويتواجدون على 7 بالمائة من مساحة الأرض، و(عربية) فى المساحة الباقية، رغم أن الفلسطينيين يشكلون 70 بالمائة من عدد السكان، وكان من الطبيعى أن يرفض العرب القرار، ولكن المثير فى الأمر موقف بن جوريون، الذى اعتبره باطلًا ولاغيًا، كونه لا يحقق الإرادة الإلهية، أو البعد السياسى والتاريخى والقومى لليهود. وقد شهدت الحقب الماضية فى اطار الصراع العربى الإسرائيلى، ثلاث اتفاقيات كانت كفيلة بخلق حالة من الاستقرار فى المنطقة، ولكن تل أبيب لم تحترم بنودها، بل تعددت أوجه الانتهاكات والخروقات، التى قامت بها، ويبدو أن الأمر فى حاجة إلى مزيد من التفاصيل. أولًا: اتفاقية السلام مع مصر، الموقعة فى مارس 1979، حيث زادت مخالفاتها، منذ طوفان الأقصى، عندما احتلت محور صلاح الدين، ومعبر رفح الفلسطينى، فى مايو من العام الماضى، كما زادت من حجم قواتها فى المنطقة (د) والتى تقع بالكامل داخل الحدود الإسرائيلية وقطاع غزة، ومن المفروض أن يكون بها أربع كتائب مشاه فقط، محدودة العدد والعتاد، وأدخلت فيها فرقة عسكرية كاملة بدباباتها ومدرعاتها، وهى الفرقة 162، بالإضافة إلى الكتائب الأربع المقررة مسبقًا. تانيًا: اتفاقية وادى عربة مع الأردن، الموقعة بين البلدين فى أكتوبر 1994، وقد بدأت تل أبيب فى انتهاكها، منذ محاولة اغتيال القيادى فى حماس خالد مشعل عام 1997، وهدد الراحل الملك حسين بتجميدها، نظرًا لعدم احترام علاقات دول الجوار بينهما، كما خالفتها بالحديث عن الوطن البديل، وخطط التهجير والذى يعتبره الأردن إعلان حرب، وكذلك عدم احترام وصاية المملكة الهاشمية على القدس الشريف، مع استمرار الاقتحامات له، وبعضها شارك فيها وزراء مثل بن غفير وزير الأمن القومى، ومؤخرًا تعددت التحركات الإسرائيلية الخطيرة، منها، توفير نفقات بناء جدار عازل إليكترونى، على طول 97 كيلومترًا فى الأغوار، وهو مطروح منذ عام 2015، رغم القدرات العالية للأمن الأردنى فى حماية الحدود، ولذلك تحولت العلاقات، إلى ما يشبه (الحرب الباردة)، مما دفع وزير الخارجية الأردنى أيمن الصفدى للقول بأن (معاهدة السلام وثيقة مهملة على الرف يعلوها التراب). ثالثًا: اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، والتى تم توقيعها فى البيت الأبيض، بحضور رابين وعرفات، وبرعاية الرئيس الأسبق بيل كلينتون فى 13 سبتمبر 1993، نصت على حكم ذاتى انتقالى فى الضفة وغزة، لفترة خمس سنوات للوصول إلى تسوية دائمة، يتم خلالها التفاوض على قضايا متبقية، بما فيها القدس واللاجئون والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود، وتبعها اتفاق غزة أريحا، وبروتوكول باريس الاقتصادى، وتضمنت أوسلو 2 الموقعة فى القاهرة فى مايو 1994، بنودًا يصل عددها إلى 11، وقد تعرض هذا الاتفاق لأكبر عملية انتهاك، منها تهميش السلطة الفلسطينية ومحاصرتها، ومنع إقامة دولة فلسطينية عبر أساليب عديدة، منها مصادرة الأراضى وتوسيع البناء فى المستوطنات، وتقطيع أوصال الضفة، والسعى إلى ضمها واحتلال قطاع غزة، وحقيقة الأمر أن إسرائيل أبقت اتفاقية أوسلو عالقة منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، لم يبق من اتفاق أوسلو سوى سلطة حبيسة ومهمشة ومحاصرة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل رفضت مبادرات السلام العربية، التى تنص على السلام الكامل بما فيها التطبيع والاعتراف مع إقامة دولة فلسطينية مستقلة.