« تعلم المصريون كيف يقاتلون، فيما تعلمنا نحن كيف نتكلم».. حاييم هيرتزوج. صمنا والروح منكسرة، وأفطرنا على تمرات النصر. ست ساعات ما بين إنطلاق قواتنا المسلحة لحرب تحرير التراب الوطنى وإفطار رمضان. الساعات الستة التى قال عنها الرئيس السادات بطل الحرب أنها أفقدت العدو توازنه. كيف لا.. والأيدى متوضئة والأمعاء صائمة والحناجر تهدر»الله أكبر»، فأشرقت أرض سيناء بنور ربها.. وارتج الكون كله.. وتوقف الزمان ليسجل نصر مصر، وأفطر جنودنا الصائمين ببضع تمرات وشربة ماء، وهم يقاتلون على أطلال خط بارليف الذى هوى كقطع البسكويت. كانت كل يد تضع تمرة فى الفم لتكسر صيامها بعد أن كسرت صلف العدو، واليد الأخرى لم ترفع يدها عن الزناد. صام الجميع رغم فتوى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم شيخ الأزهر وقتها للجنود، بالأخذ برخصة الإفطار لحرارة الجو فى أيام أكتوبر الأولى، وحتى يحتفظوا بطاقاتهم لمقاتلة العدو. لكن فى نفس الوقت لم يدخر رحمة الله عليه ورضوانه وسعاً فى حث جنودنا على الجهاد ضد العدو، مبشرًا من يموت بالشهادة والفردوس الأعلى من الجنة. وهكذا لعب البعد الإيمانى بجانب الأخذ بأذكى أساليب الخداع الاستراتيجى، وإعداد أفضل ما استطعنا من سلاح. كان هذا البعد الإيمانى هو الفارق بيننا وبين العدو. يذكر الراحل الكبير محمد حسنين هيكل فى كتابه «أكتوبر 73..السلاح والسياسة»، أن إدارة الجيش قامت بتوزيع منشور على الجنود قبل العبور مباشرة، جاء فيه: «يا جند الله إن رسول الله معنا فى المعركة، طهروا تراب الوطن من رجس الغاصب، وانصروا الله ينصركم، والأمة كلها من ورائكم مؤمنة بالنصر». وتحدث المنشور أيضاً عن رؤى تواترت فى الأيام الماضية من أولياء الله الصالحين- بحسب وصف المنشور- يظهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طريقه إلى سيناء، يتجول بين صفوف الجنود المصريين وهو مبتسم، ويعطى إشارات واضحة حول النصر وتحرير سيناء. وهى الرؤيا التى رآها الدكتورعبد الحليم محمود، وبشر بها الرئيس السادات قبل الحرب. خطط الحرب نفسها تم اختيار أسماء لها دلالتها الدينية، مثل «المآذن العالية»، و»بدر». كما أمر الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب قواتنا المسلحة آنذاك بتوزيع مكبرات صوت على طول الجبهة، تردد كلمة واحدة فقط أثناء العبور، «الله أكبر.. الله أكبر». الأخبار.. و«ملحمة الدم والحبر» تراويح مساء العاشر من رمضان السادس من أكتوبر، كانت ترويحاً فعلياً عن نفوس كسرتها الهزيمة طوال ست سنوات كنا فيها كالسائمة بلا عقل أو روح. فليس هناك أقسى على النفس من إنكسار الروح. ما أن انتهيت من صلاة التراويح، حتى سرت من بوابة المتولى على مقربة من منزلى، إلى ميدان الأزهر لشراء جريدتى المفضلة منذ تعلم القراءة «الأخبار»، إلا أن جريدتنا لم تكن تصدر فى هذا الزمان مبكراً، انتظرت إلى ساعات ما قبل السحور، حتى وصلت «ربطات» جريدة «الأخبار» للميدان. منتظرو الجريدة لم يصبروا حتى يفك البائع الحزم، وراحوا يفكونها بأنفسهم، ويلتقط كل منهم نسخته، وكل منهم يدس للبائع 15 مليماً ثمن الجريدة. كان مانشيت «الأخبار» (عبرنا القناة ورفعنا علم مصر). جنبنى زميلى طارق الطاهر رئيس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة»، ورئيس تحرير جريدة «أخبار الادب» الأسبق، مئونة البحث عن وقائع الحياة اليومية فى مصر طوال شهر نصر أكتوبر 1973، بإهدائى كتابه «ملحمة الدم والحبر».. «الأخبار» دفتر أحوال المصريين فى أكتوبر 1973». يعد الكتاب تدويناً دقيقاً ليوميات حرب أكتوبر- كما سجلتها جريدة الأخبار- سواء ما قبلها أو وسطها أو بعدها حتى تحقيق النصر. تسجل الأخبار يوم 5 أكتوبر عملية فدائية كبرى فى قطاع غزة المحتل، لقى فيها «موشى كارميلى» نائب مدير البوليس الإسرائيلى بغزه مصرعه، بعد أن ألقى فدائى فلسطينى قنبلة على سيارته فاحترقت، وأصيب ثلاثة من الجنود والضباط بإصابات بالغة. مما يثبت أن المقاومة الفلسطينية سابقة على حركة حماس التى تأسست عام 1987. هذا على الجانب العسكرى فى فلسطينالمحتلة، أما داخل مصر، وفى محاولة للتعمية على إسرائيل، وأن الحياة تسير فيها بشكل طبيعى، نشرت الأخبار قبل يوم من الحرب عن ثلاث مباريات جرت فى الدورى، فاز فيها الأهلى على المنيا بهدف لمحسن صالح، وتعادل الزمالك مع الاتحاد، وفازت الترسانة على المنصورة بهدف لمصطفى رياض.. وكان من الطبيعى أن يتوقف الدورى مع اندلاع الحرب.. وينظم نادى هليوليدو يوم 4 أكتوبر حفلة لكل من وردة الجزائرية وعفاف راضى. ويكتب أحمد رجب فى 1/2 كلمة بعد النصر، ووقوع المئات من الأسرى فى يد جيشنا: «من المراجع اللغوية الحديثة: أسر، يأسر، أسراً، يقال هذا أسير،أى جندى تم أسره، وجمع تكسير فى مدرعاتهم وطائراتهم، ولفظة أسرى مشتقة من اسم المنطقة التى تورد الأسرى يومياً، وهى «أسرى- ئيل».. حاييم هيرتزوج رئيس إسرائيل الأسبق، صدق على كلام أحمد رجب: «لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر، وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا، فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون، فيما تعلمنا نحن كيف نتكلم». ويبدو أن هوس قادة أمريكا بالفوز بجائزة نوبل للسلام، قديم قدم حرب أكتوبر، فوسط الجسر الجوى الأمريكى لدعم إسرائيل أثناء الحرب. تنشر الأخبار يوم 16 أكتوبر 1973، عن حصول كل من «هنرى كيسنجر» وزير خارجية، و «لى دوك تو» عضو المكتب السياسى بجمهورية فيتنام الديمقراطية على جائزة نوبل، لجهودهما فى تحقيق السلام وإنهاء حرب فيتنام. ونظراً لالتزام الأخبار بعدم خلط الرأى بالخبر، كتبت تحت الخبر: اختارت لجنة جائزة نوبل - المعروفة بميولها الصهيونية- هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى اليهودى الأصل، لتمنحه جائزة نوبل للسلام فى هذا التوقيت بالذات. فأخطأت بذلك فى الاختيار والتوقيت معا». وتنشر الأخبار أيضاً مناشدة وزارة الداخلية للمواطنين، أنه نظراً لكثرة إسقاط طائرات العدو، وفرار الطيارين الإسرائيليين بالمظلات، فإن من يقع تحت يده طيار عليه أن يسلمه لأقرب منشأة شرطية أو عسكرية. شدت الجبهة الداخلية من أزر قواتنا المسلحة طوال أيام الحرب. انتفض المصريون للتبرع بالدم، وكانت أكبر عملية تبرع بالدم يشهدها العالم، حيث امتلأت المستشفيات ومراكز ووحدات التبرع بالدم بملايين المصريين، وما كان من وزير الصحة حينها إلا أن طالب المواطنين بالتوقف عن التبرع بالدم، لأن جميع ثلاجات الدم فى جميع مراكز التبرع فى مصر امتلأت عن آخرها.. هى دى مصر، التى تعلى قيم التراحم وقت الشدائد. لم يدركوا الحدث الآن كل من عمره ستون عاماً، لا يدرك عظمة أسعد يوم فى حياة المصريين: نصر العاشر من رمضان، كان عمرهم وقتها 8 سنوات. حقيقة أن بانوراما حرب أكتوبر تقدم لوحة رائعة للنصر، لكنى أقترح تقديم نموذج حى لمحاكاة فعلية على الأرض لعبور قناة السويس، أتمنى لو قام جيشنا العظيم بإجراء صيانة للكبارى المتنقلة التى استخدمت فى عبورالقناة، وإذا كانت هذه الكبارى قد تآكلت بفعل عوامل الزمن، يمكن تصنيع مثيل لها، والقيام بمدها بين ضفتى النيل فى أكثر من مدينة يمر بها النهر العظيم، ليعبر عليها المصريون، فيدركوا بشكل واقعى وحى ما قدمه آباؤهم وأجدادهم من تضحيات، كى يعيش الأبناء والأحفاد مرفوعى الرأس، فخورين بلحظة عز سيشعرون بها وهم يخطون على هذه الكبارى، مستلهمين فى خيالهم كيف كان ثمن النصر غالياً.