«لقد زرعوه فى العمق داخل الاستخبارات الإسرائيلية واستدرج رئيس الموساد زامير كالأبله، وتلاعب به كما أراد. لقد كان الترس المركزى فى خطة الخداع المصرية». فى عالم الاستخبارات، لا شيء أكثر إثارة منقصة عميل مزدوج، خاصة إذا كانت نهايته غامضة، ودوره محوريا فى قلب موازين حرب غيرت وجه الشرق الأوسط. هكذا يعود اسم أشرف مروان إلى الواجهة مجددًا، بعد أن نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية تحقيقًا موسعا أول أمس الجمعة وترجمته مختلف الصحف العالمية..التقرير يكشف أن الرجل الذى حملته إسرائيل على الأعناق بوصفه «الجاسوس الأسطوري» و « الملاك الحارس»لم يكن سوى رأس الحربة فى خطة خداع مصرية محكمة سبقت حرب أكتوبر 1973. التحقيق الصحفي، الذى استند إلى مواد استخباراتية إسرائيلية لم يكشف عنها من قبل، يضع مروان فى قلب عملية تضليل مصرية عبقرية استهدفت جهاز الموساد الإسرائيلي، ويجيب على سؤال لمن كان ولاء مروان، بعد سنوات من الإنكار الإسرائيلى الرسمي؟!.. تل أبيب كانت تصر طوال 51 عاما على أن مروان كان أحد أبرز مصادرها السرية ، بينما الوثائق الجديدة تشير إلى أنه كان أحد أهم الأدوات المصرية فى خطة الخداع التى أذهلت إسرائيل وأربكت قيادتها العسكرية والسياسية خلال حرب أكتوبر. منذ عام 1970بدأ مروان وهو صهر الرئيس جمال عبد الناصر ومستشار الرئيس أنور السادات تمرير وثائق ومعلومات يفترض أنها سرية إلى الموساد. وقد ارتبط اسمه بالتحذير الشهير الذى نقله لرئيس الموساد تسفى زامير قبل الحرب ب 24 ساعة وهو التحذير الذى لم يحقق لتل أبيب استفادة حقيقية بسبب توقيته الغامض والمتأخر وغير الدقيق حيث نقل لهم أن موعد الحرب سيكون فى السادسة مساء بينما بدأت الحرب قبلها بأربع ساعات... الجديد فى تحقيق «يديعوت» هو تأكيد المصادر على أن مروان شارك فى اجتماعات رفيعة المستوى بين السادات والأسد فى أغسطس 1973حيث تم الاتفاق على موعد الهجوم فى السادس من أكتوبر ومع ذلك لم ينقل هذه المعلومة الحاسمة إلى مشغليه، بل قدم سلسلة من الإنذارات المضللة، مصحوبة بتقديرات تؤكد أن الحرب «لن تندلع على الأرجح». هذه التفاصيل دفعت الجنرال شلومو جازيت، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية إلى الإدلاء بشهادة لم يُسمح بنشرها إلا بعد وفاته، قال فيها: «لقد زُرع مروان فى العمق داخل الاستخبارات الإسرائيلية، واستدرج رئيس الموساد زامير كالأبله، وتلاعب به كما أراد. كان الترس المركزى فى خطة الخداع المصرية». وفى كتاب « حرب أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية» للدكتور إبراهيم البحراوي، الذى حلل وترجم شهادات لجنة أجرنات الإسرائيلية عقب الحرب ، يتضح أن مروان لم يكن مجرد مصدر معلومات، بل كان جزءًا من استراتيجية مصرية أوسع، هدفت إلى تفكيك الثقة داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وزرع الشك فى تقديراتها. شهادات كبار المسئولين الإسرائيليين فى اجرانات، كشفت عن حالة من الذهول والارتباك، وعن صراع داخلى بين من اعتبر مروان بطلاً ومن رآه خائنًا.لكن الحقيقة، كما تكشفها الوثائق، أكثر تعقيدًا. فالمعلومات التى قدمها مروان كانت دقيقة فى بعض الجوانب، لكنها مضللة فى توقيتها، وهو ما منح الجيش المصرى عنصر المفاجأة. فى رأيي، إن ما يجعل قصة أشرف مروان استثنائية ليس فقط ما فعله، بل كيف استطاع هذا البطل أن يكون فى قلب المعركة دون أن يحمل سلاحا، وأن يغيّر مجرى التاريخ بفضل دوره المتقن. ويكفى مروان شهادة الرئيس الأسبق حسنى مبارك عام 2007 بعد أن تلقى نبأ وفاة مروان على الطائرة خلال رحلة عودته من غانا وقال، فى تصريحات أمام رؤساء تحرير الصحف «إن ما نشر عن الراحل أشرف مروان، وإبلاغه إسرائيل بموعد حرب أكتوبر 1973 لا أساس له من الصحة، فمروان لم يكن جاسوساً لأى جهة على الإطلاق، وإنما كان وطنياً مخلصاً لوطنه، وقام بأعمال وطنية، لم يحن الوقت بعد للكشف عنها، وأننى كنت أعلم تفاصيل ما يقوم به أولاً بأول». و لو كان أشرف مروان جاسوساً لما سمحت أجهزة الدولة وقتها أن تقام له جنازة عسكرية رسمية رغم أنه شخص كان يعمل فى منصب مدنى ولكنه جاء كإجراء استثنائى صدر به قرار وزارى تقديرا لما قدمه هذا البطل. ولو كان هناك ذرة شك واحدة فى ولائه ما كان جثمانه يلف بالعلم المصري، ويستقبل رسمياً، وتشيع جنازته من مسجد عمر مكرم ويؤم الجنازة وقتها الراحل د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر . و شارك فى تشييعه معظم رجالات الدولة وهو اعتراف رسمى بأنه صاحب عمل مجيد ..ورغم ذلك استمر التشكيك فى الرجل خاصة أن الموساد ظل يتمسك بروايته حول ولاء ملاكه الحارس. لكن اليوم وبعد تحقيق«يديعوت» المعتمد على وثائق ومصادر رسمية يتضح أن إسرائيل، التى طالما تغنّت بعبقرية استخباراتها، وقعت ضحية رجل مصرى عبقري، استطاع أن يزرع الشك فى عقلها لعقود، ويساهم فى منح مصر لحظة المجد فى السادس من أكتوبر وقد آن الأوان لتكريمه كما يليق.