«فى شوارع القاهرة، خرج الناس من الأزقة، من الحوانيت، من خلف أبواب البيوت، لا ليشاهدوا الإعدام، بل ليودّعوا من قاتل باسمهم» الجمعة: زعامة شعبية باب «زويلة» لم يشهد وجهًا أكثر صلابةً منه، ولم ترتجف جدرانه لصوتٍ أكثر اتزانًا، كان السلطان حاكم مصر فى ذلك الزمان «طومان باي» واقفًا، مقيّد اليدين، محاطًا بجنود عثمانيين، بينما عيون الناس تمتلئ بالدمع والذهول، لا صراخ، لا توسّل، لا انهيار... بل سلطانٌ يعرف أن نهايته ليست هزيمة، بل خاتمة رجلٍ أحب مصر أكثر مما أحب السلطة، فهل كان طومان باى فدائيًا؟ أم سلطانًا محاصرًا؟. ■ ■ ■ بسبب الخيانة فى معركة «مرج دابق» - 24 أغسطس عام 1516م، 25 رجب سنة 922 ه، قرب مدينة حلب فى شمال سوريا- ضد جحافل العثمانيين الغزاة قُتل سلطان مصر «قنصوه الغورى»، فعرضت السلطنة على الشاب «طومان باى» الذى ولد داخل بلاط المماليك صاحب الشخصية التى امتازت بالحزم، والانتماء لمصر لا للبلاط، فى المعارك كان يشارك جنوده فى الخندق، وفى القصر يناقش العلماء فى الفقه والسياسة، ومع الأيام، صار أقرب إلى زعامة شعبية منه إلى زينة ملوكية، ورفضه للحكم لأنه رأى أن الأمراء متفرقو القلوب، وأن السلطنة فى هذا الظرف مغرم لا مغنم، ولم يقبل الحكم إلا بعد أن أقسم له الأمراء على المصحف بعدم الخيانة، مما يكشف عن رؤية فلسفية للسلطة: لا قيمة لها بدون ولاء حقيقي. وتولى السلطنة على مصر، واستعد لمقابلة العثمانيين بجوار القاهرة فى المطرية - فى مكان اسمه الريداينة- يقع خارج أسوارها، لكن الخيانة كانت حاضرة أيضا، حيث إن الأمير «جان بردى الغزالي» الذى هزم فى موقعة غزة أمام العثمانيين، وفى معركته الثانية ضد العثمانيين، خرج بقوات قرب الجيزة، وحقق بداية انتصار جزئي، وكان العربان قد وعدوه بالوقوف معه ومساندته، لكن فجأة تراجعوا فى اللحظة الحاسمة، وبعض المماليك خافوا وتواصلوا سرًا مع سليم الأول، فالخذلان كان داخليًا أكثر منه خارجيًا. اختفى طومان باى بعد الهزيمة، وظل متنقلًا حتى يتمكن من لملمة جنوده ومن يسانده للعودة لقتال سليم الأول العثمانى وجيشه، حتى وصل إلى شيخ قبيلة العربان حسن بن مرعي، الذى استقبله بوعد حمايته -ردا على ما أحسن له طومان معه من قبل- وأسكنه فى بيتٍ متواضع بمنطقة سخا، وحلف الشيخ سبع مرات، تحنّطت الكلمات على لسانه، وأقسم أمام السماء والأرض، لكن القسم انهار حين حملته شهوة الجاه، ووعد العثمانيين بالسلطة والذهب لمن يدلهم على مكان طومان باى. لكن الخيانة صحت فى جنح الليل، وأرسل الشيخ حسن بن مرعي، شيخ قبيلة العربان برسولٍ إلى سليم الأول يخبره أن السلطان مختبئٌ فى بيت، وفى صباحٍ هادئ، لم يُسمع فيه طبل المعارك، دخل الجند، وقبضوا على طومان باي، وبدا محطم الروح، لا لأنه هُزم، بل لأنه خُدع فى المصحف الذى شهد القسم. ■ ■ ■ لقاء الكبرياء والصمت: المكان: معسكر الجيش العثمانى فى إمبابة الزمان: مارس 1517، بعد أسر طومان باي الحضور: سليم الأول، خاير بك، جان بردى الغزالي، حسن بن مرعي، وعدد من قادة العثمانيين والمماليك. سليم الأول (ينظر بحدة نحو الأسير المربوط اليدين) سلطان مصر: «أنت قتلت رسلى، سفكت دماء المسلمين، ورفضت السكة والخطبة باسمى. أهذا ما يسميه قومك شرفًا؟» طومان باى (بهدوء وكرامة، يتقدم خطوة): «الرسل لم أقتلهم، سقطوا فى فتنة لم آمر بها، وأنا لم أطلب سلطنة... بل طلبها قومى منّي. ولو أرسلتَ أنت تطلب السكة والخطبة لي، أكنت سترضى أن تُصبح تحت أمري؟ هل يُخضع الأسد للذئب؟» سليم الأول (بعينين ملؤهما التهكم): أنا ابن السلطان بايزيد، حفيد الفاتحين. وأنت؟ مملوك لا تعرف حتى اسم أبيك، ما الذى أعطاك الحق أن تتحدى الدولة العثمانية؟ طومان باى (ينظر فى عيون كل الحاضرين): أنا عبد لله كما أنت، ولم أقف أمامك لأسألك الرحمة... بل لأشهد أمام التاريخ أننى لم أخن وطن».. قاتلت لا طمعًا، بل دفاعًا عن شعبٍ طعنوه من خلفه، ثم باعوه من أمامه. سليم الأول (بصوت خافت، بعد لحظة صمت): شجاعتك تُذكر... لكن مصر لم تعد لك. خذوه.. فإن صمته أبلغ من قول القضاة. فى ذلك اليوم كان الصباح رماديًا، والهواء ساكنًا كأن المدينة تحبس أنفاسها، لم يكن طومان باى سلطانًا يُحاكم، بل رجلًا وقف كالشجرة التى رفضت أن تُقتلع بصمت، فى شوارع القاهرة، خرج الناس من الأزقة، من الحوانيت، من خلف أبواب البيوت... لا ليشاهدوا الإعدام، بل ليودّعوا من قاتل باسمهم. وقف طومان باى أمام باب زويلة، مكشوف الرأس، مقيّد اليدين، تحيط به سيوف العثمانيين. نظر إلى الوجوه المتجمعة، فهتف بصوتٍ ثابت: «اقرأوا لى الفاتحة ثلاث مرات.» «فبسط يده، وقرأ، وقرأ الناس معه، رجالًا ونساءً، شيوخًا وصبية. لم يكن مشهدًا للشفقة، بل لحظة إجماع وجداني، كأن القاهرة كلها تقول له: «لم تخنا، بل خذلوك.» ونظر طومان باى بكل شجاعة للمشاعلى قائلا: اعمل شغلك. فوضع المشاعلى الحبل حول عنقه، ورفعه، فانقطع الحبل، وسقط السلطان على عتبة الباب. صرخت الناس، لا من الرعب، بل من الحزن. ثم أُعيد رفعه، وانقطع الحبل مرة أخرى. كأن الأرض ترفض أن تُسلّم جسده للموت. وفى المرة الثالثة، ارتفع جسده، وسكن الهواء... لكن الناس لم تسكن، بل صرخوا صرخة عظيمة، قال عنها ابن إياس: صرخت عليه الناس صرخة عظيمة، فإنه كان شابًا حسن الشكل، كريم الأخلاق، شجاعًا بطلاً. «وبعد الإعدام، صمتت المدينة، وكأنها فقدت أحد أبنائها لا أحد سلاطينها، لم يكن مجرد شاب قُتل عند باب زويلة... بل آخر صوتٍ حاول أن يقول «لا» فى وجه عاصفة العثمانيين.. وظل جسده معلقًا ثلاثة أيام، فى مشهد رمزى لنهاية الدولة المملوكية بالخيانة. الأربعاء: من إبراهيم باشا إلى عبد الناصر إبراهيم باشا الذراع العسكرى الأقوى لوالده محمد على، قاد عدة حملات حاسمة ساهمت فى توسيع نفوذ مصر فى القرن التاسع عشر، حين بدأ حملاته سُئل إبراهيم باشا «إلى أين ستتوقف فتوحاته ؟» فأجاب: «عند آخر بلاد تتكلم العربية». لم تكن هذه الجملة مجرد تصريح عسكري، بل بيانٌ وجودي، فيه من ملامح الحلم القومى العربى أكثر مما فيه من دهشة انتصاراته. كانت مصر، من خلاله، تحاول لأول مرة أن تتحدث باسم الجميع، لا باسم نفسها فقط، إن مسيرة إبراهيم باشا كانت تثير الذعر لدى القوى الغربية؛ ليس فقط لأنها توسعية، بل لأنها منظمة، مفكرة، ومدفوعة بحلم يجمع بين العروبة والتحديث. فى الكتابات الاستعمارية والدوائر السرية آنذاك، كانت مصر تُوصَف بأنها «رأس الثعبان». هذا يعنى أن أى مشروع تحررى عربى يبدأ منها، ولذلك، كان كبحها أولوية، حتى وإن اضطرهم الأمر للعبث بصحتها السياسية أو الجسدية. ■ ■ ■ من إبراهيم باشا إلى عبد الناصر، وحتى محمد على باشا نفسه فى أواخر أيامه... لطالما صاحبت المشاريع النهضوية المصرية نهاية مفاجئة، وغالبًا بجسدٍ منهك، كأن التاريخ يريد أن يثبت: «كل من يحلم بمصر قوية، سيدفع ثمن الحلم بجسده». ■ ■ ■ «فى زمنٍ غير محدد، على أرض تدعى الضوء، عاش شعبٌ لا يتحدث إلا بلغة واحدة». منهم خرج قائدٌ يُدعى إبرام، يتكلم بلغة نقية تُنير القلوب قبل أن تُقنع العقول.، قاد الحملات تلو الحملات، مُتَحديًا العتمة، حتى وصل إلى حافة الأرض، حيث لا شيء إلا وفى تلك اللحظة، وصله مرسالٌ غامض مكتوب بلغةٍ لم يعرفها من قبل: «لا تتجاوز الظل، فالثعبان هناك ينتظر أن يلتهم النور.» تردّد. ثم ابتسم. وقال: «أنا لا أتكلم لغة الخوف. «بعد أن ورث الحكم من أبيه محمد على، لم يمكث سوى سبعة أشهر، ومرضٌ غامض أصابه، نزيفٌ من الفم، وسعالٌ لا يهدأ. قيل إن طبيبه الإيطالى ارتبك، وقيل إن هناك من دسّ له السم. فى لحظاته الأخيرة، همس: «الخيانة لا تأتى من العدو... بل من الخوف». فى قصرٍ يلفّه الصمت، يجلس إبراهيم باشا على كرسى الحكم، جسده منهك، لكن عينيه لا تزالان تلمعان بشيء يشبه الحنين. أمامه خريطة العالم العربي، وعليها علامات حمراء تمتد من الحجاز إلى الشام، ومن السودان إلى الأناضول. إبراهيم باشا: «أبى علّمنى كيف تُبنى الإمبراطوريات... لكننى أردت أن أعلّمه كيف تحلم بها».