القرار هنا بيد القيادة الإثيوبية، التي ما زال أمامها فرصة لتصحيح المسار والعودة إلى طاولة الحوار بروح من المسئولية والشراكة الحقيقية. لم يكن الإعلان الأحادى الذى أصدرته الحكومة الإثيوبية مؤخرًا بشأن افتتاح وتشغيل السد على مجرى النيل الأزرق مفاجئًا بقدر ما كان كاشفًا عن عقلية سياسية تصر على فرض الأمر الواقع، متجاهلة قواعد القانون الدولى والأعراف المنظمة للأنهار المشتركة، ومتناسية الاتفاقيات التى وقّعت عليها بنفسها، من إعلان المبادئ عام 2015 إلى البيان الرئاسى الصادر عن مجلس الأمن فى 2021. منذ البداية تعاملت مصر مع ملف السد بمنتهى المسئولية، فراهنت على الحوار والوسائل السلمية رغم سنوات طويلة من المراوغة والتسويف الإثيوبى. لكن ما جرى مؤخرًا يوضح أن أديس أبابا اختارت طريق العزلة بدلًا من التعاون، والاصطدام بدلًا من الشراكة، وهو خيار يحمل فى طياته مخاطر على استقرار المنطقة بأكملها. مشهد الافتتاح لم يكن سوى استعراض إعلامى داخلى. فتشغيل مفيض الطوارئ دون داعٍ، وبطريقة قد تؤثر على السلامة الإنشائية، لم يحمل رسالة تنموية بقدر ما كان رسالة سياسية موجهة للداخل الإثيوبى. الأخطر أن معظم توربينات السد لم تُركّب بعد أو لا تعمل، ما يعنى أن الهدف الأساسى من المشروع توليد الكهرباء لم يتحقق حتى الآن. وعلى الرغم من ذلك، تحاول الحكومة الإثيوبية إقناع شعبها بأن السد هو «النصر العظيم»، بينما الحقيقة أن الكهرباء المنتجة تُباع للمواطنين بأسعار مدعمة لا تغطى سوى 10 إلى 20% من التكلفة الفعلية. النتيجة: عبء مالى إضافى على دولة مثقلة أصلًا بالديون والأزمات الداخلية. ولتحقيق أى جدوى اقتصادية من السد، لا مفر من تصدير الكهرباء بأسعار تجارية تغطى نفقات التشغيل والصيانة وتسهم فى سداد الديون. لكن السؤال: إلى من ستبيع إثيوبيا؟ الواقع يقول إنه لا بديل أمامها إلا مصر لتمرير الكهرباء إلى الأسواق الإقليمية. فالسودان، فى ظل التحديات السياسية والاقتصادية الراهنة، يواجه صعوبة فى أن يكون منفذًا مستقرًا للتصدير، بينما ما زال جنوب السودان يعمل على تطوير بنيته التحتية لتلبية احتياجاته المحلية من الطاقة. وبالتالى، يظل الدور المصرى محوريًا إذا أرادت إثيوبيا أن تجعل من السد مصدر دخل حقيقى وعامل استقرار إقليمى .. أى من دون مصر ستظل إثيوبيا أسيرة أحلامها، عاجزة عن تحويل السد إلى مصدر دخل حقيقى. كان الأجدر بالحكومة الإثيوبية أن تدرك أن الذكاء السياسى يكمن فى بناء جسور الثقة مع مصر لا فى هدمها، وفى تحويل السد إلى مشروع إقليمى للتنمية المشتركة لا إلى أداة للمكايدة السياسية. لكنها آثرت العناد والمكابرة، فحوّلت حلم التنمية إلى مشروع يهدد بأن يصبح نقمة اقتصادية وشعبية داخل إثيوبيا نفسها. قد تنجح القيادة الإثيوبية فى كسب لحظة دعائية أمام شعبها، لكنها لن تستطيع الهروب من الحقائق: الكهرباء لا تُباع بالخطب، والديون لا تُسدد بالشعارات، والتنمية لا تتحقق بقرارات أحادية. اليوم يقف السد على مفترق طرق: فإما أن يكون رمزًا للتعاون والازدهار المشترك إذا ما عادت إثيوبيا إلى طاولة الحوار بروح مسئولة، أو يتحول إلى عبء سياسى واقتصادى يطاردها لسنوات. مصر، من جانبها، التزمت وما زالت تلتزم بالحلول السلمية، لكنها تحتفظ بحقها الكامل فى الدفاع عن أمنها المائى وفق القانون الدولى وميثاق الأممالمتحدة. إن الذكاء السياسي الحقيقي كان يقتضى تعزيز الثقة مع مصر، الدولة الكبرى فى حوض النيل، وفتح مسارات للتعاون فى تشغيل السد وتصدير الكهرباء بما يحقق مصالح جميع الأطراف. أما النهج الحالى، القائم على القرارات الأحادية والتصريحات العنترية، فلا يؤدى إلا إلى تعميق الشقاق بين الدول الثلاث وتهديد فرص التنمية المشتركة فى المنطقة. سد النهضة، الذى قُدم يومًا كحلم للتنمية فى إثيوبيا، يقف اليوم على مفترق طرق: فإما أن يتحول إلى مشروع إقليمي ناجح قائم على التعاون والتكامل، أو ينزلق إلى أن يكون عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا يعمّق الأزمات الداخلية ويزيد التوترات مع دول الجوار. والقرار هنا بيد القيادة الإثيوبية، التى ما زال أمامها فرصة لتصحيح المسار والعودة إلى طاولة الحوار بروح من المسئولية والشراكة الحقيقية. الخيار الآن بيد أديس أبابا: هل تختار طريق الشراكة، أم تظل أسيرة أوهام الاستعراض؟