منذ التسعينيات، اختارت «إثيوبيا» أن تُقسم نفسها على أساس إثني- أى كيانات، أو مناطق بناءً على الانتماءات العرقية، أو الثقافية، أو اللغوية لمواطنيها، وليس على أساس جغرافى أو إداري- مانحةً كل كيان مساحةً من الحكم الذاتي، وتغافلت بذلك عن أنها زرعت بذور النزاع فى قلب الدولة. فلم تكن الفيدرالية عقدًا اجتماعيًا، بل كانت رقعة شطرنج، كل مربع فيها يحمل لونًا إثنيًا، وكل حركة تُحسب بدمٍ لا بالحبر. ومع تصاعد التوترات، تحولت الأقاليم إلى جزرٍ سياسية، وكل جماعة إلى وطنٍ داخل الوطن، ويرصد كتاب « الصراع فى إثيوبيا..المشروع المأزوم وتداعياته الإقليمية» لمجموعة باحثين نشأة الصراع فى إثيوبيا وأبعاده المحلية والدولية. تتكشف أزمة إثيوبيا كأنها رواية سياسية كتبتها الجغرافيا بلغة الجراح فى قلب الهضبة الإفريقية، حيث تتشابك الجبال وتتنفس الأرض توترًا،. وعلى سبيل المثال لم تكن الحرب فى «تيجراي» مجرد نزاع مسلح، بل هى انهيار سردية وطنية بُنيت على نموذج سياسى هش، يُدعى «الفيدرالية الإثنية» نموذجٌ بدا فى لحظاته الأولى كأنه وعدٌ بالعدالة، لكنه سرعان ما انتقل إلى فخٍ للهويات المتنازعة. يضم كتاب «الصراع فى إثيوبيا: المشروع المأزوم وتداعياته الإقليمية» الصادر عن المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، مجموعة من أوراق الباحثين حول جذور الأزمة الإثيوبية وبنية الدولة والخلفية التاريخية للصراع، خاصةً نموذج «الفيدرالية الإثنية» الذى تبنته إثيوبيا منذ التسعينيات، ويوضح كيف أدى هذا النموذج إلى تفكك العلاقات بين الحكومة المركزية والأقاليم، وتنامى التوترات العرقية والسياسية، والحرب فى «تيجراي» منذ بدايتها وحتى تطوراتها الإقليمية. ثم يتناول أسباب اندلاع الحرب فى نوفمبر 2020، بدءًا من الانتخابات الإقليمية المنفردة التى أجراها إقليم تيجراي، ويناقش فشل الحكومة الفيدرالية فى تنفيذ عملية عسكرية خاطفة، وتحول الصراع إلى حرب طويلة الأمد، ومراحل الصراع وتبدل المواقع، ويرصد تطورات المعارك، من استعادة جبهة تحرير تيجراى السيطرة على «ميكيلي»، إلى تمددها فى إقليمى العفر وأمهرا، كما يشير إلى استنزاف الأطراف المتصارعة واستحالة تحقيق نصر حاسم. ثم التداعيات الداخلية والإقليمية، مسلطا الضوء على تصاعد العنف فى أقاليم أخرى مثل «أوروميا»، «وبنى شنقول-جوموز»، ويناقش اشتباكات بين حكومات الأقاليم، مثل الصومالى والعفر، وتنامى نشاط الجماعات المسلحة المناوئة للدولة. والأبعاد الإقليمية والدولية، ويتناول تأثير الصراع على الأمن الإقليمي، خاصةً فى ظل التوترات حول سد النهضة. كما يناقش مواقف القوى الدولية والإقليمية، وتداعيات الحرب على الاستقرار فى القرن الإفريقي. اقرأ أيضًا | وزير الخارجية: بناء إثيوبيا لسد النهضة بشكل أحادي عمل غير شرعي تراكمات طويلة كما تطرح الأوراق البحثية رؤية تحليلية لبنية الدولة الإثيوبية الهشة منذ اعتماد «الفيدرالية الإثنية» فى مطلع التسعينيات، والتى كرست الانقسامات بدلًا من أن تخلق وحدة وطنية. ويرى الباحثون أن الانتخابات التى أجراها إقليم تيجراى فى سبتمبر 2020 كانت بمثابة الشرارة التى سرّعت بتفجر الصراع، بعد سنوات من التوتر والعنف المتصاعد بين القوميات المختلفة: «التيجراي، الأورومو، والأمهرة»، أى لم يكن انفجار الحرب فى إقليم تيجراى فى نوفمبر 2020 حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة طبيعية لتراكمات طويلة من الانقسامات القومية والسياسية التى ضربت الدولة الإثيوبية لعقود. ويفرد الكتاب مساحة واسعة لمشروع سد النهضة، بوصفه تجسيدًا للتناقضات الإثيوبية فبينما رُوِّج له داخليًا كرمز للوحدة والتنمية و«مشروع القرن»، تحوّل عمليًا إلى ورطة استراتيجية: فهو مكلف اقتصاديًا، متعثر فنيًا، ومصدر توتر إقليمى مع مصر والسودان. ويرصد مسار المفاوضات التى استمرت عقدًا كاملًا، من اللجنة الثلاثية مرورًا بجولات الخرطوموأديس أبابا والقاهرة، وصولًا إلى مفاوضات واشنطن 2020، حيث رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاق شامل وملزم، فى خطوة اعتبرها الباحثون خيارًا سياسيًا لفرض الأمر الواقع على دول المصب، ولا يقف عند حدود الداخل الإثيوبي، بل يتتبع كيف ألقت الصراعات الداخلية بظلالها على الإقليم ككل. فإثيوبيا بحكم موقعها وثقلها السكانى لاعب رئيسى فى القرن الإفريقي، وأزماتها تمتد إلى السودان، وإريتريا، والصومال، وتنعكس على أمن البحر الأحمر، وممراته الحيوية. ومن هنا يصبح سد النهضة عنوانًا لصراع يتجاوز المياه إلى معادلات الجغرافيا والسياسة والأمن الإقليمي. صورة متكاملة مجموعة أبحاث «الصراع فى إثيوبيا.. المشروع المأزوم وتداعياته الإقليمية» تطرح صورة متكاملة لدولة تبحث عن «نهضة» لكنّها غارقة فى أزماتها الداخلية. وتكشف كيف تحوّل مشروع السد الإثيوبى من أداة لتوحيد الداخل إلى مرآة لأزمة شاملة تهدد بتفكك الدولة من الداخل، وباضطرابات إقليمية واسعة النطاق. الكتاب يمثل إضافة فى تناوله واحدًا من أكثر الملفات تعقيدًا وإثارة للجدل فى القارة الأفريقية، وهو ملف سد النهضة الإثيوبى وما يرتبط به من صراعات داخلية وإقليمية، ودولية. ولا يقتصر على كونه دراسة عن مشروع مائى ضخم، بل يضعه فى سياق تاريخى واستراتيجى ممتد يكشف جذور الأزمة وأبعادها المتشابكة، ويرصد كيف تحوّل السد من مشروع تنموى إلى «أزمة وجودية» تمس الأمن القومى لمصر والسودان، وتعيد رسم خرائط التوازن فى القرن الإفريقى وحوض النيل. تستند أبحاث الكتاب إلى منهج تحليلى يجمع بين التوثيق التاريخي، والمتابعة السياسية والاستشراف المستقبلي، ليبرهن أن أزمة سد النهضة لم تكن وليدة اللحظة، بل امتدادًا لرؤية إثيوبية قديمة تسعى منذ عقود إلى فرض الهيمنة على مياه النيل، وإعادة صياغة العلاقة مع دول المصب، كما توضح الدراسات أن أديس أبابا، منذ عهد الإمبراطور هيلاسيلاسي، عملت على تشكيل «جبهة دول المنبع» فى مواجهة مصر والسودان تحت شعار «السيادة المطلقة على النهر»، وأن السد لم يكن سوى الحلقة الأبرز فى هذا المخطط الممتد. أزمة السد ونقرا بالأبحاث رؤية متكاملة لتاريخ الصراع المائى بين دولتى المصب فى القرن الأفريقي، وتُظهر الأزمة المستمرة حول سد النهضة الإثيوبى والأجندة التوسعية لإثيوبيا، التى تهدف إلى تقويض مصالح دولتى المصب فى القرن الإفريقي، ليست ظاهرة جديدة. فإثيوبيا فى عهد الإمبراطور هيلاسيلاسى سعت إلى تشكيل تحالف يضم دول المنبع لمواجهة مصر والسودان، مستندة فى ذلك إلى مفهوم السيادة المطلقة على النهر، والسعى لإقامة مشروعات تنموية دون موافقة مسبقة من دول المصب. لقد ارتكزت الاستراتيجية الإثيوبية للهيمنة على القرن الأفريقى وشرق إفريقيا على ركيزتين أساسيتين: الأولى، التوسع الإقليمى بضم إريتريا عام 1952، والذى منح أديس أبابا منفذاً لموانئ البحر الأحمر، بالتزامن مع ضم إقليم أوغادين الصومالى وفق معاهدة 1897 مع بريطانيا. الثانية، اقتراح بناء سد فى منطقة بنى شنقول، بهدف أن تلعب إثيوبيا دوراً مركزياً فى التنمية الإقليمية عبر إنتاج الكهرباء، وتقليص فجوة التنمية مع مصر، والسيطرة على معدلات التنمية فى دولتى المصب. وقد أدركت القيادة الإثيوبية فى عهد هيلاسيلاسى أن المياه تمثل أداة استراتيجية قوية للنفوذ الجيوسياسي. ويشير إلى أن بناء السد فى تلك المرحلة تعثر بسبب السياق الدولي، حيث كانت الحرب الباردة فى ذروتها وانقسام العالم إلى معسكرين: غربى وسوفيتي، مما دفع القوى العظمى إلى ضبط تصعيد أى صراع فى القرن الأفريقي. كما لعبت صعود حركة الناصرية فى إفريقيا ودعم جمال عبد الناصر للوحدة الأفريقية واستقلال الدول الإفريقية دوراً فى منع تنفيذ المشروع آنذاك. ورغم تغير الأنظمة فى إثيوبيا، وانضمامها إلى المعسكر الشيوعى فى عام 1973 تحت حكم منجستو هايليمريام، إلا أن الاستراتيجية التوسعية لم تتغير. يمكن القول إن النخبة الحاكمة فى إثيوبيا تتبع سياسة ازدواجية واضحة، بالاعتراف بما ترغب فيه من الاتفاقيات والتنصل عما ترفضه، مع اعتماد أساليب استعمارية قديمة، سواء فى التوسع الإقليمى أو التدخل فى شؤون الدول المجاورة. وفى المقابل، تستند السردية الرسمية الإثيوبية إلى نبذ هذه الأساليب ورفض اتفاقيات 1902 و1929 باعتبارها اتفاقيات فرضها الاستعمار، وهو ما يوضح هشاشة هذه السردية. الميزان الإقليمي ويتصاعد التوتر بين إثيوبيا والسودان، بعد فشل أزمة سد النهضة، وفشل جولات المفاوضات التى استمرت نحو عقد من الزمن وأدت إلى تصاعد التوتر بينهما، خاصة بعد كارثة الفيضانات فى السودان عام 2020. لكن خلال حكم نظام الإنقاذ، أقنعت إثيوبيا السودان بالمزايا الاقتصادية للسد، لا سيما أن السودان كان يعانى من ضغوط اقتصادية وعقوبات دولية. كما بدأت إثيوبيا منذ عام 2003 بالتطلع للاستفادة من موانئ بورتسودان بعد أن أصبحت دولة حبيسة عقب انفصال إريتريا فى 1993.. غير أن سقوط نظام البشير عام 2019 شكل نقطة فارقة، حيث سعى السودان للعودة إلى المجتمع الدولي، وتعزيز دوره الإقليمي، وهو ما لم تحبذه إثيوبيا. فقد هيمنت الأخيرة على شرق إفريقيا لعقود بفضل ضعف السودان، وإرهاقه بالعقوبات الاقتصادية، كما أصبحت إثيوبيا منذ 2001 حليفا استراتيجياً للولايات المتحدة فى مكافحة الإرهاب، مما منحها دعماً عسكرياً ضخماً، إلى جانب تدخلاتها فى الصومال لدعم استقرار المنطقة وفق مصالحها. على الجانب الآخر، استطاع السودان إعادة توجيه سياساته الداخلية، والخارجية بعد الإطاحة بعمر البشير، من خلال حكومة انتقالية تضم شراكة مدنية وعسكرية، وانتهاج إصلاحات ساهمت فى رفع العقوبات الدولية، وتطبيق اتفاقية جويا للسلام 2020 لدمج الحركات المسلحة فى الجيش ومشاركة الجبهة الثورية فى مجلس السيادة. ومع أن التحديات الاقتصادية، والداخلية لا تزال قائمة، توفر الموارد البشرية والزراعية الضخمة، وفرص الغاز، والنفط، إلى جانب الاهتمام الدولى بمنطقة البحر الأحمر، فرصاً حقيقية للتنمية والتوسع الاقتصادي. تتدهور الأوضاع فى المقابل، تتدهور الأوضاع فى إثيوبيا بسبب أزمة تيجراى والصراعات الداخلية، وفرض عقوبات دولية عليها، بما يهدد استقرارها، ويضعها على شفا نزاعات مسلحة. وتكشف هذه التطورات أن العلاقات بين السودان وإثيوبيا تتأثر بشكل مباشر بالمنافسة الدولية للقوى الكبرى، إذ غالباً ما يُنظر إلى البلدين كأدوات لتأمين مصالح القوى الدولية فى منطقة غنية بالموارد. فبينما استفاد السودان من دعم غربى بعد رفع العقوبات، اتجهت روسيا وتركيا لتعزيز علاقاتها مع إثيوبيا، ما يعكس التوازنات المعقدة والمتغيرة فى القرن الإفريقي، والسياسة المائية الإثيوبية ارتكزت على محورين أساسيين: الاول التوسع الجغرافى والسياسي: بضم إريتريا عام 1952 بما وفر منفذًا للبحر الأحمر، والسيطرة على إقليم أوجادين بموجب معاهدة 1897. المحور الثانى المياه كسلاح للتنمية والهيمنة: عبر طرح مشروع السد الكبير فى بنى شنقول منذ منتصف القرن العشرين، ليكون أداة للتحكم فى التنمية الإقليمية وربط مستقبل الجوار بالكهرباء الإثيوبية. ورغم أن الحرب الباردة عطلت المشروع لعقود، ظل حاضرًا فى الأجندة الإثيوبية حتى خرج إلى النور فى عهد آبى أحمد، الذى جعله عنوانًا لشرعيته الداخلية وأداة لمساومة الخارج. السلوك الإثيوبى ويبرز الكتاب ما أسماه «النهج الانتقائي» لإثيوبيا فى التعامل مع القانون الدولي. فهى ترفض اتفاقيات 1902 و1929 بزعم أنها «استعمارية»، لكنها فى مراحل سابقة استفادت منها لتعزيز موقفها. كما تقدم نفسها كدولة مناهضة للاستعمار بينما تمارس سياسات توسعية فى محيطها الإقليمي. هذه الازدواجية – بحسب المؤلف – تكشف جوهر الأزمة، حيث لا ترى إثيوبيا النيل كمجرى دولى مشترك، بل كأداة للنفوذ والسيطرة. والأبحاث تفرد مساحة لرصد المسار التفاوضى منذ الإعلان عن السد وحتى اللحظة الراهنة، فعلى مدار عشر سنوات لم تثمر جولات التفاوض، سواء تحت رعاية الاتحاد الإفريقى أو بوساطات دولية، عن أى اتفاق ملزم، ويبين الكتاب أن الأزمة بلغت ذروتها بعد فيضانات 2020، حينما أدرك السودان مخاطر الإجراءات الأحادية الإثيوبية، لينتقل من موقف الحياد إلى التحالف مع مصر فى المطالبة باتفاق قانونى يضمن سلامة سدوده وأمنه المائي. والأبحاث تركز على البعد الاستراتيجى لمشروع سد النهضة، باعتباره العنوان الأبرز للصراع فى إثيوبيا. فمنذ إطلاق المشروع فى 2011، حاولت الحكومات الإثيوبية تصويره ك«حلم وطني» قادر على توحيد القوميات المختلفة خلف هدف واحد. لكن المؤلف يكشف أن السد لم يكن مجرد مشروع تنموى لإنتاج الطاقة، بل أداة سياسية لحجب الأزمات الداخلية وتوظيف النزعة القومية فى مواجهة الخصوم. على الصعيد الداخلي، ارتبط السد الإثيوبى بحملة تعبئة واسعة، حيث طُرحت سندات تمويل وأقيمت مهرجانات خطابية، ليغدو المشروع بمثابة «عقيدة سياسية» يستخدمها النظام لكسب الشرعية. غير أن هذه الوحدة المزعومة لم تُخفِ الانقسامات العميقة، بل على العكس، فقد زادت من حدتها، إذ رأت بعض القوميات أن المشروع يخدم أجندات مركزية على حسابها. أما خارجيًا، فقد مثّل السد محور توتر غير مسبوق مع مصر والسودان بتعمد إثيوبيا المضى فى البناء دون اتفاق ملزم مع دول المصب، ما حوّل المشروع إلى أزمة إقليمية تمس الأمن المائى لمئات الملايين. وفى هذا السياق، فإن سد النهضة ليس مشروعًا هندسيًا فحسب، بل أداة جيوسياسية لإعادة رسم ميزان القوى فى حوض النيل، وورقة ضغط تفاوضى فى يد أديس أبابا، لكنها فى الوقت ذاته ورقة خطرة تهدد بانفجار صراع ممتد. وهناك أيضًا المشكلات الفنية والمالية التى تلاحق المشروع، بدءًا من الشكوك حول أمان السد، وصولًا إلى التكاليف الباهظة التى أنهكت الاقتصاد الإثيوبي، وهو ما يجعل المشروع مأزومًا فى مضمونه مثلما هو مأزوم فى سياسته. وقد جذبت أزمة سد النهضة اهتمام قوى كبرى مثل الولاياتالمتحدةوروسياوالصين، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، حيث لكل طرف حساباته الخاصة. فالولاياتالمتحدة ترى فى الأزمة مدخلًا للضغط على مصر والسودان، بينما تنظر الصين إليها من زاوية استثماراتها وبنيتها التحتية فى أفريقيا، وفى الوقت نفسه، تنشط قوى فى دعم أطراف متناقضة، ما يزيد من تعقيد المشهد. مخاطرة كبيرة وتضع الأبحاث بين ضفتى الكتاب سد الإثيوبى فى قلب المشهد بوصفه مرآة تكشف جوهر الأزمة الإثيوبية. فهو من ناحية رمز قومى تستند إليه السلطة لتبرير سياساتها، ومن ناحية أخرى مشروع غير متوافق قانونيًا، وفنيًا يهدد السلم الإقليمي. ومن هنا يصبح السد تجسيدًا لمعضلة إثيوبيا الكبرى: البحث عن شرعية داخلية عبر مشروع خارجي، والرهان على ورقة صراع بدلًا من بناء توافق وطني. ويرى الباحثون أن مستقبل الدولة الإثيوبية مرتبط بمصير هذا المشروع، فإذا أصرّت أديس أبابا على المضى فى سياسات الأمر الواقع دون تفاوض جاد، فإنها لا تخاطر فقط بعلاقتها مع دول المصب، بل أيضًا بوحدتها الداخلية التى قد تتفكك تحت ضغط الصراعات القومية. كما يتوقف الكتاب عند المبادرة الجزائرية بقيادة رمطان لعمامرة، معتبرًا أنها محاولة جادة لإحياء المفاوضات على أساس خبرة الجزائر فى تسوية نزاع إثيوبيا – إريتريا سابقًا. لكن نجاحها يبقى مرهونًا بمدى استعداد أديس أبابا للتخلى عن سياسة التعنت. صورة دقيقة يرسم الكتاب صورة دقيقة لمخاطر السد على مصر والسودان، بالنسبة لمصر: انخفاض الحصة التاريخية (55.5 مليار م3)، تراجع إنتاج السد العالي، تهديد الأمن الغذائي، تفاقم البطالة والهجرة الداخلية ،أما النسبة للسودان: تهديد أمان سدوده مثل الروصيرص، احتمالية انهيار كارثي، فقدان القدرة على إدارة موارده المائية، اعتماد مفرط على حسن نية إثيوبيا. هذه التداعيات تجعل من سد النهضة قضية وجودية تتجاوز الحسابات الفنية، ومن المفارقات التى يرصدها الكتاب أن المشروع، الذى أرادته الحكومة رمزًا للوحدة الوطنية، أصبح عنصرًا من عناصر الانقسام. ففصائل المعارضة ترى أن تكلفته الباهظة أنهكت الاقتصاد، بينما يستخدمه آبى أحمد لتعزيز سلطته. بل إن بعض الأوساط تخشى أن أى هجوم خارجى محتمل على السد قد يفاقم الصراع الداخلي، بدلًا من أن يكون مشروعًا للتنمية والاستقرار، وأزمة السد الإثيوبى لا تخص مصر والسودان وحدهما، بل تمس الأمن القومى العربى بأسره. فاستقرار وادى النيل يمثل مصلحة حيوية للخليج، كما أن انعكاسات الصراع تمتد إلى ليبيا وتشاد وإريتريا. وتبقى أطراف مثل إسرائيل وتركيا حاضرة فى خلفية المشهد بما لها من مصالح فى ملفات المياه والطاقة، وسد النهضة مشروع مأزوم منذ نشأته، فقد تحوّل من مشروع تنموى إلى «قنبلة مائية» تهدد استقرار حوض النيل، وتجسد صراعًا ممتدًا بين منطق الهيمنة الإثيوبية وحقوق دول المصب فى الحياة، والمخرج الوحيد يتمثل فى التعاون المشترك وإدراك أن الأمن المائى لا يتحقق عبر الإقصاء، بل عبر الشراكة العادلة. الأزمة الراهنة كما يثير «الصراع فى إثيوبيا.. المشروع المأزوم وتداعياته الإقليمية» إلى أن واحدة من أخطر مظاهر الأزمة الإثيوبية الراهنة تكمن فى الانقسامات داخل «قومية الأورومو»، وهى أكبر قوميات البلاد (34% من السكان)، والتى كان يُفترض أن تكون الحاضنة السياسية لرئيس الوزراء آبى أحمد، بحكم انتمائه إليها. غير أن السياسات التى انتهجها الأخير، سواء على الصعيد السياسى أو العسكري، أدت إلى انقسام «الأورومو» بين داعم ومعارض، الأمر الذى عمّق مأزق الدولة وهدد وحدتها. يبرز الكتاب أن منظمة «الديمقراطية لشعوب أورومو» – التى أصبحت جزءًا من حزب الازدهار الحاكم – تمثل جناحًا سياسيًا داعمًا لآبى أحمد، وتؤيد مقاربته القائمة على الحسم العسكرى ضد جبهة تحرير تيجراي. غير أن هذا الدعم لم يحقق لرئيس الوزراء النصر الذى كان يأمله، بل أدى إلى استنزاف الدولة وتآكل شرعيته. فى المقابل، ظهرت معارضة قوية من قوى أورومية أخرى، على رأسها جبهة تحرير أورومو التى نسجت تحالفًا مع جبهة تحرير تيجراي. هذا التحالف لم يكن مجرد تفاهم عابر، بل تطور إلى الإعلان فى نوفمبر 2021 عن تشكيل «الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفدرالية الإثيوبية»، كائتلاف يسعى إلى إسقاط آبى أحمد وإعادة صياغة النظام السياسى على أساس فيدرالى واسع. كما أصدر «مجلس أورومو الفيدرالي» بيانًا دعا فيه إلى وقف الحرب وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تمهد لحوار وطنى شامل، محذرًا من أن استمرار النهج الحالى يدفع البلاد نحو التفكك. من الناحية العسكرية، يوضح الكتاب أن «أوروميا» كانت ساحة انقسام حقيقي: الجزء المؤيد للحكومة أرسل قوات خاصة لمساندة الجيش الفيدرالى فى معاركه ضد تيجراي.. الجزء المعارض، ممثلًا فى «جيش تحرير أورومو»، دخل فى تحالف ميدانى مع قوات تيجراي، ونفذ عمليات مشتركة واسعة خلال عام 2021، وصلت إلى السيطرة المؤقتة على مدن إستراتيجية مثل «كومبولتشا وديسي»، بل والتهديد بالزحف نحو العاصمة أديس أبابا. ويذكر الكتاب أن هذا التحالف ليس جديدًا تمامًا؛ فقد تعاون «الأورومو» مع تيجراى فى نهاية الثمانينيات للإطاحة ب«منجستو هايلى مريام»، لكنه انهار سريعًا بعد وصول جبهة تيجراى للسلطة عام 1991 واليوم يعود هذا التعاون فى ظل ظروف أشد تعقيدًا وانقسامًا. والانقسامات داخل» الأورومو» تمثل ضربة مزدوجة لآبى أحمد: فهى أضعفت جبهته الداخلية، وفتحت الباب أمام تحالفات معارضة تهدد بقاء الدولة نفسها. ويرى المؤلف أن فرص استعادة إثيوبيا كدولة موحدة تبدو ضئيلة، إذ تراكمت الانقسامات العرقية على مدار عقود، وزادها فشل النخبة الحاكمة فى إدارة التنوع. وبينما يصر آبى أحمد على الحلول العسكرية، يتبنى قطاع واسع من «الأورومو» ومعهم قوى أخرى خطابًا يدعو إلى الحوار والتسوية السياسية كخيار وحيد لتجنب الانهيار الكامل. وفى ظل هذه التناقضات، يبقى مستقبل إثيوبيا معلقًا على قدرة أبنائها على تجاوز الانقسامات القومية العميقة، وإلا فإن البلاد ماضية نحو مزيد من التفكك وعدم الاستقرار. حرب مشتعلة يخصص الكتاب مساحة للحديث عن إريتريا، التى وجدت نفسها مرة أخرى فى قلب صراع إثيوبيا فإقليم تيجراى المتاخم لها كان رأس الحربة فى الحرب الإثيوبية – الإريترية (1998–2000) التى خلفت أكثر من مئة ألف قتيل، وهو ما جعل العداء بين الطرفين قابلًا للاشتعال فى أى لحظة. مع اندلاع «حرب تيجراي» عام 2020، تصاعدت الاتهامات بمشاركة الجيش الإريترى إلى جانب قوات آبى أحمد، لترد «جبهة تحرير تيجراي» بقصف العاصمة أسمرة بالصواريخ. ورغم النفى الرسمي، فإن شهادات الفارين إلى السودان أكدت وجود قوات إريترية نشطة، ما يعكس تداخل الصراع بين البلدين، ويهدد بجر المنطقة كلها إلى مواجهة مفتوحة. صراع المستقبل وعن مستقبل الدولة الإثيوبية فعلى المستوى الداخلى تواجه فى الوقت الراهن أزمات متعددة الاتجاهات، ففى الأفق صراع بين مشروع الدولة المركزية التى يتبناها حزب الازدهاروبين مشروع الفيدرالية الاثنية والذى طرحه التحالف بين القوميات فى قتالهم ضد مشروع المركزية. وقد أظهرت النتائج المختلفة للمشروعين كيفية تعاطى القوميات والعرقيات الإثيوبية مع المعتقدات والتقاليد والأعراف العرقية والقومية بوتيرة كبيرة، ليس فقط لتحقيق مكتسبات سياسية، ولكن للحفاظ على الانتماءات الأولية، والتى تعد أحد أهم سمات العرقية والأثنية والقبلية الإفريقية. وإثيوبيا كما يؤكد الباحثون تنتظر تطورات كبيرة نتيجة الصراع الإثنى الدائر بين مكوناتها المختلفة، وأقاليمها المتناحرة، ولا يبدو أن هناك أفقا لتسوية سلمية، حيث إن السلاح هو لغة جميع الفرقاء الذين نزلوا إلى الميدان، ولا يلتفتون إلى أى ضغوط، أو اعتبارات داخلية، أو خارجية، وباتت الأوضاع تنذر بكارثة على المستويات كافة، ويبدو أن آبى أحمد قد قاد الدولة التى كانت قوة إقليمية لا يستهان بها فى شرق القارة نحو الفشل والانهيار.