بعد مرور ربع قرن على وضعه نظرية شهيرة في العلاقات الدولية اعتبر فيها أن "العقوبات الاقتصادية لا تُجدي نفعًا كأداة ردع"، خرج الأكاديمي الأمريكي البارز دانييل دبليو دريزنر، عميد كلية فليتشر بجامعة تافتس، ليؤكد أن التجربة العملية مع روسيا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، أثبتت صحة توقعاته القديمة. فالعقوبات الغربية وفقًا لقوله رغم قسوتها واتساع نطاقها لأكثر من 40 شهرًا، لم تُوقف آلة الحرب الروسية الأوكرانية ولم تُرغم موسكو على تقديم أي تنازلات حقيقية. وهذا الاعتراف، الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، يفتح الباب أمام نقاش واسع حول، «هل وصلت سياسة العقوبات إلى طريق مسدود أمام روسيا، أم ما زالت لها أدوار أخرى غير الردع المباشر؟». فشل الردع بالعقوبات أوضح التقرير، أن مرور أكثر من 40 شهرًا على الحرب الروسية الأوكرانية، قد كشف محدودية العقوبات الاقتصادية كأداة للردع أو الإكراه. فالحرب الروسية الأوكرانية منذ انطلاقها في فبراير 2022، استمرت بلا توقف حتى اللحظة، ما جعل العقوبات الغربية تبدو غير قادرة على تغيير حسابات موسكو الاستراتيجية. موقف واشنطن «المتذبذب» بحسب «فورين بوليسي»، فإن السياسة الأمريكية تجاه روسيا بدت مترددة، حيث لوّح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب مرارًا وتكرارًا بفرض عقوبات إضافية على موسكو، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة. وفي الوقت نفسه، اتخذ إجراءات صارمة ضد دول أخرى مثل الهند لشرائها النفط الروسي، بينما امتنع عن معاقبة الصين التي تستورد كميات أكبر من الخام الروسي. اقرأ أيضًا: شرعية ضعيفة وسيطرة قوية| «ترامب».. الرئيس الأقل شعبية في تاريخ أمريكا تغيّر في مواقف بعض المسؤولين أما وزير الخارجية الأمريكي الحالي ماركو روبيو، الذي كان من أبرز المدافعين عن سياسة العقوبات، فقد أبدى شكوكًا متزايدة، ففي مقابلة ببرنامج "ميت ذا برس"، أقر بأن العقوبات القاسية المفروضة على روسيا لم تُجبر بوتين على تغيير مساره، مشددًا على أن نتائجها تحتاج سنوات لتظهر، وهو وقت لا تملكه أوكرانيا. في المقابل، يرى مؤيدو العقوبات أن استمرار الفشل لا يعني التراجع عنها، بل محاولة تعزيزها، فقد كشف كيفن هاسيت، المدير السابق للمجلس الاقتصادي الوطني بالبيت الأبيض، عن مناقشات جارية في الكونجرس لإقرار عقوبات ثانوية أقسى تستهدف الدول التي تواصل استيراد الطاقة الروسية، على أمل دفع موسكو إلى مائدة التفاوض. عودة إلى «مفارقة العقوبات» أعاد دريزنر، التذكير بما عرضه في كتابه الصادر عام 1999 بعنوان "مفارقة العقوبات: فن الحكم الاقتصادي والعلاقات الدولية"، فقد أوضح أن كثرة فرض العقوبات تعكس توقعات بتصاعد الصراعات المستقبلية، لكنها في الوقت نفسه تدفع الطرف المستهدف للصمود أكثر خوفًا من تقديم تنازلات تُضعف موقعه لاحقًا. أكد دريزنر، أن تجربة روسيا عززت فرضيته، إذ تسببت العقوبات في ركود اقتصادي، وارتفاع التضخم وأسعار الفائدة، لكنها لم تمنع موسكو من المضي قدمًا في الصراع، فالمطالب الإقليمية، بحسبه، تُعتبر أهم من الضغوط الاقتصادية، وهو ما جعل روسيا مستعدة لدفع أثمان باهظة بشريًا وماديًا للحفاظ على مكاسبها العسكرية. وفقًا لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، قارن التقرير، بين روسيا ودول مثل إيران وفنزويلا، التي عانت اقتصاداتها من عقوبات قاسية خلال السنوات الماضية دون أن تقدم أنظمتها تنازلات ملموسة، وخلص إلى أن روسيا، كقوة أكبر وأكثر نفوذًا، قادرة على الصمود بدرجة أكبر أمام الضغوط الغربية. حدود النظريات الأخرى رغم أن بعض الباحثين أشاروا إلى أن استهداف النخب أو تعزيز التعاون الدولي قد يرفع فرص نجاح العقوبات، إلا أن دريزنر يرى أن هذه العوامل لم تُثبت فعاليتها مع روسيا، فالجنوب العالمي لم يلتزم بالقيود، والأوليجارشيون الروس (وهم فئة قليلة من الأثرياء الذين يمارسون نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا في روسيا) يخشون بوتين أكثر من تجميد أرصدتهم الغربية. واعتبر التقرير، أن أبرز مشكلة واجهت العقوبات على روسيا هي عدم وضوح الشروط المرتبطة بها، فالغرب يُطالب موسكو بالتخلي عن جميع مكاسبها الإقليمية في أوكرانيا، بينما ضمّت روسيا بالفعل أربع مناطق في عام 2022، ما يجعل التراجع عنها مُستبعدًا، خاصة بعدما كرّسته قوانينها الداخلية. الأدوار الأخرى للعقوبات رغم ذلك، لا يرى دريزنر، أن العقوبات بلا جدوى بالكامل،، فهي تحمل ُبعدًا رمزيًا مهمًا يتعلق بتأكيد مبدأ السيادة الإقليمية، ورسالة واضحة لأي قوى تسعى لفرض واقع جديد بالقوة بأن التكلفة ستكون باهظة، كما أن العقوبات قد تُضعف قدرة روسيا على خوض حرب طويلة من خلال تقليص وارداتها الحيوية. وخلص دريزنر، إلى أن نظريته حول «مفارقة العقوبات»، ما زالت صامدة بعد 25 عامًا، إذ تُؤكد أن العقوبات وحدها لن تُرغم موسكو على التراجع، لكنها تظل أداة ضغط ذات وظائف أخرى، من أبرزها تثبيت قواعد النظام الدولي، وإطالة أمد كلفة الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يجعلها جزءًا أساسيًا من معركة الغرب ضد الكرملين.