عندما غزا الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أوكرانيا تعرضت بلاده لعقوبات غربية قاسية ولكنه لم ينسحب، وبعد ما يقرب من ستة أشهر على بدء حربه فى كييف، مَن هو الرابح فى حرب العقوبات هذه؟ وفى المرحلة الأولى من الحرب كانت العقوبات عنصرًا رئيسيًا للردع، لكنها لم تنجح فى تحقيق هذا الردع، وذلك لأن رؤية بوتين الخاصة بروسيا الكبرى وإيمانه بأن النصر كان قريبًا جعلاه لا يقاوم خوض هذه الحرب، ولكن حتى لو لم يكن مستعدًا تمامًا للغزو، فإننا نعلم من التاريخ أنه فى حين أن التهديدات بالعقوبات لم تحقق سوى بعض النجاح المحدود، إلا أنها لم تكن قادرة على ردع أى معتدٍ مصمم على الذهاب إلى الحرب. فيما سعت المرحلة الثانية من الحرب، والتى تتمثل فى فرض العقوبات الشاملة على موسكو بمجرد غزوها لكييف، إلى فرض المزيد من التكاليف إلى جانب دعم حلف شمال الأطلسى (الناتو) للمقاومة الأوكرانية، وهى المرحلة التى كانت تهدف إلى إجبار الرئيس الروسى على الانسحاب، وقد قطعت العقوبات المالية روسيا عن جزء كبير من النظام المالى الدولى، بما فى ذلك تجميد ما يقرب من نصف احتياطيات العملة الصعبة التى تبلغ قيمتها 640 مليار دولار، كما تم حظر تقنيات مثل أشباه الموصلات، والتى تعد حيوية لكل من المعدات العسكرية والمنتجات التجارية مثل الهواتف المحمولة والسيارات، وعلى عكس ما حدث فى العديد من حالات العقوبات الأخرى، فقد أنهت أكثر من 1000 شركة متعددة الجنسيات، أو على الأقل خفضت، أعمالها فى روسيا أو معها. وكان لحزمة العقوبات الشاملة تأثير اقتصادى كبير على البلاد، إذ شهدت توقعات الناتج المحلى الإجمالى الروسى أسوأ انكماش منذ فترة التسعينيات الفوضوية. ولكن كما تفعل الدول الخاضعة للعقوبات فى كثير من الأحيان، فقد لجأت روسيا إلى ثلاث استراتيجيات دفاعية رئيسية لاحتواء تكاليف هذه العقوبات، وذلك من خلال التعامل مع شركاء تجاريين بديلين، وخرق العقوبات، واستخدام التعويضات المحلية. وعلى الرغم من انضمام العديد من الدول إلى العقوبات إلا أن بعض الدول الرئيسية لم تنضم إليها، حيث زادت الصين وارداتها من النفط الروسى، وقدمت لموسكو بعض السلع العسكرية، وأصدرت العديد من البيانات الداعمة، كما زادت الهند من واردات النفط الروسية من 1٪ إلى 20٪، ومع رفض المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة زيادة الإنتاج بشكل كبير، فقد ارتفعت الأسعار العالمية بشكل أكبر من التخفيضات التى لجأت روسيا لتقديمها، مما جعل الأرباح أعلى من العام السابق، وفقًا لبعض التقديرات. أما المرحلة الثالثة الحالية من الحرب، وهى مرحلة الاستنزاف، فمَن الذى سيتراجع أولًا؟ يبدو أن العقوبات الروسية المضادة، وأهمها قطع إمدادات الغاز الطبيعى عن الاتحاد الأوروبى، سيكون لها تأثيرها الخاص، فقد تسبب نقص الغاز فى توقف الصناعات الرئيسية فى القارة، وتحتوى اتفاقية الاتحاد الأوروبى الأخيرة لتقاسم الغاز على ثغرات كافية لجعل شبح التقنين فى موسم الشتاء الذى يلوح فى الأفق، فيما بدأت بعض الدول بالفعل فى فرض بعض التقنين على الاستخدام. وهناك التداعيات العالمية الأوسع، فهناك مشكلة التغير المناخى، فيما تتراجع الولاياتالمتحدة عن القيود المفروضة على التنقيب عن النفط والغاز محليًا، وتتحول أوروبا مرة أخرى إلى استخدام الفحم، وبينما انخفضت أسعار النفط العالمية مؤخرًا، إلا أنه لاتزال هناك مخاوف من تشديد العقوبات النفطية الروسية، وقد تقترب الأسعار العالمية من 200 دولار للبرميل، وتضررت البلدان الفقيرة والنامية بشكل خاص من كل هذا، حيث تم دفع ما لا يقل عن 40 مليون شخص إلى الفقر. وعلى الرغم من أن تكتيكات الحرب الروسية مسؤولة بشكل أساسى عن مواجهة ما يقرب من نصف سكان العالم نقصًا فى الغذاء، فإن جزءًا كبيرًا من جنوب الكرة الأرضية يلقى باللوم أيضًا على العقوبات الغربية. وتشير بعض التحليلات إلى أن العقوبات تلحق ضررًا متزايدًا بالاقتصاد الروسى، وفى حال لم يبدأ التعب من العقوبات الغربية فى الظهور واستمرت المقاومة الأوكرانية المدعومة من حلف شمال الأطلسى فى تكبد تكاليف باهظة على الأرض، فإن الكماشة الاقتصادية والعسكرية قد تزداد إحكامًا، ومع ذلك فإنه لا ينبغى أن يكون هناك أى توقعات بتراجع بوتين، فالادعاءات المتعلقة بالعقوبات التى ستعمل على «تدمير آلة بوتين الحربية» لا تعكس الصورة الكاملة. وسيكون قرار الغرب بالتراجع عن العقوبات أمرًا شديد الصعوبة، فما هى العقوبات التى قد يتم رفعها، وما الذى سنحصل عليه فى المقابل؟ وهل ستبقى بعض القوات فى مكانها بشكل مستمر؟ هذه أسئلة مهمة يجب توفير الإجابة عليها. نقلًا عن مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية