فى تاريخ الأمم، لحظات فارقة تتحدد عندها ملامح الجغرافيا السياسية ومفاتيح القرار الوطني. ومصر، بما تحمله من عمق حضارى وموقع جغرافى جعلها معبرًا بين الشرق والغرب، وبوابة البحر إلى الصحراء، لم تكن أبدًا دولة عابرة على الخريطة، بل كانت دومًا رقمًا صعبًا فى معادلة السياسة الإقليمية والدولية. السيادة المصرية الخارجية ليست مجرد شعار يرفع فى الخطب، بل هى حصيلة صراع طويل، امتد قرونًا من التداخل بين الداخل والخارج. فمصر التى خرجت من تحت ظلال الاحتلال فى منتصف القرن العشرين، وجدت نفسها أمام سؤال وجودي: كيف تحمى استقلالها الفعلى وسط عالم لا يعترف إلا بلغة القوة والتوازن؟ فى الستينيات مثلا، كان صوت القاهرة يصل إلى كل عاصمة فى المنطقة. لم تكن السيادة الخارجية مجرد حماية للحدود، بل امتدت إلى القدرة على رسم الأجندة العربية، وعلى تحديد موقع الشرق الأوسط فى لعبة الحرب الباردة. كان العالم ينصت إلى القاهرة، لا لأنها تملك فقط القوة العسكرية، بل لأنها تملك أيضًا سردية سياسية ملهمة. ثم جاءت عقود لاحقة، انكمشت فيها الدائرة المصرية أحيانًا، فضاقت مساحات التأثير لحساب ضغوط اقتصادية أو تحولات دولية. ولكن، فى لحظات الانكفاء، لم ينطفئ السؤال الكبير: أين تقف مصر من العالم، وكيف تحافظ على استقلالها القرار؟ اليوم، يمكن القول إن السيادة المصرية الخارجية لا تُقاس فقط بقدرة الدولة على صياغة بيانات رسمية، بل بتوازن حساس بين الإرادة الوطنية ومقتضيات التحالفات الدولية. مصر تمضى فى علاقاتها مع القوى الكبرى وفق قاعدة «المسافة المحسوبة»: مقربة حين تقتضى المصلحة، محافظة على مسافة آمنة حين يشتد ضغط الأطراف. هذه ليست سياسة حياد، بقدر ما هى محاولة لإعادة تعريف الثقل المصرى كفاعل مستقل، قادر على أن يقول «نعم» حين يريد ويقول «لا» حين يريد. لقد أصبح مفهوم السيادة المصرية معاصرًا، لا يتوقف عند حدود السيطرة على الأرض، بل يطال إدارة شرايين الاقتصاد، وطرق الطاقة، ومفاتيح السلام والحرب فى الإقليم. ولأن العالم اليوم لم يعد يستند إلى الجغرافيا وحدها، بل إلى القدرة على صوغ شبكة مصالح، فإن مصر تعيد إنتاج دورها عبر إعادة تمركزها كهمزة وصل بين أوروبا وإفريقيا، وبين المتوسط والخليج، بين واشنطن وموسكو، وبين بكين والعالم العربي. السيادة المصرية اليوم هى ابنة التاريخ، وحصيلة الذاكرة، وتجربة معاصرة فى إدارة التوازنات. هى ليست عودة إلى الوراء، وليست اندفاعًا أعمى إلى الأمام، بل محاولة واعية لتثبيت موقع الدولة فى زمن شديد السيولة. وفى لحظة إقليمية ودولية يختلط فيها الواقع بالرماد، تسعى القاهرة إلى أن تحتفظ بقدرتها القديمة: أن تجلس إلى المائدة لاعبًا لا متفرجًا، صانعًا للأحداث لا متلقيًا لها.