فى خريف العمر، يجد الكثير من كبار السن أنفسهم فى مواجهة عدو صامت اسمه الوحدة، وهو ما يجعلهم يبحثون عن الونس الذى يفتقدونه فى أولادهم الغائبين عنهم، يلجأون إلى الزواج ليس بدافع العاطفة أو الرغبة فى تكوين أسرة، بل بحثاً عن الرفقة والدعم النفسى فيما تبقى من العمر. فى هذا التحقيق نستمع إلى قصص إنسانية مؤثرة لأشخاص تجاوزوا الستين، لكنهم اختاروا أن يمنحوا أنفسهم فرصة جديدة للحياة عبر زواج الونس، نتعرف على دوافعهم، والتحول الإيجابى الذى أحدثه هذا القرار فى حياتهم، كما نستكشف من خلال آراء المختصين فى علم الاجتماع والنفس الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة. يقول عبد الحميد -67 سنة- موظف بالمعاش، إنه تعرف على منى (60 سنة) أثناء حضور عزاء قريب مشترك، وكانا يتبادلان الحديث فى كل مرة يتقابلان فيها سواء فى جنازة أو فرح. وذات مرة قالت له: «أنا لو كنت صغيرة كنت اتجوزتك»، فضحك وقال لها: «طيب إحنا كبار، وإيه المانع؟ يلا بينا نتجوز». ويقول: «لم يكن بيننا حب، ولكن تقارب إنسانى وارتياح نفسي.. أنا كنت حاسس بفراغ بعد ما ولادى اتجوزوا، وهى كانت عايشة لوحدها.. اتجوزنا فى صالون بسيط، من غير شبكة ولا فستان أبيض، ومن يومها وأنا مش باكل لوحدى أبدا». الونس نعمة أما أمينة -63 سنة- فقد مات زوجها وهى فى الخمسين من عمرها، وكانت ترفض فكرة الزواج خوفًا من كلام الناس، لكن الوحدة كادت أن تقتلها، وتقول: «كنت بصحى من النوم مش عارفة أتكلم.. صوتى نفسه نسيته».. وتقدم لها أحد جيرانها وهو أرمل يكبرها بعامين، لم يكن بينهما حب، لكنها وافقت وقالت لابنتها التى كانت تعارض الزواج: «أنا مش عاوزة راجل فى حياتي.. بس محتاجة صوت فى البيت». وبالفعل تزوجا، وتقول: «بقينا نلعب طاولة ونتفرج على مسلسلات سوا.. الونس نعمة». حياة مليئة بالدفء ويأسف عبد الوهاب أحمد -72 سنة - على نفسه قائلاً: «كبرت وما لحقتش أحب، بس لحقت أتونس». عاش عبد الوهاب حياته بدون زواج، منشغلًا بأشقائه ثم بمرض والدته، وبعد وفاتها شعر بأن البيت أصبح مثل المقبرة، ورتبت له شقيقته لقاء مع سيدة أرملة عمرها 66 عاما ولا تريد أكثر من الونس فى حياتها التى تعيشها بمفردها، ومن أول مقابلة شعرا براحة وقررا الزواج، ويعيشان معا فى شقة بسيطة، ووصف حياتهما بأنها بسيطة لكنها مليئة بالدفء. زواج الاحترام والونس أما سلوى -62 سنة - فقالت إنها تريد شخصاً تعيش معه بسلام بعد أن انفصلت عن زوجها منذ 5 سنوات، وكانت فى حاجة شديدة لشخص تتكلم معه وتتناول وجباتها برفقته، ويذكرها بمواعيد أدويتها التى غالبا ما تنساها، ويخرج معها للتمشية، وبالفعل تزوجت من رجل مطلق هو الآخر، وكان زواجا مليئا بالاحترام والونس، وهذا يكفى بالنسبة لها حتى لو كان بدون حب. ارتياح وتفاهم ترى د. سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع، أن زواج الونس متعارف عليه منذ عشرات السنين، وعلى عكس المتوقع فإن المجتمع يتقبله بشكل كبير، وكثيرا ما تحدث هذه الزيجات بعد أن يتقابل الرجل والمرأة فى دار للمسنين على سبيل المثال، يتعارفان ويحدث بينهما ارتياح وتفاهم فيقرران أن يرتبطا، وبالفعل يستقلان بحياتهما ويتزوجان. وتضيف: «منهم فئة كبيرة جدا يعيش أبناؤهم بعيدا عنهم سواء داخل البلاد أو خارجها، ولا يسألون عنهم إلا على فترات متباعدة، والتحديات التى من الممكن أن تواجه هؤلاء المقبلين على الزواج فى سن متأخرة تكمن فى رفض أبنائهم لهذا الزواج». وتحكى عن صديقة قديمة لها قررت منذ عدة سنوات بعد وفاة زوجها وانشغال أبنائها عنها أن ترتبط بشخص تعرفت عليه وشعرت أنه مناسب لها، وقالت إنها لم يكن أمامها خيار آخر بعد أن أصبحت وحيدة لا تشعر بالاهتمام حتى من أبنائها وأحفادها، وهم أقرب الناس إليها، ومنعزلون عنها ولا يسألون عنها ولو بالمكالمات، وبالفعل هى تمتلك كل الحق أن تبحث عمن يهتم بها وتتونس معه، وتتناول معه طعامها، ويتشاركان كل تفاصيل حياتهما، وهو بديل رائع للوحدة». وتقول د. سامية إنها قابلت رجلًا ذات مرة فى إحدى دور المسنين يعيش مأساة حقيقية بعد أن قاطعه أبناؤه حتى إنهم يرفضون مقابلته، ويعيش بمفرده فى دار المسنين ينتظر الموت كل يوم، فقرر أن يبحث عن سيدة تتوافق ظروفها معه ليتزوجها ويعيشا معا أيام شيخوختهما فى ونس ومودة ورحمة ومشاركة وجدانية وروحية.. وتوضح: «إذا اهتم الأبناء والأحفاد أيضا بالأب والأم فى كبرهما الاهتمام المطلوب، لن يحتاجا للزواج مطلقا، ولا حتى لدور المسنين، فأغلبهم يذهبون لدور المسنين ليشعروا بالونس والأمان والألفة، ويتخلصوا من الوحدة والفراغ، وهو فعل يجب أن نشجعه وندعمه، فالونس مطلوب طالما أنه على سنة الله ورسوله، ومن حقهم أن يعيشوا مع بعضهم، ونفس الحال فى معظم الدول الأوروبية، وأحيانا يكون متوسط أعمارهم أعلى من المصريين، فقد تصل أعمارهم وقت اتخاذ خطوة الزواج إلى 80 أو 90 سنة». باب للأمان ومن جانبها، ترى د. هبة على استشارى العلاقات الزوجية والأسرية أن زواج الونس فى غاية الأهمية، ويفتح باب الأمان للكثيرين، ليشعروا بالرحمة والود والتراحم، وهؤلاء الأشخاص يمرون بتجارب سيئة وصعبة إما عن طريق الانفصال أو بسبب الوفاة، وهو ما يجعلهم متلهفين لصنع أى بداية جديدة تعوضهم عن فقدهم لشريك الحياة». وترى أنه فى هذه المرحلة يكونون خائفين من العيش بمفردهم، ويفضلون دائما أن يشعروا بالمشاركة والاهتمام، وأنه يوجد فى حياتهم شخص يتحدث معهم ويسأل عنهم ويهتم بهم، وهى من ضمن الاحتياجات النفسية لكل إنسان.. وتوضح أن لهذا الزواج الكثير من الإيجابيات، منها أنه يكون ونسا وسندا، ويمنح الشخص إحساسا بأن هناك أحدا بجانبه إذا تعب أو مرض سوف يرعاه، وأغلب كبار السن يكون لديهم إحساس بأنهم سوف يموتون ولن يشعر بهم أحد، وهذا الزواج يوفر لهم نوعاً من الاطمئنان بأنهم لن يموتوا دون أن يعلم أحد بوفاتهم. بالإضافة إلى أن هذا الزواج يصنع حالة من المشاركة فى الحياة ويخفِف الوقت على بعضهما، بالإضافة إلى الرعاية المتبادلة، وشعور بأنه لا يزال هناك أمل مع البداية الجديدة للحياة، ما يمنحهما طاقة نفسية جديدة. وهى خطوة توفر لهم شعورا بأنهم لا يزالون على قيد الحياة ولديهم مشاعرهم التى من حقهم التعبير عنها، بالإضافة إلى أن الحب والزواج والمشاعر ليس لها عمر. وأكدت د. هبة على ضرورة أن يكون الاختيار سليما ومناسبا، خاصة فى مرحلة ما بعد ال60 سنة، الذين يحتاجون إلى الرحمة والمودة والاحترام بين الطرفين بشكل كبير، بالإضافة إلى الاهتمام ببعضهما البعض، وتوفير الاهتمام بالحالة الصحية والاحتواء، وتبادل الأحاديث والحكايات. وعن التحديات والمشكلات التى تواجه هذا النوع من الزواج، تقول د. هبة إنه بالطبع يحدث الكثير من المشكلات، أهمها رفض الأبناء لزواج آبائهم أو أمهاتهم، وأكثر شيء خاطئ هو أن يقال لهم: «إنتوا لسه فاضلكم قد إيه علشان تتجوزوا؟» فهذه الفترة يطلق عليها «أزمة الحكمة»، ودائما ما يشعر الإنسان بأن حياته انتهت وأنه على مشارف الموت، وهذا الإحساس صعب جدا أن يشعر به أحد، وعلى العكس تماما، علينا أن نشعرهم دائما بأنهم بعد خروجهم على المعاش سيبدأون حياة جديدة ومرحلة تحقيق كل الأشياء التى لم يكونوا يمتلكون الوقت لتحقيقها، ولعب الرياضة، والمشاركة فى الأعمال التطوعية.. وتقول إن الزواج فى هذه المرحلة العمرية يكون أكثر نضجا، ولكن الأبناء هم من يتخذونه كتحد مع أوليائهم، وهذا أكبر خطأ ممكن الوقوع فيه، فهم يحتاجون للزواج ليس بالمعنى الحرفى له فقط، ولكنهم يحتاجون للترابط والتماسك ووجود رعاية وحماية وسند متبادلين ،فدائما ما يكون رد أى شخص قرر أن يتزوج فى سن كبيرة أنه خائف أن يموت بمفرده ولا يشعر به أحد من أبنائه، خاصة من يعيشون بمفردهم، ما يجعلهم فى حاجة لزوج أو زوجة يشاركهم ما تبقى لهم فى الدنيا، وليس لهذا الزواج أية شروط سوى أن تكون عشرتهما طيبة، ويتبادل الطرفان التراحم والمودة فيما بينهما. ومن جانبه يرى د. على النبوى استشارى الطب النفسى وعلاج الإدمان أننا نعيش فى مجتمع ذكورى وعنصرى فيما يخص «زواج الونس»، فإذا توفيت الزوجة يسارع الأولاد بالبحث عن زوجة لأبيهم، بينما فى حالة الأم «الأرملة» التى تعيش بمفردها وفى حالة صحية ممتازة، وكان الأب مريضا لسنوات طويلة يرفض الأبناء زواج والدتهم لأنهم يعتبرونه تعديا على كرامتهم، على الرغم من أنه من الناحية النفسية فإن زواج ما بعد الستين مفيد جدا وداعم للحالة النفسية. ويتذكر د. على حالات مسنين كثيرة قام بعلاجها كان الزواج فيها أحد أهم خطوات الشفاء، قبل الزواج يكون الشخص مكتئبا قليل الشهية للطعام والاستمتاع بالحياة، لكن بعد الزواج تتغير شخصيته للأفضل وترجع إليه ابتسامته وذلك بملاحظة كل من حوله.. ويحكى عن مريض كان فى الخامسة والستين من عمره وظل وحيدا خمس سنوات بعد وفاة زوجته لأن أبنائه يخافون من مشاركة زوجة الأب فى الميراث لكن عندما وافقت إحدى السيدات على الزواج مقابل النفقة والمعيشة بدون إرث والاكتفاء بالمعاش بعد وفاته وافق الأبناء، وتغيرت حياة الأب للأفضل وأصبح أكثر حيوية ونشاطا لدرجة جعلت أبناءه وزوجاتهم يغيرون من زواج الأب، وقد وجد أنه فى هذه المرحلة أكثر تعبيرا عن مشاعره الإيجابية والعاطفية لزوجته على عكس شخصيته فى شبابه مع زوجته الأولى وكأنه يصلح من أخطائه السابقة، لأنه فى حالة زواج الونس أو زواج ما بعد الستين يكون الزوج أكثر مودة ورحمة بالزوجة. ويوضح استشارى الطب النفسى أن السيدات كبار السن «الأرامل» فى مجتمعنا أقل حظا، لأن الأبناء يعتقدون أن الأم أكبر من ذلك ولا يحق لها أن تفكر فى الزواج ولذلك ينصحون الأم بالذهاب لأداء مناسك العمرة وكأنهم يقولون لها رسالة ضمنية بأن تنسى الزواج وتفكر فى الآخرة، وموافقة الأبناء على زواج والدتهم قلما يحدث فى مجتمعنا، ومن هنا يتضح أن زواج تلك المرحلة العمرية أحد الدعائم فى حياة الفرد وعلى المجتمع أن يتخلص من الأفكار القديمة الخاطئة حول زواج كبار السن، وأن يتخلى الأبناء عن أنانيتهم وغيرتهم نحو زواج الأم أو الأب بعد فقد شريك حياته.