في عمق الضفة الغربية، تتكشف ملامح واقع جديد صنعته حكومة الاحتلال الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر 2023، إذ تحولت المستوطنات إلى معاقل مسلحة، والمستوطنون إلى ميليشيات ترتدي الزي الرسمي، فيما يتوارى جيش الاحتلال عن مشهد ضبط الأمن، تاركا الميدان لعنف منفلت يطال الفلسطينيين وحتى اليهود المخالفين لتيار السلطة. وفي تقرير لموقع HaMakom الإسرائيلي - "أسخن مكان في الجحيم" - يرصد تفاصيل هذا التحول الخطير، وأبعاده الميدانية والقانونية والسياسية، وصولًا إلى تحذيرات من احتكار هؤلاء المستوطنين للعنف. فقدان السيطرة منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر ضخت الحكومة الإسرائيلية آلاف قطع السلاح إلى المستوطنات، وألبست المستوطنين زيًا عسكريًا، مانحة إياهم صلاحيات واسعة على حساب جيش الاحتلال في الضفة الغربية، وتحول الجيش، الذي يفترض أن يفرض النظام، إلى جزء من المشروع الاستيطاني، ما أفضى إلى فوضى ميدانية غير مسبوقة، وعنف مدعوم ضمنيا من السلطات، حتى عندما يستهدف يهودًا. التقرير يوضح أن الدولة لم تكتفِ بتسليح المستوطنين، بل نظمتهم في "فرق استعداد" و"وحدات دفاع مكاني"، دربتهم وزودتهم بمعدات متطورة، بينها أجهزة تسمح لهم بحرية حركة أكبر، وكثير من هؤلاء المستوطنين يخدمون في الاحتياط، ما يتيح لهم العودة إلى قراهم بأسلحة إم-16، ويستخدمونها لتهديد الفلسطينيين في القرى المجاورة. تلاشي الحدود الواقع الميداني في الضفة الغربية بات يطمس الخط الفاصل بين المستوطنين المدنيين وقوات الأمن الإسرائيلية لم يعد واضحًا من المسؤول، ومن يملك سلطة إصدار الأوامر، كثيرون يرتدون الزي العسكري ويحملون السلاح، ويدعون السلطة، فيما تصمت جهات التنسيق وترفض الإجابة أو الحوار. حتى الجيش اعترف مؤخرًا بأنه لا يجمع بيانات عن عنف "فرق الإنذار" وجنود الاحتياط ضد الفلسطينيين، رغم أن هذه الوحدات منظمة وممولة من قبل دولة الاحتلال، هذه الفوضى تغذي حالة الإفلات من العقاب، وتخلق بيئة خصبة لمزيد من الانتهاكات. ادعم رسمي للعنف يؤكد التقرير أن مؤسسات دولة الاحتلال، التي كانت تغض الطرف عن العنف الاستيطاني، انتقلت في عهد الحكومة الحالية إلى مرحلة الدعم المباشر له، وزير المالية ووزير الدفاع المسؤول عن الإدارة المدنية، بتسلئيل سموتريتش، يقود هذه السياسة عبر توحيد الصلاحيات لخدمة أيديولوجية الضم. سموتريتش أعلن صراحة أن "عام 2025 سيكون عام السيادة في الضفة الغربية، في إشارة واضحة إلى نية فرض السيادة الإسرائيلية على المنطقة "ج" (60% من مساحة الضفة الغربية)، وتقليص دور الجيش هناك لصالح المستوطنين. تطهير عرقي الهدف المرحلي لهذه السياسة يتمثل في تفريغ المنطقة "ج" من الفلسطينيين تمهيدًا لضمها رسميًا، منذ تولي الحكومة الحالية، تضاعفت إعلانات "أراضي الدولة" وتصاريح البناء للمستوطنين، بينما يحرم نحو 300 ألف فلسطيني في المنطقة من أي تخطيط عمراني أو تصاريح بناء. الضغط المتواصل من المستوطنين أدى إلى تقليص مساحات الرعي، ما أجبر الرعاة الفلسطينيين على بيع قطعانهم أو إطعام ما تبقى بالأعلاف المشتراة، ووفق منظمة "بتسيلم"، تم تهجير 38 تجمعًا فلسطينيًا، يضم أكثر من 2200 شخص، بوسائل تراوحت بين بناء الأسوار والمضايقات المستمرة والعنف الجسدي. عنف ضد اليهود اللافت أن العنف الاستيطاني امتد إلى نشطاء يهود متضامنين مع الفلسطينيين، وفي 11 يونيو، تعرض ثلاثة نشطاء أريك آشرمان، وهيلل ليفي فاور، ويفات كيمحي لهجوم في قرية ميهاماس، حيث طاردهم شبان مستوطنون ملثمون وضربوهم بالهراوات حتى أصيبوا بجروح وكسور. المثير أن المستوطنين الذين طوقوا المكان لم يكونوا من قوات الأمن، رغم ارتدائهم زيًا عسكريًا، بل مدنيين مسلحين مارسوا سلطة الأمر الواقع. كشفت محاولات النشطاء الثلاثة لتحريك دعوى جنائية منظومة بيروقراطية متشابكة وغير متعاونة، بعد تقديم شكوى، لم يتم استدعاؤهم للإدلاء بشهاداتهم إلا بعد تدخلهم الشخصي، ثم أحيلت القضية إلى النيابة العسكرية، وهي جهة تختص بالفلسطينيين، ما أدى إلى تجميد الإجراءات. حتى بعد توثيق 27 تفاعلًا رسميًا مع الشرطة والجهات القضائية، لم تفتح إجراءات جنائية، واضطر النشطاء إلى اللجوء لمحامين خاصين على نفقتهم. معاناة الفلسطينيين يشير التقرير إلى أن ما واجهه النشطاء اليهود يعكس بدرجة أقل حجم المعاناة التي يواجهها الفلسطينيون، الذين غالبا ما يعتقلون بعد تقديم شكاوى ضد المستوطنين، وفي حالات قتل، كما في مقتل الفلسطيني عودة هادليان برصاص المستوطن ينون ليفي، أفرج عن الجاني بعد أيام، بينما اعتقل فلسطينيون آخرون لفترات أطول. يحذر تقرير "أسخن مكان في الجحيم" من أن امتناع دولة الاحتلال عن التدخل يهدد مبدأ سيادة القانون، ويفتح المجال أمام الميليشيات لفرض قوانينها الخاصة، ومع استمرار العنف، تتزايد المخاطر ليس فقط على الفلسطينيين، بل على النظام السياسي والأمني الإسرائيلي ككل، وصولًا إلى انهيار أسس النظام العام.