أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ فى هذا العالم. اعترف أننى حاولت الهرب من الكتابة فى هذا الموضوع لكنى فشلت. حاولت أن أقنع نفسى بأن هناك كثيرا من القضايا التى يمكن الكتابة فيها هذا الأسبوع وما أكثرها وأن الناس فى حاجة لمن يخفف عنهم ويرسم على وجوههم البسمة بدلاً من زيادة أوجاعهم، بل وشرعت بالفعل فى الكتابة فى قضية أخرى أخف وطأة، لكنى شعرت أننى أخدع نفسى إن أنا كتبت عن أى موضوع غير استشهاد الصحفيين الفلسطينيين، أنس الشريف ومحمد قريقع ورفاقهما المصورين من طاقم قناة الجزيرة الذين لحقوا بعشرات الشهداء من الإعلاميين الذين لقوا حتفهم بعد استهدافهم من قبل العدو الغاشم الذى يحتل بلادهم والذى يظن بقتل الصحفيين، أنه يفقأ العين التى تفضح جرائمه وتعريه أمام الرأى العام العالمي. لكن هيهات هيهات فخلف كل شهيد يولد ألف شهيد وأبدًا لن تنتهى هذه القضية إلا بالنهاية الصحيحة العادلة فهذا وعد الله سبحانه وتعالى مهما طالت فترة الاختبار، ألا إن نصر الله قريب. وإذا كان كل طفل فلسطينى يعتبر نفسه مشروع شهيد فليس من المستغرب أن يكتب أحدث شهدائنا-وليس آخرهم-أنس الشريف وصيته قبيل استشهاده بأكثر من شهرين عندما شعر باقتراب الأجل حيث كان يتعرض هو ورفاقه لوابل من رصاص الغدر بشكل يومى، وفى الحقيقة مهما بحثت عن كلمات بليغة مؤثرة لأصف بها تلك الشهادة فلن تجد أبلغ من تلك الوصية التى بدا منذ الحرف الأول فيها أنها وصية مودع. ليس ذلك فقط بل إن تلك الوصية، رغم صغر سن صاحبها، إلا أنها تصف وتلخص كل القضية الفلسطينية وتكشف لضمير العالم كله إن بقى فى العالم شيء من ضمير حقيقة الصراع بين الحق والباطل، الحق ممثل فى أصحاب الأرض والباطل فى تلك العصابة الصهيونية التى يقودها نتنياهو وحزبه المهزوم لا محالة حتى وإن طال الزمن. يقول أنس جمال الشريف فى جزء من وصيته التى كتبها بتاريخ الرابع من يونيو الماضى:- هذه وصيّتي، ورسالتى الأخيرة.إن وصلَتكم كلماتى هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت فى قتلى وإسكات صوتي. يعلم الله أننى بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، مذ فتحت عينى على الحياة فى أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين، وكان أملى أن يمدّ الله فى عمرى حتى أعود مع أهلى وأحبّتى إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة «المجدل» لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ. عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا فى قلوبهم ساكنًا ولم يُوقِفوا المذبحة التى يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف. أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ فى هذا العالم. أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا فى أمانٍ وسلام، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران. أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة.أُوصيكم بأهلى خيرًا،أوصيكم بقُرّة عيني، ابنتى الحبيبة شام، التى لم تسعفنى الأيّام لأراها تكبر كما كنتُ أحلم.وأوصيكم بابنى الغالى صلاح، الذى تمنيت أن أكون له عونًا ورفيق دربٍ حتى يشتدّ عوده، فيحمل عنى الهمّ، ويُكمل الرسالة. وأوصيكم كذلك برفيقة العمر، زوجتى الحبيبة أم صلاح بيان، التى فرّقتنا الحرب لأيامٍ وشهورٍ طويلة، لكنها بقيت على العهد، ثابتة كجذع زيتونة لا ينحني. إن متُّ، فإننى أموت ثابتًا على المبدأ، وأُشهد الله أنى راضٍ بقضائه، مؤمنٌ بلقائه، ومتيقّن أن ما عند الله خيرٌ وأبقى.اللهم تقبّلنى فى الشهداء، واغفر لى ما تقدّم من ذنبى وما تأخّر، واجعل دمى نورًا يُضيء درب الحرية لشعبى وأهلى. سامحونى إن قصّرت، وادعوا لى بالرحمة، فإنى مضيتُ على العهد، ولم أُغيّر ولم أُبدّل. لا تنسوا غزة...ولا تنسونى من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول. انتهت وصية أنس ولكن لم تنته حياته ونحسبه من هؤلاء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون. فنم قرير العين يا أنس واطمئن يا رجل فاسرائيل وإن نجحت فى اغتيالك فإنها أبدا لم ولن تنجح فى اسكات صوتك وقريبًا سيحمل طفلك صلاح الراية حتى يتحرر الأقصى بإذن الله، إن غدا لناظره قريب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.