تظل إستراتيجيات التعليم والتعلم أمنًا قوميًا لا غنى عنه لأى دولة قوية لم تعد المعارف ترفًا عقليًا أو تزجية لفراغ الإنسان؛ وإنما أصبحت طريقًا وحيدًا للحياة وسط مجتمع عالمى لا يعترف بغير العلم وسيلة لإبراز جوانب الخير فيه التى تضاءلت كثيرًا مقارنة بنوازعه الشريرة نحو السيطرة والسرقة على مرأى من عدسات العالم كله. إن كنا قد تعلمنا شيئًا من الحروب الناشبة من حولنا فإن الاهتمام بالبحث العلمى والتكنولوجى يصبح هو التوجه الأول والملتحد الذى ينبغى أن نستمسك به ونشد عليه بالنواجذ لمواجهة أسوأ مخاوفنا وأحسنها على السواء، ودحض أعدائنا فى أفكارهم ووساوسهم قبل دحرهم فى واقعهم وتحركاتهم؛ وهو ما تُدركه جيدًا قواتنا المسلحة الباسلة التى تقوم بواجباتها على الوجه الأكمل بما يحفظ لها تفوقها المعرفى على كل المتربصين بها. كان لقاءً مثمرًا جدًّا ذلك الذى استضافته مؤسسة «أخبار اليوم» الأسبوع الماضى للتوافق مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، مع مديرها التنفيذى جمال حويرب، ذاك المثقف النبيل الذى خضتُ معه أوقاتًا طيبة فى نقاشات مثمرة حول الثقافة العربية والمصرية؛ ووجدت أن الرجل متغلغل فى الأدب المصرى الحديث، ويتحدث بطلاقة عن العقاد والرافعى وشوقى، وعن إبداع الشعراء المصريين بنظرات ناقد يُدرك قيمة الكلام ودروبه الوعرة، كما يُدرك أفانين المعارف العالمية وكيف أصبحت المعرفة استثمارًا لا غنى عنه لدراسة علوم المستقبل.. كان اللقاء بحضور عدد من كبار الصحفيين والمفكرين المصريين، منهم صديقى الأستاذ محمود بسيونى، رئيس تحرير أخبار اليوم، نائبًا عن الأستاذ إسلام عفيفى، رئيس مجلس الإدارة، وصديقى الأستاذ أحمد المراغى، رئيس تحرير الأخبار برايل، والأستاذ سعيد عبده، رئيس مجلس إدارة دار المعارف السابق، والأستاذ عبد المحسن سلامة، رئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق، والإعلامى الأستاذ محمد الباز، والأستاذ عبد الله حسن، رئيس وكالة أنباء الشرق الأوسط الأسبق، والمؤرخ الكبير د. محمد عفيفى، والخبير الإعلامى د. محمد شومان؛ وجاءت الندوة بتقديم خبير المكتبات د. خالد عزب.. والحقيقة أن سعادتى كانت مضاعفة إذ أن التفكير المعرفى يليق به الانطلاق من هذه المؤسسة العريقة التى حملت بين جدرانها أسس تأسيس العقل العربى؛ وهو ما أعطى الثقة لكل المؤسسات المعرفية العربية لتتعاون مع «أخبار اليوم». الاستثمار فى التعليم فى منتصف القرن العشرين، أطلق د. طه حسين مقولة: «التعليم كالماء والهواء»، لتصبح شعارًا تبنته الحكومات المصرية، ويكون مدخلًا لمجانية التعليم؛ وقد أدركت أقوى دولة فى العالم خطورة تراجع التعليم، فبدأت حملة قومية بعنوان: «الأمة فى خطر: أمر إلزامى لإصلاح التعليم»، وكان هذا هو عنوان تقرير الرئيس الأمريكى رونالد ريجان عام 1983 بخصوص اللجنة الوطنية للتميز التربوى؛ وكان نشر هذا التقرير حدثًا بارزًا فى تاريخ العملية التعليمية الأمريكية الحديثة. وفى الجمهورية المصرية الجديدة كان تطوير العملية التعليمية أحد المحاور التى تركزت فيها جهود الدولة.. وتقوم هذه الرؤية على عدة أفكار منها: التعليم للغد، التعلم المستمر، التنمية المستدامة، تطوير المجتمع، تنمية وتطوير قُدرات الكوادر التعليمية، القدرة على المنافسة العالمية، استثمار الصرح الحضارى الثقافى لمصر، تنمية رأس المال البشرى، إعداد أبناء المستقبل، إعداد جيل من العلماء قادر على إنتاج المعرفة وإدارتها، بل توظيفها لخدمة المجتمع وحل مشكلاته؛ وكل هذا يعد من غايات التعليم فى مصر.. والحقيقة أننا لن نتقدم فى الاستثمار فى التعليم بمفهومه الشامل إلا من خلال خطة إستراتيجية محكمة واضحة. وقد كان جوهر عملية التعليم على مرّ العصور يتركز فى بناء الإنسان المصرى، مع إيضاح الخصائص والصفات التى يرغب كل عصر فى إبرازها لهذا الإنسان؛ لذا تحرص كل منظومة تعليمية على تحديد خصائص هذا الإنسان وفقًا لأهدافها الإستراتيجية.. ولأن لكل خطة تحديات تواجهها فإن أبرز تحديات تطوير المنظومة التعليمية تأتى من ضرورة الارتكاز إلى التكنولوجيا باعتبارها الوسيلة الأبرز عالميًا لإنتاج جيل قادر على التعاطى مع التسارع المعرفى العالمى؛ إضافة إلى أن التوترات العالمية تؤثر بشكل كبير فى الأبعاد الاقتصادية للعملية التعليمية، وعلى رأسها زيادة أسعار الورق وطباعة الكتب؛ لذا يصعب تنفيذ أى خطة إستراتيجية للتربية والتعليم دون الدعم المجتمعى الشامل بكل أطرافه؛ حيث تظل إستراتيجيات التعليم والتعلم أمنًا قوميًا لا غنى عنه لأى دولة قوية. الصحافة الشعبية لدينا تاريخ صحفى عريق من الصحافة الشعبية التى كانت منها العربية والإفرنجية، كما كانت منها التى صدرت فى مصر والتى صدرت خارجها كالعروة الوثقى؛ وقد دعت حاجة الخديو إسماعيل إلى صحافة تذود عنه أخطارًا محدقة به، فكان يخشى التدخل الأجنبى، كما كان يخشى الباب العالى، ولهذا كان يشجع الحركة الأدبية، وله ميلٌ إلى الأدب والفن، فسمح بوجود الصحافة الشعبية للمصريين والشاميين والأجانب على السواء، وكفل لها حريتها ما لم تتعرض لشخصه أو تنل سياسته بتجريح؛ وهذه التقسيمات الصحفية كانت لها أشكال معروفة فى أوروبا؛ فالعقاد يقول: «والذى تبين من تجارب الأممالغربية أنها أخذت تقسم الصحف عندها إلى قسمين تتسع الفجوة بينهما عامًا بعد عام؛ وهما: قسم التسلية وقسم المراجعة والدراسة. ومن المشاهد المتواترة فى أوروبا وأمريكا أن صحف التسلية تطبع الملايين فى اليوم الواحد ولكنها لا تؤخذ مأخذ الجد والتوقير ولا يحفل الناس ماذا تقول وماذا تُبدى من الآراء، وأن صحف المراجعة والدراسة محدودة القراء أو محدودة النطاق فى الأقاليم، ولكنها مرجع معوَّل عليه فى تكوين الأفكار وتلقى المعلومات». ولا يُمكن أن نغفل أثر الشاميين الذين نزحوا إلى مصر بحثًا عن الحرية فى النهضة بالصحافة وإثرائها بالتجارب الشخصية والثقافة الأجنبية التى اكتسبوها بعلاقتهم بالأجانب فى بلادهم؛ فقد استعان بهم محمد علي كثيرًا فى نهضته؛ وكانت من أولى الصحف الشعبية جريدة «وادى النيل» التى صدرت 1867م، إلا أن ناحيتها الشعبية كانت محدودة؛ لأن إسماعيل هو الذى أوعز بها لصاحبها عبد الله أبى السعود لتخدم سياسته وتدافع عنها، وكان الخديو يمدها بالعون، فكانت صورة أخرى للوقائع، غير أنها تفوقت على «الوقائع» بعنايتها بالمواد الأدبية وأخذت تنشر فصولًا من الكتب الأدبية على نحو ما فعلت (روضة المدارس)؛ وكانت هذه الصحيفة والصحف التى عاصرتها تستهدف الناحية الثقافية أكثر من غيرها، وكان أسلوبها جميعًا يتميز بالسجع وألوان البديع، فكان أسلوبًا ضعيفًا يُمثل اللغة فى أضعف عصورها. ثم تطوَّر الأسلوب بعدها فى جريدة «مصر» التى أصدرها أديب إسحق 1877م باقتراح من جمال الدين الأفغانى، الذى كان له أثرٌ كبيرٌ فى توجيه تلاميذه للكتابة فى هذه الصحف، كما كانت توجيهاته وآراؤه دافعة لإنشاء الكثير من الصحف الأخرى. من دعاء الإمام على بن أبى طالب: الَّلهُمَّ عَظُمَ سُلْطَانُكَ، وَعَلَا مَكَانُكَ، وَخَفِيَ مَكْرُكَ، وَظَهَرَ أَمْرُكَ، وَغَلَبَ قَهْرُكَ، وَجَرَتْ قُدْرَتُكَ، وَلَا يُمْكِنُ الفِرَارُ مِنْ حُكُومَتِكَ. اللهم لا أجد لذنوبى غافرًا، ولا لقبائحى ساترًا، ولا لشيء من عملى القبيح بالحسن مبدلًا غيرك. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك. ظلمت نفسي، وتجرأت بجهلي، وسكنت إلى قديم ذكرك لى ومنِّك عليَّ. اللهم مولاي: كم من قبيح سترته، وكم من فادح من البلاء أقلته، وكم من عثار وقيته، وكم من مكروهٍ دفعته، وكم من ثناء جميل، لستُ أهلًا له، نشرته!