كان الأستاذ هيكل بارعا ومغرما فى التقاط التفاصيل والشذرات الصغيرة التى تفك ما تشابك من رموز وتأويلات وحكايات استقرت طويلا فى بطون الكتب والمراجع.. فالأستاذ رجل يتمعن طويلا فى الهوامش والحواشى مثلما يهتم بمضمون المتن، دائم البحث عن عوالم جغرافية جديدة كانت من أحب المجالات التى يفضل ارتيادها فى الكتابة، يقينا منه بقيمة الخرائط وما تصنعه من تغييرات فى عالمنا .فى مدار تلك الدهشة من الفتوحات وإعادة قراءة الواقع بتفسيرات جديدة التقت كيمياء العلاقة بين الأستاذ والكاتب الصحفى اللامع أنور عبد اللطيف فى كتاب (هيكل.. الوصايا الأخيرة)، حيث كان الزميل العزيز من بين شخصيات قليلة أفاض لها الأستاذ بأكثر نصوصه ذاتية وخصوصية، ولا نبالغ إذا وصفنا هذه الأحاديث بأنها أكثر أحاديث الأستاذ انفتاحا على المستقبل الذى كان مهموما به، وبوحا لكل ما يتعلق بتفاصيل المهنة فى صورتها الحالية الأكثر حداثة وتكنولوجيا، ويحسب لهذا الكتاب أيضا أنه خاض فى تفاصيل وطقوس، خاصة ورصد أكثر الشخصيات التى تأثر بها وأولهم هارولد إيرل رئيس تحرير الإيجيبشيان جازيت الذى أراد أن تكون عيون هذا الصحفى الشاب النابه هى أول عيون مصرية تنقل أحداث الحرب العالمية الثانية للقراء فى مصر كمراسل عسكرى، وترتبت على هذا الاختيار بداية مميزة لهيكل ستظل ملازمة له مدى الحياة، تمده بنظرة بانورامية وكلية للبشر والأحداث، فهى حرب أعادت تشكيل العالم من رحم الموت وأعادت رسم الخرائط بدوى المدافع والرصاص، كشف هيكل أيضا كيف تأثر بأستاذه محمد التابعى وبالصحفى الكبير محمود عزمى، والكتاب يعد وثيقة تاريخية لتاريخ هيكل فى الأهرام منذ توليه رئاسة تحريره عام 1957 وكيف كان الأهرام من قبل له أسلوب خاص فى "تغطية الحدث"من دون الاقتراب منه أو المشاركة فيه؟ لظروف ملاكه الشوام الذين كانوا يحتمون بالخديو! تارة وبالفرنسيين فى مرحلة محددة. وقد بذل المؤلف جهدا ملموسا فى الكشف عن فلسفة الأستاذ وعبقريته فى التطوير الإدارى والرؤية المستقبلية، التى جعلت الأهرام واحدة من أكبر عشر صحف عالمية من حيث التأثير، لم يرصد الكاتب كل ذلك بطريقة تقليدية عن طريق التتابع التاريخى، ولكنه اهتم بذكاء منذ البداية بإبراز المعنى الجليل من وراء هذه الأحاديث الممتعة لأكبر قيمة وقامة فى عالم الصحافة العربية – سواء اتفقت أم اختلفت معه – من هنا كان سعى الكاتب ودأبه المستمر لتهيئة الأجواء التى تحمل أفكارا خاصة لأستاذ الصحافة من خلال خبرته التى امتدت لما يقرب من 74 عاما فى مهنة البحث عن المتاعب، وعن الأسباب التى صنعت من مصداقية الأهرام شعارا للتميز يجب أى إغراء آخر "مصداقية الأهرام أهم من غواية الاختلاف ورعونة الانفراد "..ونجح أنور عبد اللطيف فى اقتحام حصون منيعة وحواجز عديدة بأدبه الجم وابتسامته الهادئة ومحبته الصادقة للأستاذ، وبعد مرور ست ساعات قضاها على جلستين مع الأستاذ لوضع اللمسات النهائية لمقاله الشهير فى الأهرام (استئذان فى الانصراف) كانت فكرة إجراء أحاديث مع الأستاذ قد اختمرت فى ذهنه وحولها لصورة قلمية عرضها على الأستاذ، لكن الأخير طلب إرجاءها عامين حتى تتغير الظروف للأفضل .. ومرت السنوات وحانت الفرصة فى سنوات العمر الأخيرة التى يتحلل فيها الإنسان من بعض من القيود ويكون أقل حفظا مستشعرا اقتراب الأجل بعد عمر مديد مليء بالكثير الذى يستحق، واستطاع الزميل العزيز استلهام أسلوب الأستاذ ذاته فى أحاديثه معه من خلال البحث عن الضوء الحقيقى للأشياء والكثافة الزمنية التى تختزل الكتابة "قصة الحدث" أو مواقف الأشخاص فى كلمات قليلة، فكان السرد متناغما بين كيمياء النص وكيمياء العلاقة الشخصية مع شخصية اسمها يكفى ليحفزك بسؤالها ألف سؤال .. وبأسلوب شفاف ورصين رصد لنا الكاتب ملامح وأجواء هذا الحكى الذى فرضته شخصية الأستاذ كما وصفها لنا :"علامات الحسم الدائمة على وجه الأستاذ وابتسامته التى تعد من وسائل الضغط على بعض الجمل لتأكيدها وتأييد بعض المواقف ليست مشروع ابتسامات". لكن الكاتب كان عازما منذ البداية على طرح الأسئلة التأسيسية، مهما كانت وثبات الحوار من أجل تقديم أكبر استفادة لقارئه، ويقينا منه بقدرة الأستاذ الفذة فى الإمساك بتلابيب أى حوار مهما كانت وثباته وتشعباته التاريخية، فهو قادر على الدوام بفضل ذاكرته الذهبية وعقليته التى تبدو مرتبة بصورة فطرية، وأدوات الربط التى يستخدمها لربط القصة بسياقها التاريخى والاجتماعى والسياسى والعودة لبؤرة الحدث ووضع القيمة المستخلصة منه فى إطار لا يمحى من الذاكرة، بل غالبا ما يستعاد للمقارنة والاستشهاد به. فالكتاب الصادر عن دار نشر (بتانة) يحمل عناوين متنوعة لافتة للنظر مثل: دراما الانصراف الأخير، ودولة العواجيز وانتحار المعنى، ومصر التى على الحيطان والوصايا العشر الأخيرة التى كانت تحمل مشاريع ابتسامات لمستقبل أجيال لابد أنت تحترم دروس الماضى، ولم تخل جميعها من رصد ووصف التفاصيل الإنسانية لشخصية هيكل فى شذرات متنوعة يقول الكاتب: "ابتسامة الأستاذ بدت كفراشة بيضاء.. عرض الأستاذ كل خياراته وفتح أمامي بدائل الحركة فى الإخراج وترك لى حرية الاختيار، وشعرت أن عرض البدائل بالنسبة له أسلوب حياة .. مع الأستاذ أنت لا تمسك الخيط أبدا، هو الذى يسمح بفيض أو غيض.. وهو لا يحب كلمة (الإبداع) إنها تذكره بمسئولى وزارة الثقافة الذين أفسدوا معانى الكلام واستهلكوا الكلمة فى غير غرضها وهو يفضل كلمة ( الخيال ) لأنه المقدمة الأولى لأى منتج فلسفى يتسم برؤية متسقة .. ويستطرد الكاتب، مؤكدا أن الأستاذ فى كل التسعة عصور التى عايشها كانت له أسئلة وإجابات تحتمل الصواب والخطأ والتصادم، ووجدت من يؤمن بها أو يختلف معها.. ويصف أسلوب الأستاذ قائلا: مفرداته معبرة وجمله قصيرة وتراكيبه اللغوية سلسة". وينتقل بنا الكتاب فى أرجاء منزل الأستاذ الريفى فى برقاش، الذى كان مقر راحته وملاذه ومسرح رؤاه وأفكاره الكبرى ومقر الحكم بفضل عظم الشخصيات التاريخية التى زارته طلبا للنصيحة ولمعرفة اتجاه البوصلة أو بحثا عن إجابة عن أسئلة المسقبل على المستوى المحلى والإقليمى والعالمى، أعجبه وصفه بأنه حديقة لها قصر، أو بيت الورد الذى شكلت تفاصيله وخريطة الجمال فيه قرينته السيدة هدايت تيمور، وهو المكان نفسه الذى حوى مذكراته وأوراقه ووثائقه النادرة التى كانت هدفا لجحافل الظلام، حين هجمت على القصر لإحراقه عقب فض اعتصامى رابعة والنهضة أغسطس 2013، فتركته خرابا بين حرق ونهب. ويترك هذا الحريق فى نفس الأستاذ جرحا لازم الأستاذ حتى لقاء أنور الأخير معه فى ديسمبر 2015، لكنه أبدا لم يمنعه حب الحياة والحديث فى المستقبل، ونسترق السمع عن انطباعاته الخاصة جدا عن البشر والحجر ويلتقط أنور عبد اللطيف الخيط باحتراف ليسأله عن أحوال الصحافة، وأهم ما يميز الصحفى فى عصر المعلومات والأخبار والإنترنت؟ وكان (حديث) الأستاذ الذى يفضل هذه الكلمة الدافئة عن كلمة ( حوار) من أثمن الوصايا التى يضمها هذا الكتاب المتنوع الممتع بين دفتيه، حيث أفاض بسخاء فى التفسير والتعليل بما يفيد كل المشتغلين فى صناعة الصحف - على وجه الخصوص – راصداً اللأوضاع:"ثلاثة أرباع المشكلات فى مصر سببها غياب المعلومات، حرية الرأى بدون معلومات تصبح "حرية جهل" . أنتم مبهورون بالمعلومات، بالأحجار تحديدا، وحقيقة الأمر أن كل فكرة فى الدنيا هى بناء، والمعلومة هى مجرد حجر فى هذا البناء، إذا لم يوضع فى نسق نكون كمن يبنى فى الهواء! يوضح الكاتب أنه اكتشف من خلال جلساته مع الأستاذ مدى شغفه بالربط بين الصحافة والهندسة، فكلاهما بناء يعتمد على النسق والتوافق والفكر الذى يراعى دوما أن لكل مقام مقالا، ويعود ليفسح المجال أمام رؤية الأستاذ الذى يرى أن أبناء الجيل الحالى، تشابهت قصصهم وأغنياتهم فى ظل نسق خاص بكل منهم.. وتجلت أثمن نصائح الأستاذ فى الكتاب الذى يحمل وصاياه الصحفية الأخيرة بقوله : " يجب أن يهتم الصحفى بمعرفة موقعه وإطاره المعرفى قبل أن يصب معلوماته وينتقى تراكيبه اللغوية التى تليق بما يحمله من قيم ومعلومات وأسرار طازجة غير معالجة كيميائيا، فى زمن ندر فيه ما يصلح للاستخدام الآدمي! وهو رأى يتسق مع ما تعلمه هيكل من أستاذه سكوت واطسون عن أهمية الرابطة الدقيقة بين الحرف والموقف، فأزمة الصحافة من وجهة نظره لم تكن مع ظهور وسائل إلكترونية جديدة، ولكن الأزمة وقعت حين تخلت الصحافة عن دورها كوسيلة إعلام وظيفتها الأخبار والتثقيف والتسلية على التوالى.. ويستطرد موضحا كيف أنه لم يكن الأهرام حريصا على الانفراد بالخبر, قدر حرصه على الانفراد بدقته! ويحلل كيف أقحمت الصحافة المطبوعة نفسها فيما لا يخصها "حشرت نفسه" على حد تعبيره، وتوهمت أنها تستطيع منافسة التليفزيون والإنترنت فى مجال التسلية، جازما بأن حال الصحف لن ينصلح إلا إذا عادت إلى دورها التثقيفى والإخبارى، تعود ملكا لسيدها ( القارئ العزيز ) وكانت هذه الوصية هى أفضل ختام وأغلي نصيحة من الكاتب الصحفى الأشهر فى القرن العشرين، الذى رحل إلى دار العودة بعد إنعاش نبض الأحداث وعاصر مولدها من اللهب إلى الرماد.