لا شيء يُشبه العيد فى هذا العام، لا لأن الزينة أقل، أو لأن الشوارع أكثر هدوءًا، بل لأن خلف هذا الهدوء تنعقد مفاوضات وتحترق تحالفات وتُعاد صياغة المنطقة من جذورها لا نبالغ حين نقول إن الشرق الأوسط يمرّ بلحظة تحوّل فارقة، حيث يبدو أن «العدو» لم يعد عدوًا، والحليف المضمون لم يعد كذلك كل شيء قابل للتبدّل حتى العلاقات التى طالما قيل إنها «استراتيجية» صارت محكومة بالحسابات الباردة، وأحيانًا بالمقايضة. قبل أيام فقط، خرجت تسريبات أمريكية تتحدث عن عرض قدمته إدارة ترامب لإيران، يسمح لها بتخصيب اليورانيوم على أراضيها بشروط محددة كان بالإمكان التعامل مع ذلك كجزء من مفاوضات مُعتادة، لولا أن الردّ الإسرائيلى كشف حجم صدمة تل أبيب لم ترَ فى الخبر مجرد تراجع أمريكى عن سياساتها المتشددة السابقة، بل طعنة سياسية فى خاصرة التحالف، طعنة تُذكّرها بأن الرهان المطلق على شخص، أو إدارة، أو أيديولوجيا، هو رهان على رمال متحركة. فى الظاهر، تبدو إدارة ترامب الثانية كما لو أنها تسعى لاحتواء إيران دون مواجهة مباشرة لكن هناك ما هو أعمق من محاولة «تهدئة ملف نووي» رغم أهميته، هناك رغبة أمريكية فى صياغة معادلة جديدة فى الشرق الأوسط، تقوم على برجماتية السوق لا على شعارات الأمن.. إيران تعرف ذلك، وتلعب أوراقها بثقة، بدليل العرض الاستثمارى الذى قدمته لطاولة ترامب: صفقة تريليون دولار مقابل رفع العقوبات والتوصل إلى اتفاق شامل.. هذا الرقم لا يُفهم كمجرد محفّز اقتصادي، بل هو إعلان استعداد لدفع ثمن الاندماج فى النظام العالمي، لا من موقع المهادنة، بل من موقع التفاوض بين ندّين.. والرسالة هنا أن طهران لم تعد تطلب الاعتراف، بل تعرض المقايضة: المال مقابل القبول، والتطبيع مقابل الندية. إسرائيل، من جانبها، تعيش لحظة ارتباك حقيقى للمرة الأولى منذ عقود، تجد نفسها بلا موقع مهيمن فى مفاوضات حاسمة تخصّ «عدوها « لا أحد ينتظر رأيها، ولا أحد يضع فى حسابه حساسيتها .. الأخطر من ذلك أن إدارة ترامب - التى طالما تباهت تل أبيب بأنها الأقرب إليها - بدأت تُقصى تدريجيًا الوجوه الأكثر دعمًا لها من دوائر القرار .. هذه ليست فقط رسالة توتر، بل تحوّل فى طبيعة التحالف.. الولاياتالمتحدة، ببساطة، تعيد تعريف مصالحها، وما لم يعد يخدم هذه المصالح « أياً كان » يُعاد تصنيفه حتى لو كان نتنياهو نفسه. ما يجرى ليس «مناورة تفاوضية»، بل إعادة تشكيل حقيقية لعلاقات القوة ولعل المفارقة أن هذا يحدث فى لحظة تبدو فيها المنطقة فى حالة ارتباك والشعوب مُستهلكة بالكامل فى أزماتٍ لا تنتهى، ومتروكة لالتقاط أنفاس قصيرة فى العيد، بينما تُعاد كتابة المعادلات الكبرى فوق رءوسها. العيد لم يعد استراحة من الضغوط فقط، بل صار أشبه بفسحة زمنية صغيرة نلتقط فيها أنفاسنا، قبل أن نستيقظ على اتفاق جديد، أو صفقة كبرى، أو اصطفاف جديد، نحن فى مرحلة انتقال، لا تملك فيها الدول الصغيرة ترف « الفرجة «، لأن التحالفات التى كانت تُعتبر صلبة، تتآكل الآن، والعلاقات التى بُنيت على اليقين، تُراجع من جديد، والمواقف التى لم يكن يُتصوّر أن تتبدل، تبدلت. الولاياتالمتحدة تكتشف الآن أن الحرب المباشرة لم تعد مفيدة، وأنه يمكن التفاوض مع من كانت تسميه «نظامًا مارقًا» إذا كان الثمن كافيًا .. وإيران تُدرك أن المال يمكن أن يكون سلاحًا دبلوماسيًا يُعيدها إلى المشهد لا كمشكلة بل كجزء من الحل أما إسرائيل، فتعرف أنها تفقد تدريجيًا ميزة التفوق الأخلاقى والسياسى فى عيون حتى أقرب حلفائها، وأن منطق القوة وحده لم يعد كافيًا لإقناع عواصم العالم بأن دعمها المطلق مُبرّر. وسط كل ذلك، تظل الشعوب فى موقع المتلقي. لا أحد يسألها، ولا أحد ينتظرها. وما نعيشه ليس «تطورًا»، بل مفترق طرق تاريخي. فالعيد هذا العام، ورغم مظاهره الاحتفالية، ليس إلا فاصلًا قصيرًا فى سياق مشحون .. والأيام القادمة ستكشف ما إذا كانت هذه التحولات مقدمة لانفراجة طويلة، أم مجرّد بداية لعصر جديد من إعادة رسم الخرائط على حساب من لم يشارك فى رسمها.