مرافعة تاريخية لمدير نيابة حوش عيسى، تمثل درسًا أخلاقيًا بليغا لبعض ضعاف العقول والإيمان الذين يصرون على إحياء لعنة الثأر؛ التي حرمتها كل الشرائع السماوية وجرمتها كل القوانين.. مرافعة النيابة لم تدين مرتكبي هذه الجريمة النكراء فقط ولكنها أدانت مجتمعًا كاملا مازال يعتنق أفكارًا بالية حول ارتباط الثأر بالرجولة والكرامة ونسيان دور القانون والدولة في معاقبة مرتكبي الجرائم وتطبيق العدالة.. جريمة قتل بدأت بمشاجرة عادية وخلافات جيرة تتكرر بصورة شبه يومية في الريف حول أولوية ري الأراضي الزراعية لكنها تطورت إلى محاضر واتهامات متبادلة بين عائلتين وجريح مسن لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى بعد إصابته بشكل عفوي من أحد أطراف المشاجرة.. أسرة المسن المتوفى لم تنتظر صدور الحكم على الجاني المحبوس حاليا وقررت تنفيذ حكمها الشخصي وقتل شقيقه الأكبر الذي لم يكن طرفًا في المشاجرة من الأساس ولم يكن له أي ذنب فيما حدث... تفاصيل القضية أو بمعنى أصح القضيتين نسردها في السطور التالية. نبدأ القضية من مرافعة النيابة العامة قبل النطق بالحكم على 9 متهمين ارتكبوا جريمة قتل بدافع الثأر، بدأ المستشار إبراهيم مبارك مدير نيابة حوش عيسى مرافعته، قائلا: «جئنا اليوم إلى ساحتكم المقدسة نحمل إليكم كلمة المجتمع الذي منحنا شرف تمثيله، وكان شرفًا للنيابة العامة أن تمثل المجتمع فيما وقع عليه من جرم، في واحدة من القضايا التي ننشد فيها الحق الذي يعيش في ضمائركم، والعدل الذي أشربت نفوسكم حبه وأقسمتم يمين الولاء له كلما نطقت ألسنتكم أو خطَّت أقلامكم.. نقف اليوم أمام هذا المنبر المقدس الذي جعل من العدل رسالته ومن الحق غايته؛ لِننظر في قضية هزت أركان المجتمع، قضية قتل اُرتكبت بدم بارد تحت ستار الثأر، هذا الموروث الملعون الذي آن الأوان أن يوضع حد قاطع له». وأضاف: «المتهمون في هذه القضية لم يقتلوا رجلا فحسب، بل اغتالوا قيم التسامح، ووأدوا صوت القانون، وَآثروا الاحتكام إلى الغريزة القبلية وقانون الغابة بدلا من العدالة، نصبوا أنفسهم قضاة عدل، وحكموا على المجني عليه بالموت، بل نفذوا حكمهم بأيديهم، فساءت فعلتهم، وكأنما حياة البشر ملك لهم، فسولت لهم أنفسهم قتل رجل بدعوى الثأر». وسرد المستشار إبراهيم مبارك خلال المرافعة أحداث القضية قائلا: «تبدأ وقائع دعوانا في سواد يوم 18 من شهر نوفمبر من عام 2024، بدائرة مركز حوش عيسى حيث اجتمعت شياطين الإنس هذه، بمنزل زعيمهم، كبيرهم سنًا المتهم الأول عيد؛ الذي أشعل فتيل الفتنة في صدور باقي المتهمين، أوهمهم أن شرف عائلتهم يتمثل في قتل المجني عليه وأنهم إذا قتلوه سمت مكانتهم واشرأبت أعناقهم بين أهالي القرية، دبر وخطط ووزع أدوارهم بأن اتفقوا على مساعدة المتهم الثاني نبيل، على قتل المجني عليه، لعلمهم بمحل عمله وأماكن تنقله، وحددوا لفعلتهم يوم22 من شهر نوفمبر، وصباح يوم الواقعة أعد المتهمون دراجتين بخاريتين الأولى قيادة المتهم التاسع رجب، والثانية قيادة المتهم السابع عوض، ودراجة بخارية «توك توك» قيادة المتهم الثامن أحمد، وأعدوا سكينًا أبيض اللون كبير الحجم لتنفيذ فعلتهم.. وتوجهوا جميعا لحوش عيسى ووزعوا أدوارهم لمراقبة محل إقامة وعمل المجني عليه، وما أن شاهدوا المجني عليه حتى انقض المتهم الثالث على المجني عليه لشل حركته ومنعه من الفرار أو المقاومة بينما انهال المتهم الثاني عليه بالطعنات وسط توسلات المجني عليه «سيبوني سيبوني وبيتشاهد» إلا أنهم لم يتركوه حتى تأكدوا أنه فارق الحياة فلم يسدد له المتهم الثاني طعنة أو اثنتين بل 24 طعنة أصابت جسده.. طعنات غاشمة لا تنم حقا إلا عن شر كامن شنيع، أفزعت الآمنين وأرهبت المحيطين، وتوجه المتهم الثاني حاملا سلاح جريمته متفاخرًا بسوء فعلته، ها أنا قد ثأرت لأخي وقتلت نفسًا بريئة طاهرة، ها أنا قد انتقمت لكرامة زائفة وها نحن نسوقهم لعدالتكم انتظارا لقصاص عادل». واستكمل ممثل النيابة مرافعته النارية قائلا: «نحن اليوم لا ننظر فقط إلى قضية قتل، بل ننظر إلى مأساة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، المجني عليه الذي خطفه هؤلاء القتلة من الحياة لم يكن مجرد عابر فوق الأرض، بل كان أبًا كادحًا يعيل أسرته وسندًا لا يُعوَّض لزوجته وأطفاله ركن أصيل في كيان أسرة لا تعرف الحياة بدونه، لقد ترك خلفه أمًا مكلومة، وزوجة تذرف الدموع ذرفًا وأطفالا فقدوا الحنان والأمان، ومن بين هؤلاء الأطفال طفل لم يتجاوز عمره الشهرين، طفل لن يعرف يومًا وجه أبيه إلا من صور باهتة، ولن يسمع صوته إلا في ذكريات من حوله، لم يقف إجرام هؤلاء الجناة عند حدود سفك الدم الحرام، بل تركوا خلفهم مأساة إنسانية تتشح بالسواد، تركوا جرحا غائرا في قلوب زوجة ثكلت، وأم كسر ظهرها لوعة الفقد، وأطفال قُدّر لهم أن يكبروا في كنف اليُتم والحرمان، داخل أسرة لا ذنب لها سوى أنها وجدت نفسها أسيرة مجتمع لا يزال يبارك الجهل ويقدس ويتوارث الثأر كأنه شرف لا جريمة، لقد اقدم المتهمون على فعلتهم الشنيعة بدم بارد، في مواجهة رجل أعزل لم يحمل سلاحًا ولم يقاومهم، بل كان أعظم ما فعله في لحظاته الأخيرة أن رفع كفيه واستسلم لقضاء الله وقدره، مرددًا «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله».. أي قلوب تلك التي امتدت لقتل رجل في هذه الحالة؟ وأي قسوة دفعتهم ليحرموا إنسانا من حقه في الحياة وهو يواجه الموت مستسلمًا ومستودعًا نفسه إلى الله. وكم من قتيلً ظل يدعو إلهه فقُبل الدعاء وسالم الدم يُنذرُ في لحظاته الأخيرة، حين ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لم يصرخ، لم يقاوم، بل رفع كفّيه إلى السماء، مستسلمًا لقضاء ربه، يلفظ الشهادة بصدقٍ يقطر من بين شفتيه، كأنها وصيته الأخيرة للعالم.. لم تكن كلماته مجرّد أنفاس تحتضر، بل كانت صرخة الحق في وجه الباطل، ونداءً مؤلمًا في آذان من أعمى الثأر بصيرتهم، فظنّوا أن للدم المسفوك مبررا، وأن للقتل شرف يُدّعى». واختتم مدير النيابة مرافعته، قائلا: «نلتمس من عدالتكم القصاص، قصاصٌ يبرد نار أمٍّ لا تنام، وزوجة تئنّ من وجع الوحدة، وأطفال حُرموا من دفء الأبوة وهم لا يزالوا في مهد البراءة، قصاصٌ يُعيد للحياة معناها، وللعدالة هيبتها، وللإنسان كرامته، إننا نلتمس من عدالة المحكمة أن تجعل من هذه القضية نبراسًا للعدل رسالة رادعة لكل من تسول له نفسه أن يستهين بحرمة النفس البشرية والعبث بأرواح الأبرياء، فالقصاص العادل ليس مجرد عقوبة تُنزل بالقاتل ولا هو فقط إنصاف لدم أريق ظلمًا، إنما هو ردع يحمي المجتمع بأسره، ورسالة تزرع الهيبة في نفوس العابثين، وصيانة لحقوق أطفال أن يكبروا في كنف أبيهم، ولكل أم تظل عيناها قريرة بنجلها وترى فلذة كبدها سالمًا بين يديها ولذا نطالب المحكمة الموقرة بتوقيع أقصى عقوبة على المتهمين، نطالبكم بإعدامهم شنقا جزاء ما اقترفت أيديهم حتى يكونوا عبرة لمن نسي الاعتبار والحق أخيرا نقول «وما ظلمناهم، ولكن أنفسهم يظلمون» صدق الله العظيم. هذه كانت المرافعة التاريخية التي ألقاها ممثل النيابة العامة أمام المحكمة، والتي أصدرت قرارها بتأجيل القضية لجلسة 11 مايو المقبل. أصل الحكاية أما عن تفاصيل القضية البشعة التي راح ضحيتها شاب في مقتبل عمره، وأب لثلاثة أطفال، فبدأت في محافظة البحيرة، بإحدى قرى مركز حوش عيسى؛ حيث يعيش تامر بطل قصتنا؛ شاب مكافح ومسالم لم تكن له أي عداوات أو خلافات مع أحد، موظف بأحد البنوك، ترك قريته وذهب لاستئجار شقة بالقرب من عمله، لم يكن هو أو عائلته يحبون المشكلات، دائما ما يتجنبونها، ولم تؤرقهم سوى مشكلة واحدة..المشكلة التي بدأت بين عائلته «مبروك» وعائلة «شحاته»، بسبب خلافات على أولوية الري، فكانت النتيجة مشاجرة عنيفة دارت بين تلك العائلة وشقيقه أحمد ووالده، وراح ضحيتها رجل على مشارف الخمسين من العمر، سعى تامر للصلح مع هذه العائلة على مدار 6 أشهر ولكن بلا فائدة، وعلى الرغم من القبض على شقيقه أحمد ووالده وحبسهما بسبب قتل المسن؛ إلا أن عائلة شحاته لم ينتظروا القصاص العادل وكلمة القانون، وملأ الحقد قلوبهم وأعمى بصيرتهم، فأصبحوا لا يرون سوى الدم والتنكيل، وقرروا الأخذ بالثأر، ووقع اختيارهم على زينة شباب عائلة مبروك، وهو تامر؛ الشاب الذي يشهد الكل بطيبته وأخلاقه الحميدة، راقبوه ووزعوا الأدوار بينهم وانتظروه وهو عائد من عمله وقتلوه بدم بارد، لم يرحموا توسلاته وطعنوه ب24 طعنة، قُتل تامر وترك خلفه أرملة وثلاثة أطفال في ظلمة اليتم، المتهمون التسعة اعتقدوا أنهم بذلك ثأروا لكرامتهم، ولكن في الحقيقة أنهم لوثوا أيديهم بالدم وقتلوا شخصا بلا ذنب، ودمروا عائلتين بالكامل، فالمتهمون يقبعون خلف القضبان الآن ينتظرون جزاء ما اقترفوه. اقرأ أيضا: «الكفن» ينهي خصومة ثأرية منذ 11 عاما بين أبناء عمومة بالجيزة