سبع سنوات وأنا أحمل حقيبتى المملوءة بأوراق براءتى على ظهرى، وأطوف بها بين الناس على أمل أن أجد من يتبنى قضيتى.. لكننى كنت مثل الباحث عن سراب فى الصحراء،اكتفى الجميع بنظرات الشفقة والعطف، مثلما شاهدتها تكسو تعابير وجهك عندما اقتحمت حجرتك فى منتصف الليل دون إذن أو سابق معرفة، «لا تتعجب، كان على أن أرفض مقابلتك وأظل حبيس حجرتى المظلمة، أراقب ابتسامات السعادة الخادعة التى ترتسم على وجوه الأزواج من خلف ثقب نافذتى، فأطلق الضحكات.. لكن قلت فى قرارة نفسى: كفى هرباً واجه الحقيقة.. شعرت أن الله قد ساقك لى لتروى قصتى، وأجد من يقف بجانبى بعد أن أرهقت جسديًا ونفسيًا فى رحلة البحث عن حقى». «أنا يا سيدى رجل من أدغال الصعيد، أملك منذ صغرى مهارة الكتابة والإبداع، قرأت عشرات الكتب لأدباء من مختلف دول العالم، وألفت روايات عن الحب احرقتها منذ أيام.. بعد تخرجى فى كلية التجارة، وجدت نفسى محاطًا بخمسة إخوة لا حول لهم ولا قوة. توفى والدى وتركهم فى قبضة يدى، وكان الحمل ثقيلًا. سافرت إلى القاهرة حيث حلمى الذى أبحث عنه. عملت فى عشرات الحرف، وتنقلت من حارة إلى أخرى حتى حقق الله مرادى والتحقت بالتليفزيون.» «هرعت إلى العمل فى برامج المرأة، حيث عشقى لحواء، لم يكن ذلك وليد صدفة، فقد استيقظت على وجه أمى، وعشت فى حضنها، ولمست نبع حنانها، ونهلت من طيبتها، فكانت بالنسبة لى الحافز الذى دفعنى إلى حب النساء، والوقوف معهن ونصرتهن مهما كانت الصعوبات.. سنوات، يا سيدى، وأنا أكتب عن المرأة وأتغزل فيها، أمدح فى ذكائها، وأدعو العاشقين إلى تخطى الصعاب للفوز بقلبها، بل وسخرت كتاباتى وبرامجى لانتقاد كل من يسىء إليها، وأتهمه بارتكاب خطيئة كبيرة فى حق حواء». «حقيقة، كانت كلماتى عن النساء تخرج بصدق، فهى وليدة تجربة عشتها مع أمى وشقيقاتى البنات اللواتى كن يفرشن الأرض أمامى لأكون سعيدًا. تنقلت من استوديو إلى آخر وأنا أحمل لواء الدفاع عن المرأة بيدى، حتى مرت السنوات واقتربت من الأربعين، وبدأت أشعر أننى بحاجة إلى من يهتم بى بعد أن انشغل الجميع عنى. فقد عاهدت الله ألا أتزوج إلا بعد أن أفرح بإخوتى وشقيقاتى أولاً. والحمد لله تحقق ما أردته. بعد ذلك بدأت أشعر بالوحدة. كنت أعيش بلا روح فى حجرتى بالقاهرة، أذهب إلى ماسبيرو صباحًا، وليلاً إلى عملى الثانى، وبعدها أخلد إلى النوم.» فجأة أدركت أن جسدى لن يتحمل كل هذه المعاناة. قررت أن أبحث عن شريكة حياتى. لم تكن فى مخيلتى مواصفات معينة لفتاة أحلامى، بل كنت أبحث عن حواء التى رسمتها فى كتاباتى، تلك الفتاة الراقية الجميلة المخلصة، هكذا قدمتها للمشاهدين، وصممت أن أقابلها فى الحقيقة، وأنا فى طريقى إلى قريتى، سقطت عدسة نظارتى فجأة، غيرت وجهتى إلى أحد المحال فى عاصمة محافظتى، وفجأة، بينما انتظر الفنى، شاهدتها، كانت كالنسيم الذى يمنحك انتعاشًا للحظات لذة الاسترخاء، تملك عينين تقودانك وسط الظلام، وابتسامة تضعك فى صفوف المسرورين دائمًا، ظللت لدقائق أرمقها بعينى، لا أصدق أن هذا الجمال يسكن مدينتنا البسيطة، لم أطل النظر إليها كثيرًا، شعرت أن كل جوارحى تتناوش مع بعضها لتفوز بشرف الحديث إليها أولاً، لكن...» «كعادتها كانت كلماتى سباقة، عرفتها بنفسى، وتبادلنا الحديث لدقائق..علمت أنها تسكن فى قريتى، زادت دهشتى وفرحتى فى نفس الوقت، بمجرد أن انتهيت من تركيب عدسة نظارتى، أسرعت إلى شقيقتى، وقصصت لها كل التفاصيل، كنت أتحدث معها بلهفة كالطفل، أتغزل فى جمال تلك الفتاة الرائعة مكتملة الأوصاف، شعرت أننى قد وجدت من رسمتها فى كتاباتى، هدأت شقيقتى من لهفتى، وأخبرتنى أنها تعرفها، لكنها واجهتنى بالحقيقة. هذه الفتاة تصغرك بعشرين عامًا، هى جميلة بالفعل لكنها تعيش قصة حب مع شاب آخر. عليك أن تبحث عن أخرى تناسبك فى العمر وتكون زوجة صالحة تمنحك الأمان والذرية الصالحة.» «حقيقة، صدمتنى شقيقتى وأصابنى الحزن. أدرت وجهى بعيدا عنها لاحظت غضبى، شعرت أننى حزنت لأننى أمضيت عمرى كله أعمل من أجل إسعادهم. أخبرتنى أنها ستتواصل مع الفتاة وستتحدث معها عنى، وستعرض زواجى منها. وإذا وافقت، سينتهى كل شىء إلى الزفاف، حيث إن والدتها جارتها فى القرية. ذهبت شقيقتى إلى منزل الفتاة، وكنت على عجلة من أمرى. أصابنى القلق وكأننى أنتظر نتيجة الثانوية. اتصلت بشقيقتى عشرات المرات، أردت أن أعرف القرار قبل سفرى ليلاً إلى القاهرة. شعرت أن حياتى متوقفة على هذه اللحظة،تلك الفتاة الجميلة ستكون شريكة حياتى، وقد عوضنى الله خيرًا على صبر السنوات.» «وأنا أجول بمشاعرى، رن هاتف شقيقتى، فقد جاءت البشرى: وافقت الفتاة. كدت أفقد الوعى، أسرعت وجهزت حقيبتى وسافرت إلى القاهرة. بعد أيام عدت إلى بلدى، ومع مرور شهر وتمت الخطوبة، واتفقت مع أسرتها على الزفاف خلال ستة أشهر. كانت طوال فترة الخطوبة تكمل الصورة التى رسمتها عن حواء: فتاة مطيعة، مرحة، واعية. كان ينقصها فقط أن تكون مثقفة وقارئة، لكننى تجاهلت كل هذه الفروقات، ليس لأنها حاصلة على دبلوم،فهذا الأمر لا يقلل منها. يكفينى فقط أنها تحبنى ووافقت على الارتباط بى رغم أننى أكبرها بعشرين عامًا.». اقرأ أيضًا| هارب من.. جحيم امرأة «1» انتهت المدة المحددة، وانعقد زفافنا. دخلت قفص الزوجية فى إحدى الشقق بالقاهرة. بعد أسابيع، بدأت الأمور تتغير،قل دلال زوجتى، كثرت طلباتها، وتغيرت نغمات كثيرة كنت أسمعها. أصبح هناك جزء صغير من الشكوى، وشعرت أننى مقبل على مشاكل كثيرة. لكن شاء القدر أن يختفى هذا الإحساس، وأن أُلقيه وراء ظهري،فقد حضر الضيف الجديد، ابنى الأول. انغمست فى حبه. مضيت عامين أتحمل ضغط زوجتى، حتى أصبح جسدى وعقلى غير قادرين على مواكبة كل هذه الضغوط. فقدت الشغف فى كل شىء، حتى فى عملى بدأت أفقد القدرة على الإبداع. أصبحت كتاباتى تسير فى منحنى الجمود، دون أفكار جديدة. شعرت أننى لم أعد قادرًا على الإبداع. وسط كل ذلك، كانت زوجتى ترهقنى بطلباتها، ليلاً نهاراً تُشعرنى أننى غير قادر على تحمل مسئولية أسرتى. هنا أدركت أننى يجب أن أغادر، أهرب من كل ما يحيط بى. الجميع يدفعنى للانتحار. فى كتاباتى لم أعد مبدعًا، فى عملى أصبحت عاجزًا، ومع شقيقاتى تحولت إلى رجل بخيل فى كل شىء، وبدأت المسافات تبتعد بينى وبينهم بسبب زوجتى.» «بسبب كل ذلك، أصابنى الضغط والسكر، وفقدت الكثير من وزنى وبدأت أشعر بالدوار كلما تذكرت ما يحيط بى. هنا قررت الهجرة، واتخذت القرار حتى ولو عكس رغبة البعض. كانت زوجتى الوحيدة التى تدفعنى إليه دون أن أدرى، لقد أصبحت تعشق المال، تريد أن تحقق كل ما حلمت به على حساب جسدى وطاقتى. اتخذت القرار وسافرت إلى السعودية حيث يعمل أخى الصغير. شهور وأنا أعيش عالة عليه، ليس هناك عمل، والمتوفر لا يناسب عملى ومؤهلى. أنا رجل مبدع، كاتب، أديب، مرهف الحس. جسدى هزيل لا يقوى على عمل الشباب، وعمرى تجاوز الأربعين، لكن الأمور ظلت هكذا،ما زلت غير قادر على تلبية العروض التى يجلبها لى أخى. وقتها شعرت أننى يجب أن أعمل، هاتف زوجتى لا يتوقف عن الاتصال، تطلب المال، وتضغط على بكل قوة. قررت أن أستجيب إلى الواقع الذى يحيطنى، فاشتغلت فى إدارة «المجارى». بدأت بالنظافة، وانتهيت بالنزول إلى الآبار لتسليك المياه ودفعها للعبور أسرع عبر الأنابيب.» «كانت حياتى معرضة للخطر أكثر من مرة، وكنت أشاهد دموع أخى الصغير وهو يشفق على من هذه المهنة. يتحدث فى قرارة نفسه: كيف ينقلب حال أخى الكبير المثقف والمربى الفاضل رأسًا على عقب؟ كل ذلك بسبب هذه السيدة التى تقبع فى شقته بالصعيد. كانت حياته أفضل بدونها، ضحكته لم تكن تفارقه، قلمه مبدع، وكتاباته تتناقلها الصحف ليلاً نهاراً. كنت أواجه نظرات الشفقة من شقيقى وأنا أتألم سرًا. أخرج صباحًا إلى عملى مبتسمًا، أرتدى ملابسى وأعود ليلًا وهو نائم،متسخًا لا أقوى على الحركة. عامان وأنا فى ذلك الجحيم، وزوجتى تتواصل معى فقط من أجل المال. أرسلت لها كل ما أتقاضاه، وكنت أحتفظ بكل إيصال أرسلته لها. شعرت أننى يجب أن أفعل ذلك، لقد تحولت زوجتى فجأة إلى عبدة للمال. علمت أنها تشترى أفضل الملابس، وتأكل من ألذ الطعام، ولا تمنح شقيقتى الصغرى أى أموال أو هدايا أرسلها لها.» «تغاضيت عن كل ذلك، أنا ما زلت أحبها فهى أم ابنى. استمريت فى إرسال الأموال عبر حساب بنكى. عدت بعدها إلى مصر ووجدت أن الأوضاع قد تغيرت، ولم تعد زوجتى تعاملنى بنفس الحب الذى كنت أتلقاه قبل سفرى. أصبحت تنتقد ملابسى وحديثى معها، وكانت تبحث عن المشاكل وتضعها أمام عينى، حتى أشعرتنى أنها لم تعد تتقبلنى زوجًا لها. كعادتى، ألقيت كل ذلك خلف ظهرى، وعدت بعد إجازة لمدة شهر إلى الخليج حيث عملى مرة أخرى. هناك انغمست كثيرًا وبدأت أرسل الأموال بكثرة فى حسابى البنكى. فجأة، وجدت زوجتى تتواصل معى لتخبرنى أنها تريد أموالًا كثيرة لمدارس الأولاد. فقد رزقنا الله بطفلة أخرى. طلبت منى تحرير توكيل للتصرف فى الأموال التى بالبنوك. حررت لها التوكيل بحسن نية، وبدأت أرسل الأموال وهى تسحب من الحساب. ثلاثة أعوام وأنا على ذلك الحال.» «حتى تحرك قطار العمر كثيرًا وبلغت الخمسين عامًا، هنا قرر جسدى أن يستريح بعد سنوات من التعب. قطعت إجازتى وعدت نهائيًا إلى بلدى، وياليتنى لم أعد. تغيرت زوجتى كثيرًا، لم تعد تطيقنى فى البيت. علمت من الجيران أنها كانت تخرج كثيرًا إلى المدينة، تشترى ملابس وتظل حتى الليل. هنا بدأ الشك يساورنى. أخذت فى ملاحقتها وتتبعها، ووجدتها تقابل شخصًا غيرى، تجلس معه على المقهى تضحك وتتسامر. وكانت المفاجأة الكبرى عند ذهابى إلى البنك،اكتشفت أن زوجتى سحبت كل الأموال التى ادخرتها فى غربتى. واجهتها، واعترفت لكنها لم تخبرنى أين ذهبت هذه الأموال؟ ادعت كذبًا أنها أنفقتها على المنزل والأولاد. كاد الجنون يصيبني،لقد أنفقت مكافأة معاشى المبكر، واستولت على مدخراتى من الغربة. لكن ما كان يشغلنى هو: أين أنفقتهم؟» «أيام من الحيرة تلاحقنى، حتى علمت من أحد الأصدقاء أنها أهدت كل أموالى لذلك الشاب ليقيم مشروعه الخاص. توجهت إليه ودار بيننا شجار، طلبت منه أن يعيد أموالى، لكنه صدمني،أخبرنى أنه أخذها من زوجتى وليس منى. ذهبت إليها وتشاجرنا، لكن لم أحصل على رد، أسابيع مرت وأنا فى حيرتى، لا نتحدث مع بعضنا سوى فى موعد الطعام، حتى فوجئت فى صباح أحد الأيام بمحضر محكمة يخبرنى أن زوجتى خلعتنى، لا أعرف كيف حصل ذلك! وقتها سقطت مغشيًا على الأرض. أيام وأنا طريح الفراش فى شقة شقيقتى بعد أن استولت زوجتى على كل شىء، بيتى ومالى وحتى أولادى. لم تتوقف عند ذلك بل أقامت عشرات الدعاوى فى المحاكم للحصول على نفقة وتبديد وأشياء أخرى.» فى هذه اللحظة شعرت أن روحى تُسحب منى. ماذا حدث فى سنوات قليلة؟ لقد تجاوز عمرى السبعين فجأة رغم أننى ما زلت فى منتصف الخمسينيات. تساءلت باستغراب وتهكم: هل هذه حواء التى دافعت عنها فى كتاباتى وبرامجي؟ أين قلبها الذى طالما تغنيت به؟ أين روحها المرحة ووسامتها التى تجلب السعادة للقلوب؟ هناك تناقض رهيب بين الحقيقة والسراب الذى كنت أعيشه. لم يكن أمامى سوى خيار واحد، الصمت والاستسلام. ألقيت بجسدى فى حجرة شقيقتى فليس لى مأوى سواها. أيام وأنا على حالتى صامت لا أتحدث مع أحد، فقط أسمع طرقات محضر المحكمة على باب منزلى، يسلم شقيقتى الإعلان ويخرج. هكذا على مدار عامين، حتى أصبحت ملاحقًا قضائيًا، مطلوب منى أن أدفع آلاف الجنيهات للسيدة التى جعلتنى طريح الفراش واستولت على أموالى. وأنا لا أملك شيئًا، فقط نظارتى وقلمى الذى جف حبره.» حاربت كثيرًا من أجل إثبات براءتى، تجولت فى المحاكم وأقسام الشرطة حاملًا حقيبتى التى تحوى الأوراق والفواتير، والعقود الخضراء والبيضاء. توسلت للقضاة، أردت حقى، لكن القانون أعطانى ظهره، وتركنى أموت على فراشى عاجزًا حتى عن رؤية العالم الخارجى، فقط من ثقب أراقب من خلاله هذا العالم المخيف».