عاجل- الذهب يحقق قفزة تاريخية جديدة.. إليك آخر الأسعار اليوم في مصر    أسعار السمك والمأكولات البحرية بأسواق الإسكندرية اليوم الخميس 9 أكتوبر 2025    ستارمر يرحب باتفاق إسرائيل وحماس ويدعو إلى تنفيذه بالكامل ودون تأخير    الأشواط الإضافية تحسم تأهل فرنسا والنرويج فى كأس العالم للشباب.. فيديو    حالة الطقس اليوم الخميس 9 اكتوبر2025 فى محافظة المنيا    شاهيناز: «مبحبش أظهر حياتي الخاصة على السوشيال.. والفنان مش إنسان عادي»    أضرار المشروبات الغازية على الكبد.. دراسة تكشف المخاطر الصحية    عاجل- ترامب: قد أزور مصر يوم الأحد.. ومفاوضات اتفاق غزة "بالغة القرب"    عاجل - بالصور.. شاهد الوفود الدولية في شرم الشيخ لمفاوضات غزة وسط تفاؤل بخطوة أولى للسلام    مساعد وزير الخارجية الإيراني السابق مهدي شريعتمدار ل«المصري اليوم»: الضغط الأمريكي المتزايد لفرض التطبيع أداة لتفكيك المنطقة (الحلقة 44)    شيخ الأزهر يؤدي واجب العزاء في وفاة الدكتور أحمد عمر هاشم..ويواسي أسرته    حاكم مقاطعة فولجوجراد: الدفاعات الجوية تصد هجوما أوكرانيا مكثفا بالمسيرات    هشام حنفي: ياس سوروب مدرب مميز وإضافة كبيرة للنادي الأهلي    عاجل - "اختبار للتكتيك وتعزيز للانسجام" اليوم الخميس.. مصر X المغرب في ودية قبل كأس العرب 2025 - 2026    مشوار الفراعنة إلى المونديال.. خطوات ثابتة قادت مصر للتأهل التاريخي إلى كأس العالم 2026    وزيرة التخطيط تصل بروكسل للمشاركة في النسخة الثانية من منتدى البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي    بعد ارتفاع الأخضر الأمريكي.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري الخميس 9-10-2025    يعرض قريبًا.. «لينك» ضغطة زر تقلب حياة موظف على المعاش    عروض وأمسيات وورش تشكيلية بالخارجة والفرافرة وموط ضمن احتفالات الثقافة بذكرى النصر    سما المصري توجه رسالة ل المستشار مرتضى منصور: «ربنا يقومه بالسلامة بحق صلحه معايا»    مواقيت الصلاة في أسيوط اليوم الخميس 9102025    أسعار الحديد في أسيوط اليوم الخميس 9102025    "قبل نهاية الاسبوع" غدوة حلوة.. اصنعي أجمل صينية فراخ بالبطاطس لعائلتك    المعاينة تكشف ملابسات حريق مخزن قطع غيار سيارات بالحرفيين    وزير الرياضة يعلن إجراء تغييرات في الجهاز الفني لمنتخب مصر للشباب    من أدعية الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج    30 دقيقة تأخرًا في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 9 أكتوبر 2025    بالطريق الحر.. تصادم دراجتين ناريتين مع نقل أودى بممرض وإصابة آخرين    7 آلاف محضر بشأن «تراخيص عمل الأجانب» خلال 27 يومًا    ممنوع الضرب.. قرار حاسم حول حظر استخدام العصا أو الخرطوم في المدارس ومحاسبة المسؤولين    البابا تواضروس الثاني: المسيح هو الراعي الأمين الذي يقودنا إلى الطمأنينة والأبدية    نائب محافظ القاهرة يستقبل وفدًا كنسيًا من شبرا لبحث سبل التعاون وتعزيز التلاحم الوطني    8 شهداء في غزة خلال الساعات ال24 الماضية جراء الغارات الإسرائيلية    البطريرك أفرام الثاني يشارك في مؤتمر بإربيل حول "سوريا: بحثًا عن الوحدة في ظلّ التشرذم"    مقتل شاب على يد شقيقه الأصغر بسبب خلاف على الميراث في الشرقية    انهيار محادثات الاتحاد الأوروبي بشأن الرقابة على الدردشة دون التوصل إلى اتفاق    وكيل صحة الفيوم تُتابع أداء المستشفيات في اجتماع إشرافي موسع| صور    رسمياً.. منهج العلوم في امتحانات شهر أكتوبر 2025 للمرحلة الابتدائية (مواصفات الورقة الامتحانية الكاملة)    « احتفالًا بالتأهل للمونديال».. سعد سمير يطالب بفتح استاد القاهرة مجانًا في مباراة مصر أمام غينيا بيساو    نجوم الفن يحتفلون بتأهل مصر إلى كأس العالم.. يسرا ل اليوم السابع: بعد تأهل المنتخب وفوز العنانى الفرحة فرحتين.. نادية الجندي: يا رب كتر أفراحنا.. حمادة هلال: والله وعملوها الرجالة لسة عايشة ومتفائل للمنتخب    كُتبت فيها ساعة الصفر.. حكاية «كراسة حنان» التي احتوت على خطة حرب أكتوبر    سوء تفاهم قد يعكر الأجواء.. برج العقرب اليوم 9 أكتوبر    مصطفى قمر: مبروك لمصر رفعتوا راسنا يا رجالة مستنيين بقى تشرفونا فى كأس العالم    رسميًا.. موعد صرف معاشات شهر نوفمبر 2025 بعد قرار التأمينات الاجتماعية (تفاصيل)    مصادر بالبترول تنفى زيادة أسعار البنزين والسولار صباح الخميس.. إنفوجراف    وزير الرياضة بعد تأهل مصر لكأس العالم: «سيكون هناك تكريم ل محمد صلاح ولاعبي الفراعنة»    حساب فيفا يحتفى بصعود الفراعنة للمونديال: مصر البهية تُطِل على كأس العالم    رسمياً.. مواصفات الورقة الامتحانية ل مادة العلوم المتكاملة شهر أكتوبر 2025 للثانوية العامة    إصابة رئيس مباحث شبين القناطر.. ومصرع عنصرين إجراميين في مطاردة أمنية بالقليوبية    منها منتجات الألبان.. 6 أطعمة ممنوعة لمرضى جرثومة المعدة (تفاقم الألم)    أسهل طريقة لعمل البليلة في ساعة.. شرط النقع    السيسي يُعبّر عن خوفه من الثورة والتغيير .. وناشطون: فات الأوان يا عميل    إعلان أسماء الفائزين بمسابقة بيت المعمار لشباب المعماريين لإعادة تأهيل مراكز الإبداع    نقيب المحامين: الرئيس أعاد المادة 105 لزيادة ضمانات حقوق المواطن    مدير حملة العناني ل بوابة أخبار اليوم: دعم الرئيس ساهم في الإنجاز التاريخي لمصر    استشاري نفسي: نسبة الطلاق بين الأزواج في مراحل متقدمة من العمر    دينا أبو الخير: قذف المحصنات جريمة عظيمة يعاقب عليها الله    مواقيت الصلاة فى الشرقية اليوم الأربعاء 8102025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرخيو بيتول ..وذكريات كاتب رحّالة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 02 - 2024

يُشار دائماً إلى الكاتب والمترجم والديبلوماسى المكسيكى الراحل سيرخى بيتول (1933-2018) بأنه أكثر كُتاب أمريكا اللاتينية نصيبًا من الموهبة، لكنه أقلّهم حظاً من الترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ولد سيرخيو بيتول فى مدينة بويبلا، درس القانون والفلسفة فى مكسيكو سيتى وقضى سنوات عديدة كملحق ثقافى فى السفارات والقنصليات المكسيكية فى جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك بولندا والمجر وإيطاليا والصين، اشتهر بيتول بثراء إنتاجه وتنوعه ما بين الكتابة الإبداعية والترجمة.
بيتول كاتب مقالات ومترجم وقصاص غزير الإنتاج، تميّز بصوت خاص وبلغة سردية استطاعتْ كسر الحواجز بين الأجناس الأدبية. كان يتقن سبع لغات، فتَرجَم إلى قُرّاء الإسبانية نصوصاً مهمة من عيون الأدب الغربى لجين أوستن وهنرى جيمس وجوزيف كونراد وفيتولد جومبروفيتش وغيرهم.
اقر أ أيضاً | يسكنها شعراء وفلاسفة: الحديقة الخلفية لبيت عماد أبوصالح
من بين أكثر أعمال بيتول شهرة "ثلاثية الذاكرة"، وهى مجموعة من المقالات الأدبية التى تلامس، بل وتتداخل مع تخوم سيرة ذاتية تخييلية، كانت مُحصلة رحلاته الواسعة كديبلوماسى لسنوات طويلة. فى مقال نُشر فى صحيفة فى The Los Angeles Review of Books السنة الماضية، وصف د. إجناسيو إم سانشيز برادو، أستاذ الدراسات الإسبانية ودراسات أمريكا اللاتينية فى جامعة واشنطن، الثلاثية بأنها مجموعة من ثلاثة أعمال هجينة تجمع ببراعة مرهفة بين فن المذكرات والمقال الأدبى والنثر خيالي، مضيفاً أن الثلاثية الباهرة تقدم حياة بيتول الحافلة بالأحداث والمغامرات كرحالة ودبلوماسي، ممزوجةً باستطرادات شائقة حول تأملاته الأدبية وقراءاته."أما عن حياته الشخصية فتشير أعماله إلى أنه إذا كان هناك أى شخص لم يحبس نفسه داخل جدران غرفة مكتبه فهو سيرجيو بيتول.
ربما كان محبسه الأول فى فترة طفولته قد دفعه إلى الخروج إلى العالم واكتشافه، فى فترة الطفولة أصيب سيرخيو بيتول بالملاريا وظلَّ طريح الفراش لفترة تزامنت مع إصابته بعديد مع المتاعب الصحية لفترات طويلة، وفى فترة لزوم المنزل عرّفته جدته على أعمال مؤلفين مثل جول فيرن وتشارلز ديكنز. وقال الرجل إلى التلفزيون الإسبانى فى مقابلة عام 2002 إن القراءة أنقذت حياته.
قال: "أنا متأكد من أننى لو لم أقرأ جول فيرن الذى التهمتُ كل أعماله تقريباً لانتهى أمري، وكنت سأقضى بسرعة كبيرة أو كنت سأظل طريح الفراش إلى الأبد". فى السطور التالية سأحاول إضاءة الجزء الأول من ثلاثية الذاكرة Triology of Memory، التى تحمل عنوان Art of Flying أو فن التحليق، وهى الترجمة التى اخترتها لتعبيرها عن مضمون الكتاب وروحه.
ربما تكمن صعوبة وضع فن التحليق لسيرجيو بيتول ضمن نوع السيرة الذاتية الأدبية فى أنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى الحرفى للكلمة، إلا أن القاريء سيلمس ولا شك تداخلاً شائقاً (أو انصهاراً وتمازجاً) بحسب تعبير إنريكه فيلا – ماتاس كما سأوضّح لاحقاً بين الأجناس الأدبية المتنوعة، وهو اللون الأدبى الذى صار محببًا إلى ذوقى فى الفترة الأخيرة.
الكتاب مُبوب إلى أربعة أبواب: الذاكرة، الكتابة، قراءات ثم النهاية، متبوعة بهوامش المترجم. فى المقدمة التى كتبها الكاتب الإسبانى الشهير إنريكه بيلا – ماتاس يقول: "الحياة والأدب منصهران فى حياة سيرخيو بيتول، وأتساءل إن كان ثمة شيء أكثر كيخوتية من شغف بيتول بدمج الأدب بالحياة. فى مكان ما من كتاب "فن التحليق"، يخبرنا بيتول: أنا حصيلة الكتب التى قرأتها واللوحات التى شاهدتُها والموسيقى التى سمعتها ثم نسيتها والشوارع التى مشيتُ فيها.
ليس المرء إلا طفولته وعائلته وبعض أصدقائه، وقليلاً من علاقات الحب وشيئاً غير قليل من المنغصّات. إن بيتول لا يسعى إلى توضيح الرؤية، بل إلى طمس ملامحها. ونحن نقرأ بيتول نشعر أننا فى حضرة أفضل كُتاب الإسبانية فى عصرنا الحاضر. أقول إلى أى شخص يسأل عن أسلوب بيتول إن مناط أسلوبه هو الإفلات من أى شخص بغيض يمتلأ إحساساً باليقين. أسلوبه قائم على أن يقول كل شيء، لكنه لا يحلّ اللغز. أسلوبه قائم على تزوير ملامح ما يراه، قائم على السفر وفقدان البلاد التى يرتحل إليها، على فقدان زوج أو زوجين من النظارات فيها، أو فقدانها كلها، فقدان كل شيء، ألا يكون فى حوزته شيء، أن يكون رجلاً مكسيكياً وفى الوقت أن يبقى أجنبياً غريباً على الدوام."فى السطور التالية أقدم فقرات مختارة من كتابه وفق ترتيب الفصول
الباب الأول: الذاكرة الماضى والحاضر
سنة 1965. عشتُ فى وارسو لمدة عامين. فى أحد الأيام سلّمنى ساعى البريد رسالة مُرسلة من Vence، قرية واقعة جنوب فرنسا، كانت الرسالة ممهورة بتوقيع فيتولد جومبروفيتش. أيُحتمل أن تكون مزحة. لم أكن أصدق أن الأمر حقيقي، عرضت الرسالة على بعض الأصدقاء البولنديين، وأصابتهم الدهشة؛ شاب مكسيكى يعيش فى وارسو يتلقّى رسالة من جومبروفيتش. لا يمكن! مستحيل! هززتُ رأسى منتشياً وقلت فى نفسي:" مثل كل شيء فى حياة جومبروفيتش".
فى الرسالة أوضحَ أن شخصاً ما أعطاه ترجمتى لرواية "بوابات الفردوس" للكاتب Jerzy Andrzejewski وأنه وجدها ترجمة مُرضِية، ودعانى إلى التعاون معه فى ترجمة "يوميات الأرجنتين" التى من المفترض أن تنشرها دار Sudamericana فى بوينس أيرس. وبغتة بدأتُ فى تلقى عروض من أماكن متفرقة.
حينما أتذكر ذلك الوقت لا يفارقنى اعتقاد أنى كنت أعيش حياة أخرى كما يُقال عادة، بل بالأحرى كان الرجل الذى أتحدث عنه ليس أنا، بل كنتُ أتحدث عن شاب مكسيكى يشاركنى اسمى وعاداتى وشؤونى الشخصية.
واحدة من الروابط الواضحة التى تربطنى بذلك الشاب المكسيكى هى الشغف القوى بالقراءة. فى ذات الوقت التى تلقيتُ فيه رسالة جومبروفيتش وصلتنى رسالة أخرى من الناشر Don Rafael Gimenez Siles، يحثّنى فيها على كتابة سيرة ذاتية.
كان الناشر قد دعا مجموعة من الكُتاب الذى ينتمون إلى جيلى وإلى الجيل الأحدث سناً لكتابة سِيرهم الذاتية، وكان مهتماً، وفق كلامه، بالتعرف على مشاعر الكُتاب الشبان إزاء العالم، والأهم التعرف إلى كيفية تعاملنا مع الظروف التى ألمّتْ بنا.
سيكون موضوع الإيجاز واحداً من جوانب السِيَر الذاتية المكتوبة بما يتلاءم مع قِصَر رحلة كُتابها الشبان فى الحياة. على مضضٍ شرعتُ فى كتابة هذه السيرة الذاتية مملوءاً بمزيج مختلط من المشاعر، مقتنعاً بحاجتى إلى الحصول على حضور فى بلدي، وإن يكن حضوراً صغيراً.
وعلى عكس الكُتاب الذين ضمّتهم القائمة لم أكتب سوى عدداً قليلاً للغاية من الكتب: مجموعتان قصصيتان صغيرتان. كنت متأكداً أن حياتي، لا حياتى الأدبية وحدها، قد بدأتْ لتوّها. كتبتُ سيرتى الذاتية بدافع من الشعور بالغرور أو الطيش أو الخمول.
فى أواخر ستة 1988 رجعتُ إلى المكسيك بصفة نهائية، فى غيابى عنها نشرتُ عديداً من الكتب، تُرجم بعضها إلى لغات عديدة وحصلت على جوائز أدبية وأشياء من هذا القبيل! عدت إلى وطنى حاملاً فى رأسى فكرة تكريس وقتى وطاقتى للكتابة وحدها.
شعرت بحاجة جسدية إلى العيش مع اللغة، وإلى الاستماع إلى اللغة الإسبانية طَوال الوقت وإلى معرفة أنها مُحيطة بى على الدوام وإن كنتُ لا أسمعها. بدت لى "مكسيكو سيتي" التى قابلتها غريبة ومعقدة تعقيداً عنيداً. بقيت أربع سنوات عاجزاً عن الاندماج معها أو الاندماج مع ذاتي. بعد وصولى تلقيتُ عروضَ نشر كثيرة، أولها عرض بإعادة تنقيح سيرتى الذاتية المكتوبة مبكراً وإضافة جزء ثانٍ يكون شاهد عيان على العشرين سنة التالية. لم أكن قد أعدتُ قراءتها، وحينما قرأتها شعرتُ باشمئزاز من نفسى ومن لغتى فى المقام الأول.
لم أتعرف على نفسى فى اللوحة التى رسمتها لذاتى فى وارسو سنة 1965. صُدمت على الفور بالنبرة الرزينة والتواضع الزائف الذين لم يتفقا البتّة مع علاقتى بالأدب، التى كانت علاقة حشوية، متطرفة، بل وهمجية. شعرت أن النصّ الذى كُتب ونُشِر فى الماضى كان يضرع طالباً المغفرة.
كان النص عبارة عن صفحات طافحة بنفاق هائل، بدت مهمة المؤلف كرجلٍ يؤدى مهام وظيفة من الدرجة الثالثة. باختصار، لم يكن يزعجنى آنذاك أن أعلن استمتاعى بالقراءة أكثر من الكتابة لأننى فى ذلك الوقت كنت أومن ذلك، ولا أزعجنى إعلان أنها كانت تجربة هائمة مؤقتة مقارنة بالأشياء الأخرى التى قدمتها لى الحياة. ولم يكن ذلك ليزعجنى البتة، ما استهجنتُه كان قناع تلميذ المدرسة الفاضل الذى كنت أختبئ وراءه.
وفى الفصل الثانى بعنوان الكتابة نقرأ اليوميات التالية:
19 أبريل (فى رحلة جوية من سان فرانسيسكو إلى المكسيك)
ما زالت تراودنى فكرة كتابة رواية ذات حبكة بوليسية. فكرة تحويل المبنى الذى أعيش فيه إلى بيئة ذات سِمات نموذجية لكونٍ مصغر. أفكر فى شخصية روائية من النوع المهيمن، وحش من الوحوش: امرأة مفرطة البدانة تعيش مع ابن تخفيه عن الأنظار. والمستأجرون أشخاص منخرطون بشكل أو بآخر فى تنظيمات سياسية أسسها اليمين المتطرف قبل ثلاثين أو أربعين سنة، أفكر كذلك فى قلة من المثقفين الذين يراهم الناس رعاعًا، ومستأجرين فقراء لا يراهم أحد على الإطلاق. ورجل مجنون وحيد مهووس ومزعج اسمه بيدريتو.
12 مايو (فى المكسيك)
تكشف القصة عن نفسها عبر الأقنعة، أما الوجوه فلن تُرى أبدا.
25 ديسمبر
هيكل الرواية فى غاية البساطة، سبق وأن وظّفه جوجول فى رواية الأنفس الميتة؛ يصل شخص غريب إلى أحد الأماكن ويشرع فى زيارة مجموعة من الأفراد واحدًا تلو الآخر لمناقشة موضوع ما، وهى تيمة طالما استخدمتها الروايات البوليسية منذ بواكيرها، العديد من روايات أجاثا كريستى مُشيّدة بهذا الأسلوب، ورواية "إريك أمبلر" الرائعة The Mask of Dimitrios النموذج المثالي.
أعنى أن الشخصية التى تخرج فى رحلة وتقنع الآخرين بفتح أبوابهم والإجابة عن الاسئلة هى إما شخصية ضابط بوليس وإما شخصية تحرّى خاص، أما أمبلر فيستخدم شخصية كاتب روائي، ولو لم تخنّى الذاكرة فهو صحفى كذلك وهذا ما يجعل اقتحام الأماكن الخاصة وحياة الآخرين تبدو طبيعية. فكرت أن شخصيتى ملائمة لشخصية صحفيّ. لكنى حوّلتُ الصحفى إلى مؤرخ يبحث فى فترة معينة: الحرب العالمية من منظور مكسيكي.
وفى فصل بعنوان قراءات نقرأ الفقرات التالية عن الكُتاب الذين أحبّهم وتأثر بهم:
عن تشيخوف كتب:
يؤكد الكاتب البريطانى سيريل كونولى أنه ينبغى لأى كاتب أن يطمح إلى كتابة عمل عبقري، وإلا هو ضائع لا محالة. وهو مطلب احترازي، مُحفّز، ضربة السوط لإبعاد شبح الكسل ومجاراة السائد والفرار من إغراء الوقوع فى السهولة. وحين تهبط الضربة على الكاتب عندما تسنح الفرصة المواتية لو أراد ألا يسوق الخراف إلى الذئب. هل عرف الشاب جويس وهو يكافح لتأليف أهالى دبلن أن مستقبله كامن فى يوليسيس؟ وهل كان توماس مان وكافكا على علم بمصيريهما عندما كانا يكتبان قصصهما الأولى؟ هل تخيل الشاب سرفانتس عند كتابة سطوره الأولى، التى من المفترض أنها كانت متواضعة، هل تخيّل نفسه أنه المؤلف الدرة الخالدة للأدب الإسباني؟ يخطر ببالى أنه يمكن للمرء أن يفسر تأكيد كونولى تفسيراً أقل درامية: ينبغى لكل كاتب منذ البداية أن يظل مخلصًا لقدراته وأن يعمل على تحسينها، أن يكن أعظم احترام إلى اللغة وأن يبقيها حيّة نابضة، محافظاً على تجديدها ما أمكنه، وألا يُقدّم تنازلات إلى أى شخص. أن يُدخِل على عمله أجرأ التحديات التى يمكن تصورها، على الأقل كانت هذه هى الطريقة التى صار بها تشيخوف كاتباً عظيماً.
فى البداية كتب تشيخوف لسدّ رمق أسرته عندما تبيّن قدرته على ابتكار القصص. ثمّ استغرق الأمر منه بضع سنوات لاكتشاف أن كون المرء كاتبًا يتطلب أكثر من كونه مجرد سارد حكاية مسلية أو واقعة درامية.
جعلت الممارسة اليومية من تشيخوف كاتباً على دراية واسعة بإمكانيات الحرفة، كان الرجل دائمًا مخلصًا لحدسه، يأخذ نفسه بالقوة دون هوادة ولا يلقى بالاً إلى أحكام الآخرين، مناهضاً إغراء السلطة وألوان الشطط أوالتزييف. لم يكن يعرف الملل أو الكلل فى السعى وراء أسلوب السرد الشخصي. فكانت النتيجة أن خلّفَ ورائه للبشرية مجموعة من الأعمال الرائعة.
وعن الكاتب الإيطالى أنطونيو تابوكى يقول:
دائماً ما تضعنى الكتابة عن أنطونيو تابوكى على أعتاب المستحيل، أقرؤها مملوءاً بشعور الانبهار. إغرائى الأكبر يكمن فى إعادة نسخها وملء الأوراق باقتباساته وإيجاد خيط مشترك رابط بينها ثم نشرها بترتيب أفضل لمشاركة متعة قراءته مع القارئ. تابوكى كاتب يصعب تقليد نثره، لديه نبرة خاصة به وتوتر عاطفى يخفّفه الذكاء. كتابات تابوكى ظنّية الدلالة لكنها لا تخلو من يقين.
سوء الفهم، الغموض، المناطق الرمادية، الأدلة المنتحلة الملفّة، الحقائق والأحلام الممزوجة بواقع مفزع، البحث عن ما نعرفه أنه ضاع بالفعل، ألعاب العودة إلى الوراء، الأصوات الصادحة من الجحيم، كل ذلك هى العناصر التى تصادفنا غالبًا فى عوالم أنطونيو تابوكي. واحد آخر.
وفى محاضرة ألقيت فى تينيريفى عام 1991 بعنوان "القرن العشرين: التوازن ووجهات النظر يؤكد تابوكي:
"على الكاتب العارف بكل شيء والعليم بكل شيء ألا ينشر كتابًا. يقينى الوحيد هو أن الأمور كلها نسبية وأن لكل حكاية وجهاً آخر. وهذه هى البقعة التى أحب دائماً التفتيش فيها، البقعة التى لا موضع فيها لشيء واضح للعيان من الوهلة الأولى. إن الصورة التى أخرجتها لنا الأدبيات المعاصرة لإنسان اليوم، إنما هى صورة رجل منعزل منكسر وحيد لم يعد يعرف نفسه ولم يعد الآخرون يعرفونه. يتحتم على الإنسان ألا يتوقف عن المطالبة بحقه فى الحُلم".
أشرتُ فى بداية المقال إلى إعجاب كاتبى المفضّل من بين كُتاب الإسبانية المعاصرين، وهو أنريكه - بيلا ماتاس بأسلوب بيتول الأدبي. سُئِلَ ماتاس ذات مرة فى مقابلة مطوّلة ترجمتها كاملة فى أحد كُتبي: (تسأليننى أى نوع من الأدب سيُكتب له البقاء؟). أشار الرجل إلى حوارات ساعد فى تنظيمها صديقُه الكاتب الأرجنتينى الراحل "ريكاردو بيجيليا" فى جامعة برينستون فى أميركا مع علماء رياضيات وفيزياء نظرية متقاعدين حققوا طموحاتهم على كل المستويات.
شبعوا من كل شيء، فضربتهم حالة زهد فى كل شيء، واعتقدوا أن الحياة لن تأتى لهم بالجديد، فقرروا الانعزال والتفرغ للقراءة.المهم أن بيجيليا لاحظ أنهم أغزر ثقافة من أسماء مرموقة مثل جورج شتاينر وهارولد بلوم، وأنهم بالنسبة إلى هؤلاء النُقاد الكبار مجرد هُواة.
كانوا يقرأون يقظة فينيجين ويحللونها صفحة صفحة، أعمال هيرمان بروخ،، روبرت موزيل، فأنهوا قراءة الكوميديا الإلهية بعد خمس سنوات ثم أعادوا قراءتها مرة أخرى. أحدهم تعلّم اليابانية لقراءة "كاواباتا".
أشار ماتاس إلى مهرجان كتاب يعقد يوم 23 إبريل فى برشلونة بمناسبة اليوم العالمى للكتاب، حيث تملأ شوارع برشلونة الكتب والورود الحمراء. وصفه بأنه نوبة هذيان جماعية.الخُلاصة - بحسب اعتقاده- أن هذا هو مستقبل الأدب فى القرن الحادى والعشرين؛ جلسات عمل جادة للقراءة لكى تمتلك مادة تنتج أدبًا حقيقيًا، تلقيح الفكرة بالتجربة الذاتية، قال ما معناه: ماتفتكرش نفسك صمويل بيكيت.. لكن ابذل أقصى ما فى وسعك.
خطرت لى فكرة محاولة الاحتفاظ بكل ما أريد تدوينه داخل رأسي، بحيث لا أضطر إلى تدوينه أبدًا. تراودنى مؤخرًا هذه الفكرة العجيبة؛ لن أكتب مجددًا، أو سأكتب ولن أنشر حرفًا. سأحاول الاحتفاظ باستحلاب الفكرة فى ذهني، والتلذذ بها، والبكاء على مصائر أبطالها وأنا أمشي. مشاوير المشى الفالزرية البيكيتية الطويلة، وأسمع الموسيقى تهبط عليَّ لتمتزج بالذكريات والأفكار والقصص والأحلام. الفكرة الأشدّ تطرفًا هى ألا جدوى من تدوين الأدب برمته؛ جدواه الوحيد تعود على كاتبه، وما دام كاتب الأدب قد استمتع، وتفاعل، وتأثّر وتذكَّر وخلَّد الفكرة فى رأسه، وضحك عليها، ثم سخر منها، ثم بكى على أبطالها، فلا فائدة من تدوينها على الأوراق، وهذه أيضًا فكرة جديرة بالكتابة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.