«زي النهارده» في 10 أكتوبر 2009 .. وفاة الدكتور محمد السيد سعيد    انخفاض كبير في عيار 21 بالمصنعية.. مفاجأة ب أسعار الذهب والسبائك اليوم الجمعة بالصاغة    سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025    وزير العدل الفلسطيني: سنطلق اسم مصر على أكبر ميادين غزة.. والسلطة جاهزة لتسلم إدارة قطاع غزة    الحكومة الإسرائيلية تصدق على قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة    خليل الحية: غزة تصنع المعجزات وتؤكد أنها محرمة على أعدائها    إجراء عقابي محتمل من ترامب ضد النرويج حال عدم منحه نوبل للسلام وصحيفة تكشف ما يحدث    «أي هبد».. وليد صلاح الدين يهاجم نجمًا شهيرًا: «ناس عايزة تسترزق»    بمشاركة دغموم.. الجزائر المحلي ينتصر على فلسطين بثلاثية وديا    تفاصيل جلسة لبيب مع فيريرا وجون إدوارد    وليد صلاح: داري لا يعاني من إصابة مزمنة.. وهذا موقف عاشور وفؤاد وشكري    غرقت في ثوان، 13 صورة ترصد كسح مياه الأمطار من شوارع وميادين العجمي بالإسكندرية    بسبب محل.. التحقيق مع مسؤول بحي العمرانية لتلقيه رشوة من أحد الجزارين    طقس مائل للحرارة نهارًا ومعتدل ليلًا.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الجو اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025 في مصر    تحويلات مرورية لتنفيذ أعمال إنشائية خاصة بمشروع المونوريل بالجيزة    ما بيحبوش الزحمة.. 4 أبراج بتكره الدوشة والصوت العالي    «كان نعم الزوج».. هناء الشوربجي تتحدث عن قصة حبها بالمخرج حسن عفيفي    ما تكتمش العطسة.. تحذير طبي من عادة خطيرة تسبب أضرار للدماغ والأذن    «هتكسبي منها دهب».. إزاي تعمل مشروع الشموع المعطرة في البيت؟    4 أعشاب سحرية تريح القولون وتعيد لجهازك الهضمي توازنه الطبيعي بشكل آمن    حبس ديلر المخدرات وزبائنه في المنيرة الغربية بتهمة حيازة مخدر البودر    اليوم، انطلاق انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء    استدعاء كريم العراقي لمعسكر منتخب مصر الثاني بالمغرب استعدادًا لكأس العرب    حماس: حصلنا على الضمانات.. والحرب انتهت بشكل كامل    التاريخ ويقترب من تحطيم رقم حسام حسن.. فيديو    تفاصيل جلسة حسين لبيب مع يانيك فيريرا فى الزمالك بحضور جون إدوارد    السيسي يُحمّل الشعب «العَوَر».. ومراقبون: إعادة الهيكلة مشروع التفافٍ جديد لتبرير الفشل    رسميًا.. موعد بداية فصل الشتاء 2025 في مصر وانخفاض درجات الحرارة (تفاصيل)    متى يتم تحديد سعر البنزين فى مصر؟.. القرار المنتظر    منتخب المغرب يهزم البحرين بصعوبة وديا (فيديو)    وزير الخارجية الإيطالى يشكر مصر والوسطاء على جهود التوصل لاتفاق سلام فى غزة    النيابة تصدر قرارًا ضد سائق وعامل بتهمة هتك عرض طالب وتصويره في الجيزة    الأرصاد الجوية تكشف تفاصيل طقس الجمعة 10 أكتوبر وأماكن سقوط الأمطار    تراجع حاد للذهب العالمي بسبب عمليات جني الأرباح    رئيس فولكس فاجن: حظر محركات الاحتراق في 2035 غير واقعي    أسامة السعيد ل إكسترا نيوز: اتفاق شرم الشيخ إنجاز تاريخي أجهض مخطط التهجير ومصر تتطلع لحل مستدام    اتحاد كتاب مصر ينعى الناقد والمؤرخ المسرحي عمرو دوارة    محافظ شمال سيناء: اتفاق وقف الحرب لحظة تاريخية ومستشفياتنا جاهزة منذ 7 أكتوبر    "كارمن" تعود إلى مسرح الطليعة بعد 103 ليلة من النجاح الجماهيري.. صور    كريم فهمي يكشف حقيقية اعتذاره عن مسلسل ياسمين عبد العزيز في رمضان 2026    كيف يحافظ المسلم على صلاته مع ضغط العمل؟.. أمين الفتوى يجيب    موعد أول أيام شهر رمضان 2026 فى مصر والدول العربية فلكيا    انخفاض جديد في البتلو والكندوز، أسعار اللحوم اليوم بالأسواق    وصول عدد مرشحى النظام الفردى لإنتخابات مجلس النواب الى 1733 شخصًا    أوقاف الفيوم تعقد 150 ندوة علمية في "مجالس الذاكرين" على مستوى المحافظة.. صور    عشان تحافظي عليها.. طريقة تنظيف المكواة من الرواسب    مباشر مباراة المغرب ضد كوريا الجنوبية الآن في كأس العالم للشباب 2025    روسيا ترحب باتفاق "حماس" وإسرائيل وتشيد بجهود الوسطاء: نأمل بوقف دائم لإطلاق النار    نقابة أطباء الأسنان بالدقهلية توضح ملابسات وفاة شاب داخل عيادة أسنان بالمنصورة    سعر الموز والتفاح والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025    داليا عبد الرحيم تهنيء الزميلة أميرة الرفاعي لحصولها على درجة الماجستير    أميرة أديب ترد على الانتقادات: «جالي اكتئاب وفكرت أسيب الفن وأتستت»    نصائح للأمهات، طرق المذاكرة بهدوء لابنك العنيد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9-10-2025 في محافظة الأقصر    بيت الزكاة والصدقات يثمّن جهود الوساطة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة    الثلاثاء المقبل.. أولى جلسات اللجنة الرئيسية لتطوير الإعلام بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب    كوارث يومية فى زمن الانقلاب…حريق محل مراتب بالموسكي ومصرع أمين شرطة فى حادث بسوهاج    دينا أبو الخير: قذف المحصنات جريمة عظيمة يعاقب عليها الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كورونا وأدب الرحلة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 02 - 08 - 2021


‬منصورة ‬عز ‬الدين
حُكِي ‬الكثير ‬عن ‬التأثيرات ‬السلبية ‬لوباء ‬كورونا ‬المستجد ‬على ‬صناعة ‬النشر ‬في ‬العالم ‬كله، ‬وكيف ‬تسبب ‬في ‬إلغاء ‬معظم ‬معارض ‬الكتب ‬الدولية ‬وأجبر ‬كثيرًا ‬من ‬الناشرين ‬على ‬وقف ‬أنشطتهم ‬وأغلق ‬المكتبات ‬في ‬فترات ‬الحظر ‬الكلي، ‬لكنّ ‬قطاعًا ‬بعينه ‬من ‬النشر ‬يبدو ‬أنه ‬تأثر ‬أكثر ‬من ‬غيره، ‬وأقصد ‬به ‬النشر ‬المتخصص ‬في ‬السفر ‬والرحلات، ‬وهو ‬لا ‬يعني ‬فقط ‬أدب ‬الرحلات ‬بمعناه ‬المنتشر ‬لدينا، ‬إنما ‬يمتد ‬ليشمل ‬كل ‬ما ‬يخص ‬السفر ‬والارتحال ‬والبلدان ‬الأجنبية.‬
ففي ‬الغرب، ‬وربما ‬معظم ‬أجزاء ‬العالم، ‬هناك ‬دور ‬نشر ‬متخصصة ‬حصرًا ‬في ‬الكتب ‬المتعلقة ‬بالسفر؛ ‬إذ ‬تنشر ‬أدب ‬رحلات ‬وكتيبات ‬إرشادية ‬عن ‬مدن ‬العالم ‬المختلفة ‬وأهم ‬معالمها ‬السياحية، ‬وكيفية ‬زيارة ‬هذه ‬المعالم ‬في ‬أقصر ‬وقت ‬ممكن. ‬ثمة ‬مثلًا ‬كتب ‬عن ‬كيفية ‬الإلمام ‬بأهم ‬ما ‬في ‬باريس ‬أو ‬لندن ‬مثلًا ‬في ‬يوم ‬أو ‬يومين، ‬وكتب ‬أخرى ‬مخصصة ‬لهواة ‬السياحة ‬الرياضية ‬أو ‬الثقافية ‬أو ‬المهتمين ‬بالمطابخ ‬المحلية ‬في ‬البلاد ‬التي ‬يزورونها ‬وهكذا. ‬وتجدد ‬هذه ‬الكتيبات ‬الإرشادية ‬دوريًا ‬كي ‬تواكب ‬التغيرات ‬المتتالية ‬في ‬المدن ‬المختلفة.‬
ومع ‬اجتياح ‬وباء ‬كورونا ‬للعالم ‬من ‬شرقه ‬إلى ‬غربه ‬وتوقف ‬حركة ‬السفر ‬العالمية ‬إلّا ‬في ‬أضيق ‬الحدود، ‬لم ‬يعد ‬أحد ‬تقريبًا ‬يُقبِل ‬على ‬اقتناء ‬هذا ‬النوع ‬من ‬الكتيبات ‬وتضررت ‬دور ‬النشر ‬المتخصصة ‬في ‬نشرها ‬تضررًا ‬كبيرًا، ‬لم ‬يُحجِّم ‬منه ‬سوى ‬إقبال ‬القراء ‬على ‬قراءة ‬أدب ‬الرحلات ‬التقليدي، ‬الذي ‬يسرد ‬لهم ‬تجارب ‬كُتَّابه ‬في ‬بلاد ‬بعيدة، ‬تعويضًا ‬عن ‬حرمانهم ‬من ‬السفر.‬
حاولت ‬هذه ‬الدور ‬تقليل ‬خسائرها ‬أيضًا ‬بالتركيز ‬على ‬كتب ‬السياحة ‬المحلية ‬وإصدار ‬كتيبات ‬سياحية ‬عن ‬المدن ‬المحلية ‬في ‬الدول ‬التي ‬تنتمي ‬إليها، ‬كما ‬ركز ‬بعضها ‬على ‬نشر ‬كتب ‬تتناول ‬كيفية ‬السفر ‬مع ‬اتخاذ ‬كافة ‬الاحترازات ‬الصحية ‬اللازمة، ‬أو ‬تلفت ‬النظر ‬إلى ‬أهمية ‬الوعي ‬بالبيئة ‬المحيطة ‬وكيفية ‬رؤيتها ‬بعين ‬جديدة ‬سواء ‬في ‬أماكننا ‬الأصلية ‬أو ‬تلك ‬الأماكن ‬التي ‬نسافر ‬إليها.‬
وفي ‬ظل ‬عودة ‬حركة ‬السفر ‬نسبيًا ‬حاليًا، ‬تحاول ‬دور ‬النشر ‬هذه ‬التأقلم ‬مع ‬المستجدات ‬وتكييف ‬سياستها ‬النشرية ‬مع ‬التغيرات ‬الطارئة ‬على ‬عالمنا ‬لجني ‬أكبر ‬ربح ‬ممكن ‬وتوسيع ‬مفهومها ‬ومفهوم ‬قرائها ‬المحتملين ‬عن ‬الارتحال ‬وعلاقتهم ‬بالأماكن ‬التي ‬يزورونها ‬ودور ‬الإنسان ‬ومسؤوليته ‬عمّا ‬يقع ‬للبيئة ‬التي ‬يعيش ‬فيها.‬
طويت ‬الصفحة ‬الأخيرة ‬من ‬الكتاب ‬وقلت ‬فى ‬نفسي: ‬هذا ‬هو ‬الأدب ‬الذى ‬أود ‬كتابته ‬والكتابة ‬عنه. ‬ جرّبت ‬إنريكه ‬فيلا - ‬ماتاس ‬فى ‬ابارتليبى ‬وأصحابه ‬بترجمة ‬عبد ‬الهادى ‬سعدون ‬وامستكشفو ‬الهاوية ‬بترجمة ‬أحمد ‬مجدى ‬منجود، ‬بالإضافة ‬إلى ‬عمل ‬ثالث ‬قصير ‬عن ‬لغة ‬وسيطة ‬بعنوان‬A Brief History of Portable Literature، ‬وفيه ‬يصهر ‬الرجلُ ‬الفواصل ‬بين ‬التاريخ ‬
وأدب ‬المغامرات ‬والسيرة ‬الذاتية، ‬فيكتب ‬عن ‬تاريخ ‬مجتمع ‬سري، ‬أسماه ‬مجتمع ‬االشانديزب ‬نسبة ‬إلى ‬راوية ‬الأديب ‬الآيرلندى ‬لورانس ‬ستيرن ‬المعقدة (‬حياة ‬السيد ‬النبيل ‬تريسترام ‬شاندى ‬وآراؤه)‬، ‬وهو ‬مجتمع ‬يضمّ ‬مجموعة ‬من ‬الأدباء ‬الذين ‬عاشوا ‬فى ‬القرن ‬الماضى ‬مثل ‬دوتشامب، ‬جومبروفيتش، ‬بورخيس، ‬جويس، ‬سيلين، ‬فالتر ‬بينيامين، ‬لوركا ‬وغيرهم،
‬وكان ‬اكتشافاً ‬بحق. ‬اشتُهرت ‬أعمال ‬ماتاس ‬بالتناص ‬المكثف ‬مع ‬نصوص ‬أدبية ‬الأخرى ‬وعلى ‬الأخص ‬نصوص ‬روبرت ‬فالزر ‬وبيكيت ‬وجويس ‬ومونتين ‬ولورنس ‬شتيرن، ‬وكذلك ‬الرسم ‬بحُرَّية ‬من ‬تفاصيل ‬حياته ‬الغريبة، ‬وتحوم ‬نصوصه ‬حول ‬بقعة ‬رمادية ‬ما ‬بين ‬الأحداث ‬والتأملات ‬والسرد ‬المسهب ‬تتخلله ‬استطرادات ‬طويلة.‬ الدكتور ‬باسافنتو:‬
فى ‬هذا ‬العمل ‬ينهى ‬ماتاس ‬الثلاثية ‬التى ‬بدأها ‬ب ‬بارتليبى ‬وأصحابه ‬حول ‬كُتَّاب ‬ال ‬الاب ‬الرافضين ‬للكتابة، ‬أو ‬الكُتَّاب ‬الذين ‬كتبوا ‬عملاً ‬واحداً ‬ثم ‬هجروا ‬الكتابة ‬أو ‬الذين ‬غرقوا ‬قى ‬صمت ‬أبدى ‬حتى ‬رحلوا، ‬وأتبعه ‬بكتاب ‬Montanoصs Malady [‬وَفق ‬الترجمة ‬الإنجليزية] ‬وأخيراً ‬رواية ‬الدكتور ‬باسافانتو ‬التى ‬أنجز ‬ترجمتها ‬الشاعر ‬والمترجم ‬العراقى ‬حسين ‬نهابة. ‬
بطل ‬الرواية (‬ماتاس ‬شخصياً) ‬يصرّح ‬بوضوح ‬فى ‬مقابلاته ‬وأعماله ‬أنه ‬مهووس ‬بفكرة ‬الاختفاء ‬والتلاشى ‬عن ‬أعين ‬الجميع. ‬لماذا؟ ‬يبرر ‬ذلك ‬بقوله ‬لأنها ‬محاولات ‬تأكيد ‬الذات. ‬وبعد ‬أسبوعين ‬من ‬سؤال ‬المجهولين ‬له ‬يعرِفُ ‬ماتاس ‬أن ‬رجلاً ‬اسمه ‬ادكتور ‬باسافانتوب ‬اختفى ‬قُرب ‬برج ‬مونتين، ‬البرج ‬الذى ‬عاش ‬فيه ‬أستاذه ‬الأسلوبى ‬كاتب ‬المقالات ‬الفرنسى ‬ميشيل ‬مونتين، ‬من ‬دون ‬أن ‬يترك ‬أثراً، ‬وتبدأ ‬اللعبة. ‬يُدعى ‬السارد/‬الكاتب ‬إلى ‬إلقاء ‬محاضرة ‬فى ‬إشبيلية ‬حول ‬موضوع ‬اكيف ‬أن ‬الحقيقة ‬تراقص ‬الخيال ‬على ‬الحدود، ‬فينطلق ‬فى ‬رحلة ‬كيخوتية ‬ممزوجة ‬بطابع ‬ماتاسي، ‬لكنه ‬يقرر ‬فى ‬اللحظة ‬الأخيرة ‬عدم ‬إلقاء ‬المحاضرة ‬والاختفاء ‬بدلاً ‬من ‬ذلك. ‬رواية ‬دكتور ‬باسافينتو (‬إن ‬جاز ‬لنا ‬نسبها ‬إلى ‬ذلك ‬الجنس ‬الأدبي) ‬هى ‬حكاية ‬كاتب ‬يسعى ‬وراء ‬الاختفاء، ‬فيحاول ‬أن ‬يحذو ‬حذو ‬الكاتب ‬السويسرى ‬روبرت ‬فالزر ‬الذى ‬انسحب ‬من ‬مجد ‬العالم ‬الأدبى ‬ليعيش ‬فى ‬تعاسته ‬الجميلة ‬وليكسبَ ‬حياته ‬الحقيقة ‬عبر ‬إخفاء ‬هويته ‬فى ‬مستشفى ‬للأمراض ‬العقلية. ‬بل ‬أغلو ‬فأقول ‬إنها ‬محاولة ‬لإعادة ‬تمثيل ‬حياة ‬روبرت ‬فالزر، ‬ولا ‬سيما ‬فى ‬الثلث ‬الأخير ‬من ‬العمل؛ ‬حيث ‬يبدأ ‬الساردُ ‬كل ‬فقرة ‬تقريباً ‬بجُملة ‬ثابتة: ‬اوضعتُ ‬قبعة ‬اللباد ‬على ‬رأسى ‬وغادرت ‬غرفة ‬الكُتاب ‬أو ‬الأرواح، ‬وهى ‬نفسها ‬افتتاحية ‬قصة ‬روبرت ‬فالزر ‬اتمشيةب = ‬Der ‬Spaziergang (‬للقصة ‬ترجمة ‬عربية ‬بعنوان ‬مشوار ‬المشي).‬
‬دفعتْ ‬رغبة ‬باسافنتو ‬فى ‬الاختفاء ‬من ‬دون ‬أن ‬يلاحظه ‬أحد ‬إلى ‬استبدال ‬جهاز ‬الكمبيوتر ‬الخاص ‬به ‬وقلمه ‬الجاف ‬ب ‬اقلم ‬رصاصب (‬لروبرت ‬فالزر ‬قصة ‬بالاسم ‬نفسه!)‬، ‬بحيث ‬‬أن ‬ضربة ‬صغيرة ‬لسنّ ‬القلم ‬الرصاص ‬كفيلة ‬بنسف ‬فكرة ‬الكتابة. ‬يفطن ‬السارد ‬إلى ‬حقيقة ‬أن ‬الاختفاء ‬فى ‬الواقع ‬سيكون ‬غاية ‬فى ‬الصعوبة، ‬لكنه ‬يفكر ‬أيضًا ‬فى ‬الآلهة ‬الغامضين ‬المنعزلين ‬مثل ‬موريس ‬بلانشو ‬وتوماس ‬بينشون ‬وج. ‬د. ‬سالينجر، ‬فيتوجه ‬إلى ‬نابولي، ‬متخذًا ‬اسم ‬الدكتور ‬باسافينتو ‬ومحتفظاً ‬باسم ‬الدكتور ‬بينشون ‬كاسم ‬احتياطي. ‬
لا ‬يمل ‬الكاتب ‬على ‬مدار ‬الصفحات ‬من ‬إيراد ‬أسماء ‬الكّتاب ‬الذين ‬أَحَبَّهم ‬وتأثّرَ ‬بهم، ‬ولحسن ‬الحظ ‬أنهم ‬من ‬طينة ‬الكُتاب ‬الذين ‬أعاود ‬قراءتهم ‬والترجمة ‬لهم ‬أحياناً. ‬كاتب ‬ماتاس ‬الأثير ‬هو ‬السويسرى ‬روبرت ‬فالزر، ‬عميد ‬أدب ‬الاختفاء ‬عن ‬البلاد ‬والعباد ‬وحامل ‬صليب ‬الأدب، ‬وكاتبه ‬الأسلوبى ‬المفضل ‬هو ‬الألمانى ‬فينفريد ‬جيورج ‬زيبالد، ‬الذى ‬كان ‬يشعر ‬أن ‬كل ‬ما ‬حوله ‬فى ‬طريقه ‬إلى ‬الاختفاء ‬والتلاشى ‬والزوال. ‬ماتاس ‬مولعٌ ‬ب ‬زيبالد، ‬المستشهد ‬دوماً ‬بشعرية ‬الزوال ‬والمتناص ‬دوماً ‬مع ‬أعمال ‬الآخرين،
‬وكذلك ‬بموريس ‬بلانشو، ‬صمويل ‬بيكيت، ‬سالينجر، ‬جوليان ‬جراك ‬وتوماس ‬بينشون، ‬إلخ. ‬ومثلما ‬كان ‬صمويل ‬بيكيت ‬يختفى ‬وراء ‬الكلمات ‬المتكررة ‬إلى ‬ما ‬لانهاية ‬فى ‬مالون ‬ومولوى ‬واللا ‬مسمّى، ‬يختفى ‬ماتاس ‬وراء ‬الاستطراد ‬المتواصل ‬وإرجاء ‬النهاية ‬إلى ‬أبعد ‬نقطة ‬ممكنة. ‬
من ‬النقاط ‬اللافتة ‬انشغال ‬ماتاس ‬المتواصل ‬بالبحث ‬عن ‬أسلوب، ‬الرجل ‬هو ‬الأسلوب ‬كما ‬يُقال ‬عادةً. ‬فتّش ‬الرجل ‬طويلاً ‬فلم ‬يجد ‬الأدب ‬الحقيقى ‬فى ‬نظره، ‬وفى ‬اعتقادى ‬مؤخراً ‬إلا ‬عند ‬لورانس ‬ستيرن ‬فى ‬احياة ‬تريسترام ‬شانديب، ‬وهو ‬العمل ‬الجامع ‬كل ‬شيء ‬وأى ‬شيء (‬أذكر ‬أن ‬خابيير ‬مارياس ‬قال ‬الكلمة ‬نفسها ‬فى ‬أحد ‬حواراته)‬، ‬كما ‬وجدها ‬فى ‬مقالات ‬مونتين، ‬حيث ‬ابتكر ‬مونتين ‬ولورانس ‬ستيرن ‬جنس ‬المقالة/‬الرواية/‬السيرة، ‬وهو ‬الجنس ‬الأدبى ‬الذى ‬واصلَ ‬زيبالد ‬تطويره ‬وسار ‬به ‬ماتاس ‬فى ‬سِكّة ‬جديدة. ‬
السارد ‬المهووس ‬بفكرة ‬الاختفاء ‬يستخدم ‬تقنية ‬الاستطراد ‬اللا ‬نهائي،
‬وهى ‬استراتيجية ‬تريسترام ‬شاندى ‬الرامية ‬إلى ‬إرجاء ‬النهاية/‬الموت ‬إلى ‬ما ‬لا ‬نهاية، ‬فبطل ‬رواية ‬ستيرن ‬لا ‬يريد ‬أن ‬يُولد ‬لأنه ‬لا ‬يريد ‬أن ‬يموت. ‬المفارقة ‬الساخرة ‬والمتكررة ‬فى ‬نصوص ‬ماتاس ‬ذ ‬حسبما ‬قرأت ‬منها- ‬أن ‬الكاتب ‬الحالم ‬بالهروب ‬من ‬نفسه ‬ومن ‬الموت، ‬والمنتحل ‬لهوية ‬شخص ‬آخر، ‬لا ‬يسعه ‬إلا ‬مواصلة ‬سرد ‬القصة (‬إن ‬كانت ‬ثمة ‬قصة) ‬بضمير ‬المتكلم. ‬بل ‬أن ‬السارد ‬فى ‬بحثه ‬عن ‬طُرق ‬للاختفاء ‬يقتبس ‬تقنياته ‬من ‬الروايات ‬والكتب، ‬الرجل ‬مستغرق ‬بكليته ‬فى ‬عالم ‬الأدب ‬وكأنه ‬لم ‬يُخلق ‬لهذا ‬هذا ‬العالم. ‬وسط ‬مسار ‬السرد ‬يطل ‬علينا ‬ماتاس ‬بآرائه ‬حول ‬الأدب ‬فيتسائل ‬فى ‬حواراته ‬مع ‬بروفيسور ‬مورانتي: ‬لِمَ ‬كان ‬الأدب ‬الجيّد ‬يتخذ ‬دائماً ‬شكل ‬رحلة؟ ‬الأوديسة؟ ‬رحلة ‬اليوم ‬الواحد ‬فى ‬عوليس ‬ج. ‬جويس؟ ‬الكيخوته؟ ‬فيجيب ‬بأن ‬الرحلة ‬هى ‬الحبكة ‬المثالية ‬لأية ‬قصة، ‬لأنهم ‬اكتشفوا ‬منذ ‬العهود ‬الغابرة ‬أنه ‬إذا ‬كان ‬للشيء ‬بداية ‬ونهاية ‬فهى ‬الرحلة، ‬كان ‬للرحلات ‬بداية ‬ونهاية ‬وهذا ‬ما ‬يصنع ‬نسقاً، ‬أو ‬هذا ‬ما ‬يصنع ‬قصة.‬
***‬
كان ‬أرتور ‬رامبو ‬يقول ‬إن ‬الحياة ‬الحقيقية ‬غائبة، ‬وفى ‬ظنى ‬ستظل ‬الحياة ‬غائبة، ‬خلواً ‬من ‬المعنى ‬طالما ‬لم ‬يضعها ‬الإنسان ‬داخل ‬قصة ‬أو ‬قصيدة، ‬ولن ‬يتحقق ‬حضورها ‬إلا ‬بالتقرير ‬الذى ‬يكتبه ‬الإنسان ‬عن ‬نفسه. ‬لا ‬ينبغى ‬لأحد ‬الموت ‬إلا ‬لو ‬كانت ‬لديه ‬قصة ‬تُروى. ‬لكى ‬تغادر ‬عليك ‬أن ‬تحكى ‬قصّتك ‬أولاً ‬ثم ‬تمضي، ‬كاذبة ‬كانت ‬أم ‬صادقة، ‬لا ‬فرق. ‬ذات ‬معنى ‬أم ‬خالية ‬من ‬المعنى، ‬لا ‬ضير. ‬قرأها ‬أحد ‬أم ‬لم ‬يقرؤها ‬أحد، ‬لا ‬يهم. ‬
فى ‬أدب ‬ماتاس ‬الحياة ‬لا ‬وجود ‬لها ‬لو ‬لم ‬يعثر ‬لها ‬الإنسان ‬على ‬شكل ‬سردى (‬حتى ‬لو ‬كانت ‬رواية ‬ملغزة
‬ونقطة ‬النور ‬فيها ‬مدفونة ‬أسفل ‬جملة ‬واحدة ‬فقط، ‬والشاطر ‬من ‬يعثر ‬عليها ‬مثل ‬مولوى ‬بيكيت)‬، ‬فمن ‬دون ‬الأدب ‬لن ‬تكون ‬الحياة ‬أكثر ‬من ‬شيء ‬يحدث، ‬سيرك ‬يمرّ ‬لو ‬استعرتُ ‬عنوان ‬رواية ‬موديانو، ‬أما ‬عبر ‬الفن ‬الذى ‬يتخذ ‬شكل ‬رواية/‬قصة/‬قصيدة/‬لوحة/‬مقالة/‬مقطوعة ‬موسيقية ‬تنفتح ‬أمامك ‬طاقة ‬صغيرة ‬تطلَّ ‬منها ‬برأسك. ‬نقرأ ‬فى ‬صفحة ‬83: ‬االأدب ‬يمنح ‬حبكةَ ‬الحياة، ‬منطقاً ‬لا ‬تمتلكه ‬الحياة ‬نفسها. ‬يبدو ‬لى ‬أن ‬الحياة ‬تخلو ‬من ‬الحبكة ‬وعلينا ‬تقع ‬مسؤولية ‬وضعها، ‬نحن ‬الذين ‬اخترعنا ‬الأدب.‬ب ‬أفكّر ‬الآن ‬فى ‬سبب ‬ارتباط ‬ماتاس ‬القوى ‬بروبرت ‬فالزر. ‬فى ‬منتصف ‬الرواية ‬يزور ‬السارد ‬فى ‬صحبة ‬بروفيسور ‬مورانتى ‬مصحة ‬هريساو ‬التى ‬توفى ‬فالزر ‬فى ‬أرجائها ‬بعد ‬سقوطه ‬فوق ‬الثلج ‬فى ‬أثناء ‬جولات ‬المشى ‬الغامضة ‬التى ‬لم ‬يكشف ‬عن ‬سرّها ‬أبداً ‬حتى ‬وفاته ‬مثلما ‬فعل ‬بطل ‬نوفيلا ‬باتريك ‬زوسكِند ‬الساحرة ‬احكاية ‬السيد ‬زومرب. ‬السارد ‬عثر ‬على ‬وجوده ‬الحقيقى ‬فى ‬نمط ‬حياة ‬فالزر ‬الذى ‬كان ‬منفصلاً ‬عن ‬الحياة ‬العامة، ‬كارهاً ‬للنفاق ‬والابتذال، ‬يعيش ‬حياة ‬كاتب ‬حقيقي، ‬لا ‬أراجوز ‬أدبى ‬يقفز ‬بين ‬الموائد ‬مثل ‬الكرة ‬الجلِد. ‬لم ‬يكن ‬يرغب ‬بشيء ‬سوى ‬أن ‬يبوح ‬بحقائقه ‬البسيطة ‬وأن ‬يخفى ‬آلامه ‬قبل ‬أن ‬يغرق ‬فى ‬الصمت، ‬فالزر ‬هو ‬مالك ‬وسيّد ‬الثرثرة ‬على ‬الورق ‬فقط ‬بحسب ‬كلام ‬ماتاس، ‬البطل ‬السرى ‬لمعركة ‬خاضها ‬بالقصص ‬ضد ‬العالم. ‬يقول ‬السارد ‬فى ‬فقرة ‬لافتة: ‬اما ‬زلتُ ‬لا ‬أستطيع ‬أن ‬أعتبر ‬نفسى ‬كاتباً ‬بمعنى ‬الكلمة، ‬وأعتقد ‬أننى ‬لستُ ‬مهتماً ‬بأن ‬أصبح ‬ذلكب (‬ص ‬257). ‬الا ‬بد ‬من ‬الانسحاب ‬من ‬العالَم ‬لفهمهب، ‬هكذا ‬يقول ‬أحد ‬الأبطال ‬إلى ‬ماتاس. ‬سؤال ‬من ‬عندي: ‬ألن ‬يقابل ‬المبدعُ ‬الموتَ ‬راضياً ‬مرضياً ‬لو ‬عاش ‬هكذا؟ ‬أقوى ‬المشاهد ‬عند ‬ماتاس ‬ذ ‬فى ‬ذوقي- ‬هى ‬المشاهد ‬التى ‬يحكى ‬فيها ‬عن ‬الكتب ‬التى ‬يُحبها ‬والكُتاب ‬الذين ‬يحبّهم ‬والمواقف ‬التى ‬اختلقها ‬ليقابلهم. ‬ففى ‬كلامه ‬عن ‬زيارة ‬مصحة ‬هيرساو ‬لمستُ ‬سرداً ‬ساخناً ‬متحركاً ‬إذ ‬قال: ‬اسأكون ‬كاذباً ‬إن ‬لم ‬أقل ‬أن ‬انطباعاً ‬تولّد ‬في، ‬أثناء ‬صعودنا ‬الصامت ‬إلى ‬مستشفى ‬هريساو، ‬بأننى ‬أعيش ‬المغامرة ‬الكبرى ‬التى ‬بدأ ‬فيها ‬المستشكف ‬يقترب ‬أخيراً ‬من ‬شىء ‬حقيقىب. ‬
نحن ‬نكتبُ ‬لنختفي، ‬لنغيّبَ ‬أنفسنا، ‬هكذا ‬يقول ‬ماتاس ‬قرب ‬نهاية ‬الرواية (‬ص ‬229). ‬وهنا ‬تكمن ‬المفارقة ‬الجميلة؛ ‬حينما ‬يكتب ‬الكاتب ‬فإنه ‬يغيّبَ ‬اأناهب ‬الظاهرة ‬ويُظهر ‬ظلّه ‬الناطق ‬باسم ‬الحقيقة. ‬يغرس ‬أناه ‬فى ‬أرض ‬الخمول ‬بتعبير ‬ابن ‬عطاء ‬الله ‬السكندرى ‬لتنبتَ ‬شخوصاً ‬أخرى ‬أقدر ‬على ‬التعبير ‬عن ‬نفسه ‬منه، ‬يصرّح ‬هيرمان ‬هسّه ‬فى ‬فصل ‬من ‬سيرته ‬الذاتية ‬حَمل ‬عنوان ‬اطفولة ‬الساحرب ‬بأن ‬أكثر ‬أمانيه ‬حماسةً ‬وهو ‬صغير ‬أن ‬يمتلك ‬القدرة ‬السحرية ‬على ‬الاختفاء.‬

طالما ‬شغلتنى ‬فكرة ‬مستقبل ‬الأدب ‬أو ‬أدب ‬المستقبل. ‬إلى ‬أين ‬يتجه ‬الأدب؟ ‬أجاب ‬ماتاس ‬نفسه ‬عن ‬السؤال ‬فى ‬أول ‬الرواية، ‬ناسِباً ‬الإجابة ‬إلى ‬الفرنسى ‬المحتجب ‬موريس ‬بلانشو ‬بقوله: ‬ايتجه ‬نحو ‬ذاته، ‬نحو ‬جوهره ‬الذى ‬هو ‬الاختفاء.‬ب
فى ‬حوار ‬أُجرى ‬مع ‬ماتاس ‬سنة ‬2018 ‬على ‬موقع ‬Tin House ‬قال ‬إنه ‬عثر ‬عند ‬الكاتب ‬الفرنسى ‬جورج ‬بيريك ‬على ‬رأى ‬مؤداه ‬أن ‬الأدب ‬يتقدم ‬نحو ‬فن ‬الاقتباسات، ‬وهو ‬ما ‬يمثل ‬فى ‬رأيه ‬توجهاً ‬إلى ‬الأمام، ‬وأضاف ‬أنه ‬يعمل ‬على ‬رسم ‬شخصية ‬مهتمة ‬بجمع ‬الاقتباسات ‬النادرة ‬من ‬كل ‬نصوص ‬العالم ‬وبكل ‬اللغات، ‬وهى ‬تعمل ‬لصالح ‬أحد ‬تلامذة ‬الروائى ‬الأميركى ‬الغامض ‬توماس ‬بينشون، ‬الكاتب ‬الذى ‬اختفى ‬عن ‬الأنظار ‬منذ ‬خمسينيات ‬القرن ‬الماضى ‬ويُشكّك ‬فى ‬وجوده ‬من ‬الأساس ‬برغم ‬حصده ‬الجوائز ‬ومواصلته ‬إصدار ‬المزيد ‬من ‬الروايات ‬من ‬بقعة ‬خفية ‬فى ‬نيويورك (‬انتحل ‬السارد ‬ماتاس ‬فى ‬الصفحات ‬الأخيرة ‬من ‬هذا ‬الكتاب ‬شخصية ‬بينشون ‬أيضاً!) ‬البطل ‬مشغول ‬بإعداد ‬موسوعة ‬متنقلة ‬تحوى ‬كافة ‬الاقتباسات ‬والاستعارات ‬الأدبية ‬المتاحة ‬فى ‬كل ‬كتب ‬العالم، ‬ولا ‬أستبعد ‬تأثّر ‬ماتاس ‬القوى ‬بأدباء ‬مولعين ‬بالتناص، ‬وعلى ‬رأسهم ‬كاتب ‬أشار ‬إليه ‬ماتاس ‬أكثر ‬من ‬مرة ‬فى ‬هذا ‬العمل، ‬وهو ‬الألمانى ‬ف.‬ج.‬زيبالد، ‬الذى ‬يتشابه ‬أسلوبه ‬مع ‬أسلوب ‬ماتاس. ‬وإن ‬اصطبغ ‬الأخير ‬بصبغة ‬هذيانية ‬استطرادية ‬متطرفة. ‬
سُئِل ‬ماتاس ‬عن ‬وجهة ‬نظره ‬إزاء ‬الأدب ‬الذى ‬يكتبه ‬fractal literatureت (‬أدب ‬الفراكتل ‬أو ‬أدب ‬الصدوع ‬والكسور)‬، ‬فغالباً ‬ما ‬تظهر ‬فى ‬أعماله ‬تفصيلة ‬دقيقة، ‬كمصادفة ‬أو ‬قرار ‬أو ‬تحوير ‬لغوى ‬لعبارة، ‬لكنها ‬ما ‬تلبث ‬أن ‬تكتسب ‬شيئًا ‬فشيئًا ‬مزيدًا ‬من ‬الأهمية ‬فتبتلعُ ‬الروايةَ،
‬وتنزلق ‬إلى ‬نسيج ‬العمل ‬لتخلق ‬شكلًا ‬سرديًا ‬جديدًا. ‬يستمر ‬هذا ‬لبعض ‬الوقت ‬حتى ‬تظهر ‬تفصيلة ‬أخرى ‬تسير ‬على ‬المنوال ‬ذاته ‬لتبتلع ‬العمل ‬خالقةً ‬شكلًا ‬سرديًا ‬آخر. ‬وهكذا ‬لا ‬تتوقّف ‬الرواية ‬عن ‬مقاطعة ‬نفسها ‬مُشيَّدةً ‬هذا ‬النظام ‬الجميل ‬الخلو ‬من ‬المنطق (‬ظاهرياً)‬، ‬الأمر ‬يشبه ‬إلى ‬حد ‬بعيد ‬كيف ‬يوظّف ‬الرسام ‬أشكال ‬الفراكتل ‬والمنحنيات ‬المتعرجة ‬لتبنى ‬لنفسها ‬شكلًا ‬جمالياً ‬على ‬درجة ‬عالية ‬من ‬التعقيد ‬والتناسق ‬الخفي. ‬راق ‬لماتاس ‬التعبير ‬وراق ‬له ‬وصف ‬أدب ‬الكسور ‬والشظايا ‬الذى ‬يكتبه ‬بالنظام ‬الجميل ‬الخالى ‬من ‬المنطق. ‬قال ‬إنه ‬لم ‬يسبق ‬وأن ‬قرأَ ‬وصفًا ‬مُماثلًا ‬يقترب ‬من ‬تصوير ‬الطريقة ‬التى ‬تُشيد ‬بها ‬أعماله، ‬مضيفاً ‬أنه ‬أدرك ‬بوضوح ‬حقيقة ‬دمجه ‬بين ‬جنس ‬المقالة ‬الأدبية ‬والقصة ‬والسيرة، ‬وأن ‬الخيوط ‬المفترض ‬نسجها ‬من ‬قماش ‬السيرة ‬الذاتية ‬التى ‬يضمّها ‬إلى ‬هذين ‬الجنسين ‬السرديين (‬المقالة ‬والقصة) ‬قادمة ‬من ‬صوت ‬سردى ‬قريب ‬للغاية ‬من ‬صوت ‬كاتب ‬المقالة. ‬أضاف ‬ماتاس ‬أن ‬الصوت ‬المتكلم ‬ليس ‬صوت ‬كاتب ‬شبحى ‬يسكن ‬ثنايا ‬النص ‬بل ‬هو ‬صوت ‬المؤلف ‬نفسه ‬المنحدر ‬من ‬سلالة ‬مونتانى ‬والكاتب ‬والمترجم ‬المكسيكى ‬سيرخيو ‬بيتول (‬وللأخير ‬بالمناسبة ‬ثلاثية ‬قرأتُ ‬عنها ‬مراجعات ‬ممتازة ‬تجمع ‬بين ‬فن ‬المذكرات ‬والنثر ‬والحر ‬والتأملات ‬الأدبية ‬والقراءات ‬الشخصية ‬تحمل ‬عنوان: ‬Triology ‬of Memoryوهى ‬ثلاثية ‬جديرة ‬بانتباه ‬المترجمين ‬المتخصصين.‬
قال ‬ماتاس ‬إن ‬غاية ‬أعماله ‬ليست ‬صنع ‬حبكة ‬أو ‬تتابع ‬سلسلة ‬من ‬الأفكار، ‬بل ‬الخروج ‬بطبخة ‬افيلا-‬ماتاسب، ‬ليسمّها ‬القاريء ‬طريقة ‬تفكير ‬أو ‬أسلوب ‬كتابة، ‬مضيفاً ‬أنه ‬ربما ‬يرجع ‬سرّ ‬أسلوبه ‬فى ‬رغبته ‬فى ‬الزج ‬بالخيال ‬إلى ‬بقعة ‬عدم ‬تصديق ‬القاريء ‬للمكتوب، ‬فمتعة ‬قراءة ‬كتاب ‬لا ‬تكمن ‬فى ‬القصة ‬المروية، ‬بل ‬فى ‬مقابلة ‬المؤلف ‬وجهًا ‬لوجه ‬على ‬طريقة ‬الروائيين ‬الذين ‬يسردون ‬كما ‬لو ‬كانوا ‬يكتبون ‬مقالة ‬أدبية، ‬فى ‬مثل ‬هذا ‬النوع ‬من ‬الأدب ‬ذ ‬والكلام ‬من ‬نفس ‬المقابلة ‬المُشار ‬إليها- ‬لا ‬ينفك ‬محور ‬الكتاب ‬عن ‬التغيّر ‬والانزياح ‬بقصد ‬الاقتراب ‬من ‬اكتشاف ‬المحور ‬الرئيسى ‬للرواية ‬أو ‬اكتشاف ‬المحور ‬الرئيسى ‬للمقالة ‬المَحكية ‬لو ‬راق ‬للقاريء ‬التعبير. ‬الحقيقة ‬أن ‬ماتاس ‬احدوتة ‬لوحدهب، ‬أسلوبى ‬من ‬طراز ‬رفيع، ‬أعثر ‬دائماً ‬فى ‬حواراته ‬ونصوصه ‬ما ‬يُغوى ‬بمزيد ‬من ‬البحث ‬والتفتيش. ‬
قبل ‬فترة ‬عثرتُ ‬على ‬مادة ‬مشوقة ‬له ‬بالإنجليزية. ‬كان ‬الخطاب ‬الذى ‬ألقاه ‬بمناسبة ‬حصوله ‬على ‬جائزة ‬معرض ‬كتاب ‬جوادالاخارتفى ‬المكسيك ‬سنة ‬2015، ‬تحدّث ‬الرجل ‬عن ‬أزمة ‬نضوب ‬الأفكار ‬فقال ‬إن ‬كل ‬كتاب ‬ألّفه ‬كان ‬يقرّبه ‬شيئًا ‬فشيئًا ‬من ‬نقطة ‬هجر ‬الكتابة، ‬مثل ‬من ‬يخطو ‬بهدوء ‬نحو ‬طريق ‬مسدودة، ‬ثم ‬يعود ‬الأصدقاء ‬ليسألونه ‬كما ‬يفعلون ‬عادة: ‬وماذا ‬بعد؟
يقول ‬ماتاس: ‬اكنت ‬أظن ‬أن ‬الأمور ‬محسومة، ‬مررت ‬بأوقات ‬عصيبة ‬وأنا ‬أحاول ‬الخروج ‬من ‬تلك ‬النهاية ‬الميّتة، ‬لكنى ‬كنتُ ‬محظوظاً، ‬فدائماً ‬كنتُ ‬أتنبّه ‬فى ‬اللحظة ‬الأخيرة ‬إلى ‬أن ‬الذكاء ‬هو ‬فن ‬العثور ‬على ‬فجوة ‬صغيرة ‬يمكن ‬الهروب ‬عبرها ‬من ‬الأزمة ‬التى ‬تحاصرنا. ‬وقد ‬حالفنى ‬الحظ ‬دائماً ‬فى ‬النهاية ‬فى ‬العثور ‬على ‬أصغر ‬فجوة ‬يمكننى ‬الهروب ‬منها ‬لأشق ‬طريقى ‬نحو ‬تأليف ‬كتاب ‬جديد.‬
ماتاس ‬وأدب ‬الاختفاء
فى ‬الخطاب ‬نفسه ‬حكى ‬ماتاس ‬عن ‬لقائه ‬بأديب ‬تشيلى ‬روبرتو ‬بولانيو ‬سنة ‬2001، ‬وتحدّثا ‬فيه ‬عن ‬مستقبل ‬الرواية ‬والكتابة، ‬فأخبره ‬بولانيو ‬أن ‬ذلك ‬النوع ‬من ‬السرد ‬الروائى ‬القائم ‬على ‬الحبكة ‬والسرد ‬الخطى ‬كان ‬حاضراً ‬بقوة ‬فى ‬القرن ‬التاسع ‬عشر، ‬لكنه ‬أيامه ‬ولَّتْ، ‬مضيفاً ‬أن ‬ظهور ‬رواية ‬ااختراع ‬موريلب ‬لكاساريس ‬جعل ‬هذا ‬النوع ‬من ‬الروايات ‬غير ‬قابل ‬للحياة. ‬وربما ‬بعد ‬كلمة ‬بولانيو ‬تأكّدتْ ‬وجهة ‬نظر ‬ماتاس ‬فيما ‬كتب. ‬يغلب ‬اعتقادى ‬دائماً ‬أن ‬النقطة ‬الميتة ‬فى ‬أى ‬نص ‬هى ‬النقطة ‬التى ‬خرجت ‬وستخرج ‬منها ‬كل ‬قصة ‬جديدة ‬حتى ‬ولو ‬كانت ‬قصة ‬عن ‬الاختفاء ‬أو ‬عن ‬انتحال ‬هويات ‬الآخرين. ‬
المصدر : جريدة اخبار الادب



انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.