لا شيء يجمع بين روبيرتو بولانيو الطفل والشاب والميت إلا الاسم، دون ذلك، نحن أمام ثلاث شخصيات مختلفة تماماً، لا يمكن لإحداها أن تتنبأ بما ستكون عليه الشخصية الأخري. بولانيو الطفل لا أمل فيه، ولا طريق أمامه سوي الفشل. طفل بليد حد إتهامه بالتخلف العقلي، ومحاولات غير مجدية معه من جانب أب يعمل سائق شاحنات نقل يمارس الملاكمة وأم معلمة رياضيات. محاولات تنتهي أخيراً باكتشاف أنه مصاب بمرض الديسلاكسيا، وهو مرض لا يمكن معه قراءة الكتب ولا استيعابها. أشياء تبدو صغيرة لكنها شيدت في نفس الطفل أولي معاني التمرد والعزلة، وأبعدته كليةً عن الذكاء الاجتماعي والمجاملات ومحاولات كسب الآخرين. روبيرتو الشاب، كان جامع القمامة وحارس العقارات وغاسل الصحون، وفي نفس الوقت القاريء النهم والشاعر المتميز والسارد الذي يحدث ثورة في القصة والرواية، ويعترف رغم نجاحه النسبي في السرد أنه ليس إلا شاعرا وأنه يكتب الرواية ليأكل. وسط كل ذلك تُطرح أسئلة تحمل علامات التعجب إذ كيف يكون مريض الديسلاكسيا الطفل كاتباً متميزاً وقارئاً نهماً؟! لكنه أثناء حياته الرتيبة، التي اتسمت بالقهر وعدم التقدير حد الإهمال، كان يبني هرماً من المجد الروائي لم يبزغ إلا بعد وفاته، هكذا تحول وهو في العالم الآخر لأسطورة روائية، فأصبح اسمه يتردد بحسرة حد أن البعض راهن أن لو عاش سنوات أكثر لنال جائزة نوبل وانضم لمعسكر ماركيز ونيرودا وأستورياس. ولد روبيرتو بولانيو عام 1953 بمدينة سانتياجو التشيلية وقضي جانباً من طفولته في تشيلي حتي 1968 عندما انتقلت عائلته للعيش والعمل في العاصمة المكسكية،مكسيكو سيتي. بدأ في مطلع السبعينيات من القرن العشرين يرتاد حلقات الشعراء اللاتينيين المنتشرة في مدينة مكسيكو سيتي، وكانت محاولاته الشعرية الأولي متأثرة بالشعراء اللاتينيين الكبار أمثال نيرودا وباييخو وبارا، إلا أن رحلته إلي مسقط رأسه في 1973 لمساندة الحركة الاشتراكية التي انطلقت في البلاد بانتخاب الرئيس سالفادور الليندي ومن ثم الإطاحة به في انقلاب الجنرال بينوتشي الدموي، كانت أحد أهم المنعطفات التي شكّلت حياته وأسلوبه الأدبي فيما بعد، فعلي أثر خروجه من المعتقل الذي قضي به فترة قصيرة في تشيلي، عاش بولانيو متشرداً بين السلفادور والمكسيك وفرنسا وإسبانيا والتي انتقل إليها بشكل نهائي في 1977 متخذاً من مدينة برشلونة مقراً له. استمر بولانيو في كتابة الشعر بشكل متقطع طيلة عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبدأ في الكتابة السردية مع منتصف الثمانينيات، وبالرغم من ذلك فقد استمر في تصنيف نفسه كشاعر، رغم ما حققت له الرواية من مكانة في إسبانيا وأمريكا اللاتينية . صدرت أولي أعماله السردية عام 1984، لتتوالي أعماله الروائية بعد ذلك حتي صدور روايته (المخبرون المتوحشون) 1998 التي لاقت نجاحاً كبيراً في إسبانيا تحديداً وفازت بعدد من الجوائز الأدبية. وعلي الرغم من غزارة إنتاجه الروائي في فترة زمنية قصيرة (عشر سنوات) فإنه لم يحظ بشهرة عالمية إلا بعد أن ترجمت روايته (ليلاً في تشيلي) 2003 إلي الانجليزية، وهو نفس العام الذي توفي فيه روبيرتو بولانيو بمرض الفشل الكبدي والذي عاني منه طيلة السنوات العشر الأخيرة من حياته والتي أنتج فيها معظم أعماله الروائية. ورغم وفاة روبيرتو بولانيو منذ ثمان سنوات، فأعماله السردية الجديدة ما تزال تصدر كل عام، بل إن أضخم رواياته التي أنجزها قبل مماته هي روايته الملحمية المقسمة إلي خمسة أجزاء والمعنونة (2666) والتي صدرت بعد عام من وفاته، وترجمت للإنجليزية في 2009، وظل الحديث عن اكتشاف المزيد من المخطوطات الروائية التي تركها الكاتب والتي صدر إحداها مطلع هذا العام ويتوقع صدورها بعدة لغات قريباً. يعتبر بولانيو أحد مؤسسي المدرسة الأدبية الحديثة التي أطلق عليها اسم "ما بعد الواقعية السحرية" أو "ما وراء الواقعية" والتي اشترك في تأسيسها مع الشاعر المكسيكي ماريو سانتياجو في منتصف السبعينيات في المكسيك، ودعا فيها الأدباء اللاتينيين لترك حياة الأدب التقليدية في المقاهي والمكتبات والتوحد في حياة التقشف والتشرد والانغماس في الأدب بشكل كامل، وهو ما جعل كتاباته السردية تنحو نحو السيرة الذاتية والاستعارات المتكررة للشخوص وأسماء الأماكن التي مرت في حياته، ولعل أشهر هذه الشخصيات الروائية التي قام باستعمالها في عدة أعمال سردية هي شخصية الشاعر (أرتورو بيلانو) وهي تحوير لغوي في اسم روبيرتو بولانيو نفسه. تتميز كتابات بولانيو بالتركيز علي السرد اليومي الرتيب، دون أن يفقد ذلك من حيوية الشخصيات والأحداث المستخدمة في النص، كما أن تقاطع أشكال أدبية أخري في السرد مثل المذكرات واليوميات والتقارير الصحفية يجعل رواياته تتمتع بقدر كبير من الإثارة والعمق الفلسفي ولعل روايته (المخبرون المتوحشون) و(2666) ومجموعته القصصية (أمسيات أخيرة علي الأرض) من أفضل الأمثلة التي تظهر فيها هذه التقنية السردية التي جعلت من بولانيو علامة أدبية مسجلة لا تقل أهمية عن علامات أخري في الأدب اللاتيني المعاصر، خاصة أن مداخل روياته متميزة جدا، حيث يكسر الابهام من اللحظة الأولي. ولا يخفي بولانيو شغفه بالتجريب، فرغم تشابه بعض قصصه في أماكن حدوثها وفي الشخصيات المتمحورة حولها مما يجعلها أقرب لفصول في رواية واحدة، إلا أن ما يمنحنا الإحساس باختلافها الأسلوب والبناء السردي الذي يتبعه مع كل قصة وهو ما نراه كذلك في أعماله الروائية الضخمة والقصيرة التي كتبت بنفس الأسلوب. بدأت حياة بولانيو رتيبة، كذلك كتاباته، إلا أن اندماجه الأسطوري بالشعر والسرد جعله أحد الشخصيات الروائية التي تعيش في كتبه، ورغم موته المبكر، تحول اسمه ورواياته إلي ظاهرة أدبية عالمية، جعل من المفارقة الساخرة والمأسوية أنه يزداد حياة كل يوم بصدور المزيد من رواياته وقصصه وأشعاره. صدر لبولانيو العديد من الأعمال شعراً وسرداً، منها دواوين: "الكلاب الرومانسية" "الجامعة المجهولة"، وفي السرد: "نجم بعيد"" المخبرون المتوحشون" "تعويذة""السيد خبز" "ليلاً في تشيلي" "عاهرات مغتالات" و" 2666"