نشيط الذهن، قوي الملاحظة، سريع البديهة. هذه كلها كان يمتلكها هذا الشاب الأنيق الخلوق. جالسا في هدوء ووقار على كرسي طويل بالحديقة، لم يكن يشعر بالملل كثيرا، حيث يقرأ جريدته، ويلعب بجهازه المحمول قليلا حتى تقترب عودة صديقه. كثيرا ما كان يقلب نظرته بين الحين والآخر على أشكال الأشجار العتيقة وأغصانها حتى في وجوه المتنزهين معه في الحديقة. وربما يشغل باله أيضا مصير اليمامة التي يطاردها ذلك القط المفترس. تعجب من ذلك المشهد؛ فهو لا يأكلها ولا يطلقها وتشعر أنه لا يريد إلا أن يلعب معها. أخذ يتابع المغادرين والوافدين، حتى هلت فتاة كالبدر؛ معتدلة الطول، خمرية البشرة، وجنتاها مشربتان بالحمرة الصافية، وعيون سماوية. ظن أنها ليست من بني جنسه، لكنه لاحظ أنها مرتبكة ما بين حقيبتها وشنطة يدها؛ فهمّ واقفا لعله يقدم يد العون، لكنه تراجع من الخجل ولسان حاله يقول: (ربما تكسفني أو يكون معها أحد). تراجع تلك الخطوات التي تقدمها، وخلال هذا جلس دقيقة واحدة ثم قام ذاهبا إلى دورة المياه، بضع دقائق وعاد إلى حيث كان يجلس، فوجد شيخا قد جلس في نفس مقعده، أشار إليه بالسلام، فأشار هو بالرد. على المقعد الآخر جلست تلك الفتاة التي شاهدها منذ دقائق، جاءت لتجلس أمامه مباشرة، وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه رغم أنه لا يعرفها، لكن شيئا مجهولا كان يفرض عليه التفكير فيها وبقوة. كان يرمقها بقوة لدرجة الملل، حتى شرد بعيدا بتفكيره. غير أن عينه مازالت عليها. صوت ضجيج القط مع اليمامة أعاده إلى التركيز مرة أخرى، ثم عاد ببصره لينظر إليها ليجدها مبتسمة، وكان وجهه مقابلا لوجهها مباشرة. ظن أنها تبتسم له، فأصابه الحرج، واحمرَّ وجهه، نظر يمينا ويسارا وللخلف فلم يجد شيئا، دار عقله ... إذا لمن كانت هذه الابتسامة؟! عاد لينظر من جديد، مازالت تبتسم نفس الابتسامة بالإضافة إلى بعض إشارات بيديها إلى أسفل إلى أعلى، وجميع الاتجاهات، ثم استدارت بوجهها نصف استدارة، والابتسامة لا تزال واضحة جدا من جانب وجهها. وأخذ يلاحظها منتظرا أن تعود لوضعها الأول مرة أخرى، ليحدد لمن تذهب هذه الاشارات. لم تغب كثيرا حتى عادت بنفس الابتسامة، كذلك نفس الإشارة. طرح عدة أسباب لتفسير هذه الإشارات! هل تعاني من اضطراب ما؟ هل هذه الفتاة تعرفني؟ إذن فمن هي؟ هل معجبة بي بتلك السرعة؟ وأخيرا قرر أن يقطع الشك باليقين، وأن يسألها مباشرة؛ من تقصد بتلك الإشارات؟ ورغم الصراع القوي بداخله إلا أنه قرر الذهاب إليها ليعرف حقيقة إشاراتها. قام ببطء شديد، محاولا بكل قوته هزيمة جبنه وخوفه أمام ذلك المجهول، وأخيرا حطم كل أسوار الشك والخوف الراكدين داخله، جر رجليه كأنه يمشي في رمل ووحل، اقترب منها مبتسما، وعندما سألها عن تلك الإشارات، وما إن كانت تريد شيئا منه، انزعجت وأبدت تعبيرات الخوف المندهش، وجرت إلى حيث يجلس، وأمسكت يد الشيخ تجذبه برفق تحمل أشياءه، مناديه على قطها، ثم أخذت دميتها، ورحلت.