«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفلسفة الخالدة: رد فعل هكسلى اليائس ضد الحرب
بستان الكتب
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 05 - 09 - 2021


أحمد الزناتى
وقعتُ أول مرة على مصطلح الفلسفة الخالدةThe Perennial Philosophy فى لقاء تليفزيونى لعالم الميثولوجيا الأمريكى جوزيف كامبل، مرفوعاً إلى الحَبر الأعظم كارل جوستاف يونج، وكان مدارُ الحديث أطروحة أستاذه يونج القائلة بأن الأشكال الرمزية (الأساطير والحكايات الخرافية والأمثولات الدينية) التى تتجسد بها الحكمة لا ينبغى تفسيرها على أنها شخصيات أو أحداث تاريخية مفترضة أو حتى واقعية بل ينبغى تفسيرها تفسيراً نفسياً وروحياً كإشارة إلى الإمكانات الداخلية للروح باعتبارها صوان الحكمة الأبدية، بينما ذهب كامبل إلى أن الفلسفة/الحكمة الخالدة هى صنو القوة الإلهية الحاضرة فى قلب كل إنسان استطاع أن يتعلّم كيف «يُفعّل» فكرة الإله الواحد ويكتشفها داخل نفسه.
كتاب الروائى والمفكر البريطانى ألدوس هكسلى «الفلسفة الخالدة» بترجمة الدكتور أحمد سمير سعد ، الصادر عن دار آفاق، عمل ثري، أتمنى أن يكون بادرةً لترجمة مزيد من النصوص التأسيسية فى هذا المضمار، ولاسيما أعمال رودولف أوتو وهنرى كوربان والراهب اليابانى د.ت.سوزوكى وألان واتس وجيمس هيلمان وميرتشا إلياده وجوزيف وكامبل وغيرهم من روّاد اللاهوت التجريبى لو استعرنا تعبير هكسلى أو الروحانيين الجُدد كما أحب أن أسميهم.
يشير المؤلف فى المقدمة إلى أن المصطلح صكّه الفيلسوف وعالم الطبيعة الألمانى جوتفريد لايبنيتس )1646-1716)، وقصد به الميتافيزيقا التى تميّز الحقيقة الإلهية فى عالم الأشياء والحيوات والعقول أو السيكولوجيا التى تجد فى النفس شيئاً مناظراً ومُماثلاً للحقيقة الإلهية، برغم أن المصطلح - حسب علمي- صيغَ قبل ذلك بأكثر من قرن، وتحديداً فى عصر النهضة على يد الفقيه اللاهوتى واللغوى الإيطالى أوجوستينو ستيكو Agostino Steuco (1497-1548) وذهب فيها إلى فكرة وجود جوهرٍ للحكمة المشتركة فى الأديان كافة.
كتاب هكسلى بحسب كلماته هو أنطولوجيا (مبحث الوجود) الفلسفة الخالدة، وقوامه اقتباسات وشواهد منسوبة إلى مفكّرين وفلاسفة ولاهوتيين ورهبان من الشرق والغرب، مشفوعة بتعليقات شارحة انطلاقاً من رؤية هكسلى الخاصة إلى مفهوم الأصل الإلهى المشترك، بمعنى أن مبدأ هكسلى فى الكتاب قائم على دراسة النصوص وفحصها.
سأشير فى السطور التالية إلى نقاط بعينها استرعَتْ انتباهي. فى البداية لفت نظرى سعة اطلاع هكسلى على نصوص الحكمة الشرقية وإشاراته إلى عارفين من أمثال بايزيد البسطامى وأبى سعيد بن أبى الخير وإسماعيل بن عبد الله الأنصارى والنفّرى وغيرهم، ولمستُ من تلك الاقتباسات تعلقاً شخصياً من جانب هكسلى بهذه النصوص، وتأكد ظنى - لاحقاً - كما سأوضّح.
النقطة الأولى متعلقّة بمعضلة سرمدية الفلسفة الخالدة، بمعنى قدرتها المتجددة على أن تكون معاصرةً للإنسان مهما مرّ عليها الزمان، فالنصوص الهندوسية المقدسة مثلاً اعتُبرت لا بمثابة أناجيل موجودة منذ أبد الآبدين وحسب، فهى معاصرة للإنسان بقدر من هى معاصرة لأى كائن من منظور مماثل، مُشيراً إلى أرسطو الذى رأى فى حقائق الدين حقائق أزلية غير فانية، لم يخلُ تاريخ البشرية من فترات تقدم وتراجع، لكن الإنسان – وفق كلام هسكلى – كان على وعى دائم بالحقيقة الكبرى عن الرب وأنه المحرك الأول لكون معزوّ بالكامل إليه.
أما النقطة الثانية فمتصلة بعلاقة الأسلوب الأدبي/اللغة بالفكر والوجود. يشير هكسلى إلى أن العلاّمة إيكهارت Meister Eckhart، اللاهوتى والصوفى الألمانى كان ضحية مهاراته الأدبية مثله مثل القديس أوغسطين. فى عالم الأدب يُقال دائماً إن الرجل هو الأسلوب لأننا عندما نحظى بملكة الكتابة وفق نمط معين نقولب أنفسنا بما يشابه نسق بلاغتنا الخاصة، ولا أدلّ على ذلك من شذرات العارف الصوفى عبد الجبار النفّرى التى ماثلتْ فى صياغتها وإيجازها الغامض سيرة حياته الأشدّ غموضاً. ويبدو أن هكسلى أدرك أهمية النفّرى – على المستوى الشعرى والرمزي- فأشار إليه فى صفحة 371، مقتبِساً شذرة من المواقف والمخاطبات من موقف البحر: «خاطَر من ألقى بنفسه ولم يركب»، مقارناً إياها بما ورد فى الإنجيل بأنه على الإنسان أن يهلك نفسَه كى ينقذها.
ثم يضرب مثلاً بعبارة الأب إيكهارت «الربّ ليس صالحاً، أنا صالح»، والتى تعنى «أنا صالح صلاحاً بشرياً، أما الربّ فصلاحه فوق من يُمكن استجلاؤه وفهمه». تقترب هذه العبارات الجسورة بشطحيات الحلاج «ما فى الجبة إلا الله»، أو قول الشيخ الأكبر «حدّثنى قلبى عن ربي»، أو قول بايزيد البسطامي:» خُضنا فى بحر وقف الأنبياء بساحله» وفسّرها عبد الوهاب الشعرانى فى كتابه الموجز «الفتح فيما صدر عن الكُمَّل من الشطح» بأنه بينما يخوض العارفون بحار المعرفة الإلهية يقف الأنبياء على الشاطيء يرشدون وينقذون (راجع: الأعمال الكاملة للبسطامي،المدى 2004، وراجع: شحطات الصوفية لعبد الرحمن بدوي، الكويت- بدون تاريخ).
إلى جانب القيمة المعرفية للكتاب فإنى أُعلى من شأن قيمة أخرى وهى القيمة الجمالية للنصوص محل الاستشهاد، أقصد عذوبة نصوص الحكمة الخالدة التى أوردَها هكسلى فى كتابه (وقد صرّحَ هكسلى بذلك فى المقدمة)، التى شكّلت متناً موازياً وداعماً للمتن الأصلى للكتاب، وإن ارتبكتُ فى بعض المواضع لعدم ذكر هسكلى لمصادره، وخاصة من النصوص الإسلامية، ونسبة بعض المقولات إلى غير أصحابها، كمقولة: «الصوفى ابن وقته» التى ينسبها هكسلى إلى جلال الدين الرومي، وهى مقولة شائعة، ينسبها البعض إلى بايزيد البسطامى وآخرون إلى العارف أبى الحسن الشاذلى وغيره، وربما مردُّ ذلك إلى عدم اطلاعه على النصوص فى لغتها الأصلية. يحكى المترجم المصرى محمود محمود (شقيق د. زكى نجيب محمود) فى مقدمة ترجمة رواية الجزيرة أنه التقى الكاتبَ الكبير فى منزله فى مدينة بيركلى بالولايات المتحدة وأن هكسلى أخبره بإيثاره العرفان الإسلامى على التصوف البوذي؛ لأن النوع الأول مُنشئ بَنَّاء، فى حين أن التصوف البوذى سلبى هدَّام، لا يحثُّ على عمل، ولا يدفع إلى خلق أو ابتكار. وأخذ يروى له أبياتًا من الشعر بالإنجليزية هى ترجمة لأشعار جلال الدين الرومى الذى أبدى إعجابًا شديدًا به (راجع: مقدمة ترجمة رواية الجزيرة، هنداوى 2019).
فى فصل مهم بعنوان الحقيقة يلاحظ هكسلى استخدام كلمة «حقيقة» فى المتون الدينية استخداماً غير مُحدد، لأنها تأتى بثلاثة معان على الأقل مختلفة ومتمايزة. فيورد مقولة العلامة إيكهارت:» أياً ما تقوله عن الرب فهو غير حقيقي»، أو ما يُطلق عليه اللاهوت السلبي، بمعنى الحديث عن الإله بالتنزيه المطلق عبر نفى كل صفات النقص عنه، فالكلمات أعجز من وصف الحق، أو وفق تعبير النص القرآني: »ليس كمثله شيء« فى سورة الشورى - الآية 11، أو لو استخدمتُ تعبير النفّرى فى المواقف والمخاطبات:»الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني»، ضارباً المثل بالقديس توما الأكوينى الذى صرّح أن كل ما كتبه مجرد هباء منثور مقارنة بالمعرفة المباشرة (اللدنية؟) التى وُهبت له، ومشيراً إلى أبى حامد الغزالى الذى تحوّل من العناية بالحقائق حول الله إلى التأمل، وأضيف إليهم الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي. ففى منتصف كتاب ميشيل شودكيفيتش عن محيى الدين بن عربى «بحر بلا ساحل» إشارة إلى ما يشبه استحالة الإحاطة بالفتوحات المكية إحاطة شاملة، وأن كتاب الفتوحات ربما سيبقى إلى الأبد ممتنعاً على الجميع، لأنه بحسب تعبير ابن عربى علم لدنى يصدر عن إملاء إلهي، سابقاً بكلامه – طبعاً- هكسلى بقرون عدة. وهذا ما يهمنى فى الموضوع برمته. فى أى وقت نسمع كلمة الحق/الحقيقة علينا – فيما أظن - أن نتوقف دائماً ولوقت طويل ونسأل عن معنى الكلمة وعن غاية المتشدّق بها، بذلك سنحمى أنفسنا من التشوش الذهني. الحق غيب مفارق، يمكن التلويح إليه فقط من بعيد، من دون القبض عليه أو الإحاطة به.
موضوع الفلسفة الخالدة بحسب كلام هكسلى هو الإلمام بطبيعة الوجود الروحى الأزلي، إلا أن اللغة المصوغة بها طُورت من أجل التعامل مع الظواهر الزمنية، وهذا هو السبب وراء أننا نجد فى كل هذه الصياغات شيئاً من التناقض، فلا يُمكن وصف الحقيقة على وجه اليقين باستخدام رموز لفظية. اللافت فى الأمر أن كُتاب الروحانيات (مثل رهبان الزنّ) استخدموا العبارات المسرفة الهزلية من أجل تأكيد الحقائق الفلسفية التى يعتبرونها شديدة الأهمية. الكلمات ليست حقائق، وإذا أخذناها بجدية شديدة فسنضلّ سبيلنا فى غابة الزهور البرية المتشابكة ذات الأشواك، لكن على العكس إذا لم نأخذها بالقدر الكافى من الجدية فسوف نظلّ غير منتبهين إلى وجود سبيل قد نضيعه أو هدف نصل إليه. يضيف هسكلي:» لقد تحدّث يسوع عن نفسه بوصفه مَن جلب إلى العالم شيئًا أسوء من الزهور البرية ذات الأشواك: السيف، كما فرّقَ القديس بولس بين الحرف الذى يقتل والروح التى تُحيي.»
فى فصل آخر بعنوان:» كان الدين قادراً على دفع الرجال إلى قمم الشر تلك»، يتساءل هكسلى لماذا ظهرت الأرواح الكثيرة الزائفة إلى العالم التى خدعت نفسها وخدعت الآخرين بالنار الزائفة والنور الزائف، مُدعية امتلاك المعرفة والحقيقة المطلقة؟ الإجابة هى أن هؤلاء الرجال (تُجار الدين) تحولوا نحو الرب من دون التحول عن أنفسهم، عندئذ تظهر صورة الدين الذى تتحكم فيه الذات/الأهواء والمطامع الشخصية أو الطبيعة الفاسدة فى استجلاء الرذائل وحدها، يقول هكسلى إن المعادلة بسيطة، لكنها برغم بساطتها تفسّر كل الحماقات والمظالم المرتكبة باسم الدين، المظالم التى اقترفها المنجذبون إلى استخدام اسم الرب فى سعيهم نحو الوصول إلى السلطة (وما أكثرهم)، وأزيد فأقول فى سعيهم إلى استمالة العامّة والبسطاء بشعارات ساذجة.
فى فصل بعنوان الخير والشر يقارب هكسلى المعضلة الأزلية عبر طرح مجموعة من النصوص التى تمخضتْ عنها قريحة فلاسفة ولاهوتيين انتقاهم المؤلف فى بحثه عن صوان الحكمة الخالدة. كانت مقاربة هكسلى ممتازة فى الواقع، حلَّ المعضلة عبر مقولات أدْعَى إلى التأمل منها إلى الدخول فى مجادلات لاهوتية طويلة كالتى خاضها القديس توماس الأكوينى أو التى خاضها علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة فى تراثنا العربي.
خلاصة القول: الخير فى نظر الفلسفة الخالدة هو توافق الذات البشرية مع الأصل الإلهى الذى منحها كينوتها وفناءها، أما الشر فهو رفض معرفة أن هذا الأصل [الإلهي] موجود من الأساس.
فى الفصل الخامس والعشرين يشير هكسلى إلى مسألة الشعائر الدينية التى برغم أهميتها الوجدانية ينبغى ألا تتحول إلى غاية فى حد ذاتها أو إلى طقس وثنى لا يرتقى بالسلوك البشري، فأبسط أشكال الممارسة الصوفية هو تكرار اسم الله كما يجرى فى حلقات الذكر الصوفية عند المسلمين، أو تكرار الترنّم ب أوم OM فى الصلوات الهندوسية والبوذية التبتية، لكن هذا على أى حال لا يكفى من دون نيّة مجرد صافية ناحية الرب، وكلما كانت الكلمة أقصر توافقتْ مع عمل الروح، وهذه الكلمة بحسب هكسلى هى كلمة رب أو كلمة حب، اخترْ أياً ما تريد، سيّان. الطريف أننى لاحظتُ أن أغلب التطبيقات المساعدة على التخلص من الأرق والاسترخاء المتاحة على الهواتف الذكية ما هى إلا تنويعات على ترنيمة OM التِبتية المبثوثة مجاناً على يوتيوب (Tibetan Monks Chantiing OM).
بعد قراءة الكتاب برز عندى السؤال التالي: ما الذى دفع هكسلى لتأليف هذا العمل المنشور للمرة الأولى فى سنة 1945، أى بعد تحقيقه شهرة أدبية واسعة بعد نشر عالم جديد شجاع سنة 1932، وكذلك بعد انتهاء الحرب وانتصار بلاده وكان فى الحادية والخمسين وقتها، وربما (بل على الأرجح) أنه عكف قبلها لمدة سنوات طويلة على جمع المادة العلمية الهائلة وفحصها؟
يروى سورين كيركجارد حكاية رجل طموح مضى طَوال حياته شارداً، شغلته الدنيا وغلّف قلبه السعى وراءها، فذهب بعيداً، بعيداً جداً. ربما يكون صاحبنا قد اضطر لمواجهة ضباع وحيات، ربما كان مؤمناً بمقولة المسيح: «ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حُكماء كالحيَّات (متى 16:10) فارتدى جلودهم مُنسلخاً عن حياته التى أرادها ومنفصلاً عن وجوده الأصيل، فصار لا يكاد يعرف نفسه إلى أن يستيقظ صباح يوم فيجد نفسه ميْتًا.
يختلف شكل النصف الثانى فى حياة عديد من الناس اختلافًا هائلًا عن شكل حياتهم فى النصف الأول، وكأنك فى الشطر الثانى من حياتك (أو عتبة الأربعين الرمادية كما يسمّيها يونج) تحاول العثور على تفسير حكاية غامضة كتبها النصف الأول، برغم ألا يد لك لا فى الأول ولا فى الثاني. يفرض التغيّر نفسه مع بداية الشطر الثانى فيبدأ بوتيرة هادئة لكنها آخذة فى النمو. فتكتشف أنك مهما حقّقتَ من أهداف ومهما بلغتَ من غايات فلن تراها مثلما كنتَ تراها وهى بعيدة المنال، لأنها فقدتْ شيئًا من سحرها ورونقها.
فى النصف الأول من حياته عُرف ألدوس هكسلى بأنه الكاتب المستهزئ بالدين أو بكارِه الربّ على حد تعبير إحدى الصحف. ألدوس هو حفيد توماس هنرى هكسلي، العالم الفيكتورى الشهير الساخر من العقيدة المسيحية. لكن فى عقد الثلاثينيات انهارت أفكاره ولم يعد ذلك المثقف المادى الأربعينى بقادرٍ على تحمل العيش فى عالم مادى خلو من المعنى، وبدلاً من التحول إلى المسيحية التقليدية كما فعل أقرانه من أمثال تي. إس. إليوت، لجأ هكسلى إلى الروحانية العلمية. كانت الفلسفة الخالدة ردّ فعل هكسلى اليائس ضد الحرب. وهذا ما يفسر – لى على الأقل- التشاؤم السياسى العميق للكتاب بعد أن حاول الرجل إيقاف الحرب وفشل، وهو التشاؤم الذى لسمته بوضوح بين صفحات الكتاب، ولا سيما الفصل الثانى عشر، إذ يقرّ صراحة أنه لا يعوّل على المذاهب الدينية والسياسية كافة: بداية من مُبجّلى الإنجيل البروتيستانت وصولاً إلى اليعاقبة والبلاشفة والقوميين واليمين واليسار على حد سواء. نقرأ فى الفصل العشرين:» كان تبرير الآثام فى الماضى هو الرب أو الكنيسة أو الإيمان، أما اليوم يقتلُ المثاليون ويعذبون باسم الثورة والنظام الجديد وعالم الرجل العادى (رجل الشارع)، وكأنه يردد المثل العربي: البستان كلّه كرفس.
رأى الرجل أن أغلب البشر مستَعبدون لألوان متباينة من عبادة الأصنام والفهم المبتذل للدين: عبادة المادة والتكنولوجيا. كانت كل تلك الأشكال بالنسبة إلى هكسلى لوناً من ألوان «ديانات الزمن»، وربما قصدَ بتعبيره السابق العقائد العابرة، التى تضع إيمانها فى المنجزات المادية وحدها. وفق رؤيتى للأمور، ربما يكون هو السبب الرئيس وراء تأليف هذا العمل، وكفى بهكسلى أن يكون تأليف هذا الكتاب غاية حياته.
نعرف أن هكسلى تعاطى عقار المسكالين المهلوس فى منزله تحت إشراف طبى للدخول إلى تجربة روحانية أو صوفية عميقة أوردَ طرفاً منها فى عمله الموجز The Doors of Perception، وهو كتيب ممتع صغير ومتاح مجاناً فى نسخة لا تتجاوز كذا وعشرين ورقة. كانت تجربة تعاطى العقار المهلوّس موضع انتقاد حاد من د. يونج وقتها (راجع: Letters of C. G. Jung: Volume 2, 1951-1961 – من رسالة إلى الأب فيكتور وايت مؤرخة فى 10 إبريل 1954)، حيث قال إن المرء لا يحتاج إلى عقاقير أو منشطات للدخول إلى تجارب روحانية لفهم نفسه ومعرفة ربه، ومَن عرف نفسه عرف ربَّه كما يقول الأثر، إذ تكفى المرء الانتباه إلى أحلامه وقراءة حكمة القدماء كما أوصى يونج فى أحد حواراته. قرب نهاية الكتاب أوردَ هكسلى شذرة منسوبة إلى راهب سورى اسمه الأب اسحاق من دالاماتيا تقول:» خذْ مقطعاً شعرياً من أية ترنيمة، وسوف يكون درعك وترسك ضد كل أعدائك.»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.