إجراءات حازمة للحد من الغش بالامتحانات    الذهب يحقق أفضل أداء سنوى منذ 46 عامًا والفضة تقفز 150% فى 2025    إعداد اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة مع قطر    أسعار الغاز الطبيعي الأوروبية تتجه إلى انخفاض سنوي حاد رغم تراجع المخزونات    محافظ الغربية: طريق مصرف الزهار هدية طال انتظارها لأهالي مركز قطور    محافظ الجيزة: افتتاح سوق اليوم الواحد فى حى إمبابة الأسبوع المقبل    العملة الإيرانية تهوي إلى أدنى مستوى تاريخي وتفاقم الضغوط على الأسواق    رابطةُ العالم الإسلامي تُدين قرارَ الاحتلال منعَ المنظماتِ الإنسانية من العمل في غزّة    منتخب السودان يخسر ضد بوركينا فاسو بثنائية ويواجه السنغال فى دور ال16    ترتيب المجموعة الخامسة بعد فوز بوركينا فاسو على السودان    حصاد 2025.. عام استثنائي من العمل والنجاحات بمديرية الشباب والرياضة بالجيزة    2025 عام الإنجازات الكبرى.. ميداليات عالمية ومناصب دولية تؤكد ريادة مصر في رياضات الإعاقات الذهنية    العثور على جثة شاب أمام مسجد سيدى عبد الرحيم القنائى    كنوز| مصطفى أمين الشاهد الأمين على كرم «صاحبة العصمة»    «هنو» يتابع تنفيذ توصيات لجنة الدراما مع «عبد الرحيم»    معتز التوني: أذهب للجيم للكلام فقط.. ومهنة المذيع أصعب من الإخراج    كنوز| «الضاحك الباكي» يغرد في حفل تكريم كوكب الشرق    الجمهور يغنى بحماس مع تامر عاشور بحفل العاصمة الجديدة    ماس كهربائي.. التحريات الأولية تكشف أسباب حريق مخزن أوراق بالقاهرة    رئيس تايوان: التدريبات العسكرية الصينية تهدد الاستقرار الإقليمي    حريق يلتهم شقة سكنية في دار السلام    نجاح جراحة دقيقة لسيدة سبعينية بمستشفى قنا العام لاستخراج دعامة مرارية مهاجرة    إكسترا نيوز: التصويت بانتخابات النواب يسير بسلاسة ويسر    السجن المشدد 15 سنة للمتهمة الأولى وتغريمها 2 مليون جنيه في قضية سرقة «إسورة المتحف المصري»    ظهور مميز ل رامز جلال من داخل الحرم المكي    هل يجوز الحرمان من الميراث بسبب الجحود أو شهادة الزور؟.. أمين الفتوى يجيب    "التعليم الفلسطينية": 7486 طالبًا استشهدوا في غزة والضفة الغربية منذ بداية 2025    وزير «الصحة» يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لإحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد    خالد الجندي: الله يُكلم كل عبد بلغته يوم القيامة.. فيديو    مدافع جنوب إفريقيا: علينا تصحيح بعض الأمور حتى نواصل المشوار إلى أبعد حد ممكن    وزير الصحة يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد المجيد    الدبلوماسية الثقافية.. أحد الركائز الرئيسية للقوة الناعمة المصرية خلال عام 2025    الداخلية تضبط تشكيلًا عصابيًا للنصب بانتحال صفة موظفي بنوك    حصاد 2025| حرس الحدود في المنطقة الدافئة بالدوري.. وينافس في كأس مصر    بشرى سارة لأهالي أبو المطامير: بدء تنفيذ مستشفي مركزي على مساحة 5 أفدنة    حصاد جامعة العاصمة لعام 2025    «التضامن»: تسليم 567 طفلًا لأسر بديلة وتطبيق حوكمة صارمة لإجراءات الكفالة    ضبط 5 أشخاص بالإسماعيلية بعد نشر فيديو لإحداث ضوضاء أسفل منزل    دون أي مجاملات.. السيسي: انتقاء أفضل العناصر للالتحاق بدورات الأكاديمية العسكرية المصرية    ذات يوم 31 ديسمبر 1915.. السلطان حسين كامل يستقبل الطالب طه حسين.. اتهامات لخطيب الجمعة بالكفر لإساءة استخدامه سورة "عبس وتولى" نفاقا للسلطان الذى قابل "الأعمى"    حصاد 2025| منتخب مصر يتأهل للمونديال ويتألق في أمم أفريقيا.. ووداع كأس العرب النقطة السلبية    دينيس براون: الأوضاع الإنسانية الراهنة في السودان صادمة للغاية    إيمري يوضح سبب عدم مصافحته أرتيتا بعد رباعية أرسنال    انطلاق مبادرة «أمان ورحمة» بتعليم قنا    وزارة الصحة: صرف الألبان العلاجية للمصابين بأمراض التمثيل الغذائى بالمجان    مواعيد مباريات الأربعاء 31 ديسمبر - الجزائر وكوت ديفوار والسودان في أمم إفريقيا.. وكأس عاصمة مصر    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 31ديسمبر 2025 فى المنيا    "القومي للمسرح" يطلق مبادرة"2026.. عامًا للاحتفاء بالفنانين المعاصرين"    رابط التقديم للطلاب في المدارس المصرية اليابانية للعام الدراسي 2026/2027.. يبدأ غدا    إصابة 8 عاملات في حادث انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي القاهرة–الإسكندرية بالبحيرة    الدفاع عن الوطن.. مسئولية وشرف    محافظ أسيوط: عام 2025 شهد تقديم أكثر من 14 مليون خدمة طبية للمواطنين بالمحافظة    التضامن: إلزام الأسر المستفيدة بالمشروطية التعليمية ضمن برنامج تكافل وكرامة    شوارع وميادين الأقصر تعلن جاهزيتها لاستقبال احتفالا رأس السنة الجديدة    قصف وإطلاق نار اسرائيلي يستهدف مناطق بقطاع غزة    انقطاع واسع للكهرباء في ضواحي موسكو عقب هجوم بطائرات مسيرة أوكرانية    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    استشهاد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي الرصاص على مركبة جنوب نابلس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«النفَّرى».. الصوفى الذى اتسعت رؤيته فضاقت عبارته
نشر في الوطن يوم 22 - 07 - 2013

صوفى وفيلسوف كبير ترك خلفه رؤى وتصورات غاية فى العمق والتركيب، استغلقت على أفهام كثيرين، فحرمته من شهرة يستحقها، واهتمام كان سيفتح بابا وسيعا للاستفادة من عطائه المختلف، إلا أنه وبعد زمن التقطه أولو الألباب الباحثون عن الحكمة المصفاة، واهتدى إليه أصحاب الأفئدة العامرة بالإيمان لينهلوا من مواقفه ومخاطباته، واكتشفه المحتفون بالجمال من شعراء هذا الزمن ليقولوا من خلاله للغرب، عرفنا «شعر الحداثة» قبلكم بقرون، والدليل ما تركه لنا «النفَّرى».
وكانت لهذا الصوفى أحوال متفردة، وطقوس خاصة، إذ كان يعشق الترحال الدائم، لا يستقر فى مكان، ولا يأنس إلى إنسان، إنما يمضى متوحدا مع ذاته، هائما فى ملكوت الله تفكرا وتدبرا، ولذا يصفه رينولد نيكلسون بأنه «درويش جواب آفاق، مغامر فى أقطار الأرض». وقد كان يتعمد التخفى عن العيون، ملتزما بالصمت، غير منشغل بشىء ولا بأحد، مستكف ومستغن بالله عن العالمين. ويقال إنه قد عاصر محنة الحلاج ومأساته، فآثر، كغيره من أهل التصوف، الكتمان، ومارس التقية بصرامة شديدة.
هو محمد بن عبدالجبار بن حسن الملقب ب«النفَّرى»، نسبة إلى بلدة «نِفَّر» بالقرب من الكوفة فى العراق، والتى يعود أصل اسمها إلى مدينة بابلية قديمة اسمها Nippur، كانت مركزاً دينياً مهماً قبل نحو أربعة آلاف سنة، وكان فيها معبد آكور الذى يُعبَد به «الرب إنليل»، سيد الهواء. ومن بعدُ أصبحت مركزاً للديانة المانوية، ثم المسيحية فى القرن السابع الميلادى.
لكن أحداً لا يعرف على وجه اليقين متى ولد «النفَّرى»، بل إن تاريخ وفاته غير متفق عليه، والأدهى من ذلك أن هناك اختلافا حول نسبة وتصنيف كتابه الشهير «المواقف والمخاطبات»، إذ ينسبه البعض لشخص آخر هو أبوعبدالله محمد بن عبدالله «النفَّرى»، ويقولون إن حفيده محمد هو الذى قام بتجميع أشتاته، وتنظيم شذراته، أثناء حياة جده وبعد وفاته، من دون أن ينشغل بترتيب هذا تاريخيا.
وقد بات المرجع الأساسى فى التعرف على حياة «النفَّرى» هو ما كتبه عفيف الدين التلمسانى الذى عاش فى القرن السابع الهجرى والثالث عشر الميلادى أى بعد رحيل «النفَّرى» بثلاثة قرون على الأقل. وهناك من يقول إن «النفَّرى» لم يكتب شيئا، وإن كل ما تركه هو كلام شفهى التقطه تلاميذه ودونوه عن طيب خاطر. ويعتقد كثيرون أنه لولا الإشارات التى أوردها محيى الدين ابن عربى عن «النفَّرى» فى كتابه الأشهر «الفتوحات المكية» وكذلك كتابه «رسالة عين الأعيان» ما كان يمكن الالتفات بسهولة إلى نسب «المواقف والمخاطبات» للنفرى. وقد اكتشف كتابَ المواقف والمخاطبات للنفَّرى المستشرق آرثر جون آربرى سنة 1934، ففتح الباب أمام كثيرين ليطالعوا ما ورد فيه، ويتناولوه شرحا وتحليلا، فى إعجاب واندهاش، لا سيما من الأدباء عموما، والشعراء خصوصا.
وهناك من يرى أن «النفَّرى» ربما يكون قد اعتنق المذهب الشيعى، وهذا يعزى إلى عدة مؤشرات، أولها أنه قد أتى على ذكر «الإمام الغائب» أو «المهدى المنتظر» فى نصه، والذى تؤمن «الرواية الشيعية» بأنه سيظهر فى آخر الزمان ويملأ الأرض عدلا. وثانيها أنه ولد فى بلدة قريبة من الكوفة، التى كانت مركزا علميا للشيعة أيامها مثل ما هى عليه الآن. وثالثها هى ممارسة «النفَّرى» للتقية، وعيشه متخفيا، وعدم تدوينه لأفكاره وخواطره ومواجيده حتى لا تكون حجة ضده فى يد مناهضى المتصوفة أو كارهى الشيعة، لا سيما من الفقهاء الذين يرمونهم بالكفر ويطلقون عليهم لقب «الرافضة»، ويهيجون عليهم عوام الناس من أهل السنة.
وبعد طول إهمال للنفرى جاء فى زماننا من يشهد له بوصفه متصوفا عميقا وعاشقا للغة، فها هو الكاتب الراحل الدكتور مصطفى محمود يقول فى كتابه «رأيت الله» إن مكاشفات «النفَّرى» تعد مدخلاً مهما إلى الحداثة الشعرية و«قصيدة النثر».
ويقول الناقد الأدبى سعيد الغانمى: «تضىء شعرية «النفَّرى» على صعوبة ترويضها أو تصنيفها تبعاً لأى مقولات جاهزة، فهو يريد اجتراح لغة تتخطى دائماً مواصفات اللغة المألوفة، وتبشر بما وراء الحرف والمجاز، أى بما وراء اللغة الحقيقية واللغة الاستعارية».
ويصف أدونيس «النفَّرى» بأنه «السلف الشرعى لقصيدة النثر العربية» ويرى أن كتابته تمثل «شعرية الفكر الحقيقى» ويقول إنها «تجربة قلبية لا تجربة عقلية، وتجربة كتابية بدءاً من القطيعة مع الواقع، ومن الصلة مع المتخيَّل.. إنها تجربة تتجاوز إمكانات الواقع، من أجل أن تُحسِنَ الغوص فى داخله، وتُحسن استقصاءَ ما يُضمره، فهى تجربةُ رموزٍ وإشارات وتلميحات. النص هنا يقول أكثر مما يقول ظاهر كلماته، وتتقاطع فيه أبعاد ودلالات تجسّد لغة تفرض التواصل معها ذوقياً، أو حدسيا».
ويمضى أدونيس قائلا: «يرفعُ النفّرى الكتابة إلى مستوى الأسطورة. فكتابته تدعونا لكى نفهمها بحركة الأحشاء، ونبضات القلب، كما لو أن علينا أن ننصهر فيها؛ أن نتماهى معها كما نتماهى مع طفولتنا ولاشعورنا.. إنه نصّ يقول لنا إن الحقيقة شوقٌ، وهى غير موجودة بوضوحها الكامل، أى بغموضها الكامل إلا فى اللغة أعنى الشعر».
ويرى الكاتب والناقد عبده وازن أن شعرية «النفَّرى» تتمتع بالإيقاع الداخلى للمفردات والجمل ولعبة التكرار، وظهور بعض السجع اللطيف والرقيق، ناهيك عن الجناس المهذب والإيجاز والابتعاد عن شرائك الفصاحة والبلاغة والكلفة والتصنع.
ويصف الأب اليسوعى بولس نويا، الذى أنجز عددا من الدراسات عنه، «النفَّرى» بأنه من أعمق المفكرين فى تاريخ المسلمين، ويثنى على قريحته اللغوية، وقدراته الفذة على صياغة الأفكار والمواجيد العميقة فى عبارات قصيرة مسبوكة بإحكام، تخاطب العقل والعاطفة معا.
وهناك من يرى أن شعرية «النفَّرى» تدلنا على اصطلاح «اختلاف الأضداد» الذى سبق ما أشار إليه الناقد الكبير باختين عن «تكافؤ الأضداد» بل إن إشارات «النفَّرى» طالت ما أبدعه الشاعر الفرنسى ستيفان مالارميه. والمفردات التى زخر بها نص «النفَّرى» تظهر هذا التضاد بجلاء، من قبيل: القرب والبعد، والفرق والجمع، والظاهر والباطن، والنطق والصمت، والليل والنهار، والحياة والموت، والمعرفة والجهل، والعبد والرب، والنور والظلام، والنار والماء.
وربما تكون بداية معرفة كثيرين ب«النفَّرى» هى جملته ذائعة الصيت التى تقول: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» والتى يقف أمامها أهل العلم مندهشين، ليتأملوا ما تنطوى عليه من حكمة ومنهج وما تدل عليه من طريقة فى التفكير والتعبير. وربما لم يدر «النفَّرى» وقت أن نطق بها أن هذه الجملة ستسكنه ويسكنها، وتصبح قرينته وقرينها، فما إن يأتى أحد على ذكر اسمه حتى يستدعيها، وما إن تُستدعى حتى نتذكر «المواقف والمخاطبات» ورحلة رجل جار عليه التاريخ طويلا، وأخفاه مكنوناته عن الأعين والأذهان، مثلما سعى هو وقصد أن يعيش مع ذاته، فيجنبها الشقاء والبلاء.
وتنطوى فلسفة «النفَّرى» على «الوقفات» و«الرؤيا»، والأولى تعنى فى نظره إدراك الكون والأشياء من منظور يفوق كل علم بشرى، وكل معرفة صوفية أو حدسية، أى ما يفوق البرهان والعرفان، ويأتى من الحضرة الإلهية مباشرة، حيث يقول «النفَّرى»: «قال لى: الوقفة جوارى وأنا غير الجوار». والوقف قبل العارف، فها هو يقول: «قال لى: الواقفون أهلى. والعارفون أهل معرفتى» وهذا يعنى أن الواقفين أعلى مرتبة من العارفين، بل إن الوقفة تعنى تحصيل المعرفة بالفعل، بينما لا تعنى المعرفة بالضرورة بلوغ الوقفة ف«كل واقف عارف. وما كل عارف واقف» و«لا يقدر العارف قدر الواقف» و«الوقفة عمود المعرفة. والمعرفة عمود العلم» و«قال لى: العلم حجابى، والمعرفة خطابى، والوقفة حضرتى»، بل يذهب «النفَّرى» إلى ما هو أبعد حين لا يجد الحرية إلا فى الوقفة: «قال لى: العالم فى الرق. والعارف مكاتب. والواقف حر».
وهنا يصبح الواقف فى نظر «النفَّرى» من دخل فى زمن الذات الإلهية أو رحابها، وتهيأ لتلقى الخطاب الإلهى المطلق، أو هو ذلك الذى ترقى على سلم الواصلين حتى بات يدور فى عالم الغيب والشهادة بلا قيود ولا أستار، ويبلغ أعلى مراتب الفناء فى ذات الله. والفناء عند المتصوفة يعنى «سقوط الأوصاف المذمومة.. فمن فنى عن جهله بقى بعلمه، ومن فنى عن شهوته بقى بإنابته، ومن فنى عن رغبته بقى بزهادته، ومن فنى عن منيته بقى بإرادته تعالى».
أما الرؤيا عند «النفَّرى» فهى أعلى مراتب الكشف، وهى منفذ خاص جدا للارتباط بخطاب الله، والاطلاع على ما يجود به على عبده من أسرار.
وعلى غرار «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» يقتطع البعض جملا من مخاطبات «النفَّرى» ووقفاته لتصبح حكما عميقة راسخة، مثل قوله فى المخاطبات: «سدَّ باب قلبك الذى يدخل منه سواى، لأن قلبك بيتى» و«يا عبدُ، من صبر عن سواى أبصر نعمتى، وإلا فلا». ومثل قوله فى المواقف: «غششتُك إن دللتُك على سواى» و«آليتُ لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب» و«لا يجاورنى وجدٌ بسواى» «إن عرفتنى بمعرفة أنكرتنى من حيث عرفتنى».
وكل هذه بالقطع خطاب متخيل من الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان، حيث يتخيل «النفَّرى» أن هناك من يخاطبه باسم الملكوت الأعلى، فيبدأ «وقفاته» بعبارة «قال لى»، مثل ما يأتى:
«وقال لى: لا يكون المنتهى حتى ترانى من وراء كل شىء.
وقال لى: نَمْ لترانى، فإنك ترانى؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا ترانى.
وقال لى: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف.
وقال لى: فإن العارف كالمَلِك يبنى قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها.
وقال لى: المعرفة نارٌ تأكل المحبة.
وقال لى: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل».
وقد يبدأ «النفَّرى» «الوقفة» بشرح الحالة والظرف الذى يكون عليه قبل أن يبدأ قول أو مخاطبة الهاتف الذى يأتيه من الملكوت الأعلى، قبل أن ينطق ب«قال لى» وهو ما يمكن أن نضرب عليه مثلا فى «الوقفة 16» وعنوانها «موقف من الموت»، والتى تأتى على النحو التالى:
«أوقفنى فى الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات، ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء، ورأيت الغنى قد صار نارا ولحق بالنار، ورأيت الفقر خصما يحتج، ورأيت كل شىء لا يقدر على شىء، ورأيت الملك غرورا، ورأيت الملكوت خداعا، وناديت يا علم، فلم يجبنى، وناديت يا معرفة فلم تجبنى، ورأيت كل شىء قد أسلمنى، ورأيت كل خليفة قد هرب منى، وبقيت وحدى، وجاءنى العمل فرأيت فيه الوهم الخفى والخفى الغابر، فما نفعنى إلا رحمة ربى، وقال لى أين علمك؟ فرأيت النار.
وقال لى: أين عملك فرأيت النار.
وقال لى: أين معرفتك، فرأيت النار. وكشف لى عن معارفه الفردانية، فخمدت النار.
وقال لى: أنا وليك فثبت.
وقال لى: أنا معرفتك فنطقت.
وقال لى: أنا طالبك، فخرجت».
أما المخاطبات فتختلف عن «الوقفات» إذ يختفى فيها الوسيط، الذى يتلقى الهاتف من الملكوت الأعلى، ويذهب الخيال إلى أن الله يخاطب الإنسان مباشرة، فى صيغة تشبه ما توصف بأنها «أحاديث قدسية». ويمكن هنا أن نعرض اثنتين من هذه المخاطبات، الأولى هى الثامنة، وتقول:
- يا عبد من لم يستح لزيادة العلم لم يستح أبدا.
- يا عبد لا تتصرف فيك أخدمك كل شىء على عين ترعاه من حسن الاختيار.
- يا عبد، إن أردت أن تنظر إلى قبح المعصية فانظر إلى ما جرى به الطبع، وحالفه الهوى.
- يا عبد، علامة مغفرتى فى البلاء أن أجعله سببا لعلم.
- يا عبد، جعلت لكل شىء وجها، وجعلت فتنته فى وجهه، وجعلت وجهك وجدك بك، ووجه الآخرة ما عاد عليك، وأمرتك بالغض عن كل وجه لتنظر إلى وجهى، وأنت بينك وبين سببك واختيارى، ولا أنت ولا سببك، وأنا ولا ظهور اختيارى لك ولا فيك.
- يا عبد، عبدى الأمين علىَّ هو الذى رد سواى إلىَّ».
أما المخاطبة الثانية التى اخترتها فى هذا المقام لطرح الدلالة على ما ذكرته فهى العاشرة، والتى تأتى على النحو التالى:
«يا عبد، كم شىء دفعته بيدك جعلته رزقك، وكم ثبتت يدك على رزق هو لغيرك، فكن عندى وانظر إلىَّ كيف أجرى القسم ترى العطاء والمنع اسمين لتعرفى إليك.
- يا عبد، مبلغك من العلم ما به تطمئن.
- يا عبد، حاجتك ما يقلبك عن الحاجة.
- يا عبد، كيف تستجيب لعلمك وأنا الرب؟
- يا عبد، ما منعتك لضنى عليك، وإنما منعتك لأعرض عليك الجزء المبتلى منك، لتعرفه، فإذا عرفته، جعلته سببا من أسباب تعرفى إليك، فسويت بين الاختلاف والائتلاف، فرأيتنى وحدى، وعلمت أننى لك أظهرت ما أظهرت، ولك أسررت ما أسررت.
- يا عبد، لو علمتك ما فى الرؤية، لحزنت على دخول الجنة.
- يا عبد، ما أنت بعامل فى الرؤية إنما أنت مستعمل.
- يا عبد، قم إلىَّ لا إلى مسافة تقطع بضعفك، ولا حاجة تعجز فقرك.
- يا عبد، عذرتك ما بقى العلم فى لا وبلا.
- يا عبد، لا أرفع العلم عذرتك على كل حال.
- يا عبد، قم إلىَّ، تتبع سببا مواصلا.
- يا عبد، قم إلىّ أعطك ما تسأل، لا تقم إلى ما تسأل، أحتجب ولا أعطى.
- يا عبد، كيف أنت إذ ندبت، كذلك أنا إذا دعوت.
- يا عبد، تحذيرا وحكمة مقام، أنا رؤوف بك أين فلت، وأنا المقيل لك أين عثرت.
- يا عبد، ألم ترنى لم أرضك لشكرى، ولا ذكرى، حتى أشهدتك رؤيتى فكان وراء ظهرك، إنما اصطفيتك لنفسى، وارتضيتك لرؤيتى، لكن طبعتك على الغيب عنى، فرقا بينى وبين مداومتى، فإذا رجعت إلى الغيبة، فما رجعتك عن رؤيتى لك، وإنما رجعتك عن رؤيتى لى. هناك جعلت لك الغيبة مسرحا، فاذكرنى فيها بذكرى الذى أحببت أن أذكرك به، فإنى لا أقفك فى الغيبة، ولا أرضى بمثواك فى العبادة، فانصبها لك أبوابا وطرقا، أوصلك منها إلى الرؤية، فإذا رأيتنى أحرقت ما جئت به».
وبعد حياة تلفها الغموض توفى «النفَّرى» فى عام 375 ه/965 م، كما ذكره التلمسانى الشارح لكتاب المواقف والمخاطبات على هامش الغلاف من المخطوطة المصرية، ويبين أنه توفى فى القاهرة، لكنه لا يجزم بذلك، مكتفياً بالقول: «الله العالم فى مماته».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.