قول العالم والمفكر د. مصطفى محمود عن كتابه "رأيت الله" إنه لخاصة الخاصة الذين يحبون التأمل ويعيشون مع الحرف ويصاحبون المعاني وليس للعوام الذين يقرأون للمتعة العابرة. والكتاب يقدم شرحاً لتحفة الإمام العارف قطب زمانه محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري الخالدة "المواقف والمخاطبات"، وقد عاش الإمام في القرن الرابع بعد الهجرة في بلدة "نفار" بالعراق وكان يتعشق الخلوات وقضى أكثر عمره في التعبد والتأمل. ويلفت د. مصطفى محمود أنه حين يقول الإمام النفري قال لي ربي، وأوقفني ربي بين يديه، أو خاطبني ربي، فلا يجب أن ينصرف ذهن القارئ إلى دعوى الرجل النبوة وإنما هي لغة الصوفية تعبيراً عما يلقى في قلوبهم من الحقائق في لحظات الصفاء، فحين يقول قال لي ربي تكون إيماناً منه بأن نبع الحقيقة وملهمها هو الله وحده. سبحان القدير يقول المؤلف : الكثير منا يذكر قصة الأسد الذي اغتال مدربه "محمد الحلو"، وقتله غدراً في أحد عروض السيرك بالقاهرة، وما نشرته الجرائد بعد ذلك من انتحار الأسد في قفصه بحديقة الحيوان بعد حالة اكتئاب ورفض للطعام، وقتله لنفسه جراء ما فعله بمدربه، وفي ذلك درسٌ بليغ يعطيه حيوان للمسوخ البشرية التي تأكل شعوباً وتقتل ملايين في برود على الموائد الدبلوماسية وهي تقرع الكؤوس وتتبادل الأنخاب. ألا يدلّ سلوك ذلك الأسد الذي انتحر على أننا أمام نفس راقية تفهم وتشعر وتحس وتؤمن بالجزاء والعقاب والمسئولية، نفس لها ضمير يتألّم للظلم والجور والعدوان؟ لماذا لا نصدق حينما نقرأ في القرآن أنّ الله هو المعلم؟، وأن الغريزة هي كلمة أخرى للعلم المغروس منذ الميلاد، العلم الذي غرسه الغارس الخالق. الله كما يقول الصوفي محمد بن عبد الجبار "يستدل به ولا يستدل عليه" فهو برهان كل شئ. عن التوحيد في هذا الفصل يقول مصطفى محمود : لا ينفرد النفري بمذهب خاص للمعرفة الإلهية، ولكنه ينفرد بقدرة مذهلة على التعبير وهو يقول عن التوحيد : يقول الله لعبده/ يا عبد أنت لا تملك إلا ما ملكتك/ ولا تملك نفسك فأنا خالقها/ ولا تملك جسدك فأنا سويته/ أنت بي تقوم وبكلمتي جئت إلى الدنيا . يا عبد قل لا إله إلا الله ثم استقم، فلا إله إلا إنا، ولا وجود حق إلا لي، وكل ما سواي منى، من صنع يدي ومن نفخة روحي . يا عبد كل شيء لي فلا تنازعني ما لي، اسلم إلىّ كل شيء تسلم من كل شيء . يا عبد خلقت لك كل شيء فكيف أرضاك لشيء، إنما نهيتك عن التعلق بشيء غيرة عليك، يا عبد لا أرضاك لشيء حتى ولو كان الجنة ولو رضيتها أنت، فقد خلقتك لي لتكون عندي، عند لا عند وحيث لا حيث . خلقتك على صورتي واحدا فردا سميعا بصيرا مريدا متكلما وجعلتك قابلا لتجليات أسمائي ومحلا لعنايتي، يا عبد ليس بيني وبينك بين، أنا أقرب إليك من نفسك، أنا أقرب إليك من نطقك. الامتحان يقصد النفري بهذه الكلمة "الامتحان" حكمة خلق الدنيا و ابتلاء الانسان بالجسد، يقول: إن الجسد حقيقة فانية وأنه ثوب ابتلاء خلقه الله لامتحان الروح، ومغالبة العبد لطبعه هي دليل على معرفته لنفسه وإدراكه شرف نسبه باعتباره روحا تمت إلى الله و ليس جسدا ينتمي إلى التراب. وهنا حكمة الصوم فهو إعلان الروح عن نفسها و عن قدرتها على قمع الجسد الذي ابتليت به و الصائم برفضه الطعام يكون قد عرف نفسه ورد لها اعتبارها بصفتها روحا لا تأكل و لا تشرب. ويوضح صاحب "العلم والإيمان" في كتابه أن أصدق كلمة تلخص مذهب النفري في المعرفة الإلهية، هي كلمة التجاوز أو العبور أو الخروج من النفس والجسد والتجاوز من أفق في الوجود إلى أفق أعلى مع لزوم العبودية طول الوقت والإخلاص فيها وسجود القلب على الدوام. وعن معنى الإسلام يورد النفري في كتابه أن الله يقول لعبده: أن تسلم إليّ بقلبك و تسلم إلى الوسائط ببدنك، أن تكون معي بهمك، ومع سواي بعقلك، لا حظ لغيري فيك إلا حضورك معه بعقلك فقط فلا تأس على ما فاتك، ولا تفرح بما أتاك، ولا تغضب ممن أساءك و لا تزُه بنجاحك و لا تفتخر بمكانك، ولا تتكبر بعلمك، ولا تغتر بنعمتي، ولا تيأس لبلائي، ولا تستقرك المستقرات من دوني، هو أن تمضي لما أمرتك دون أن تعقب فيكون شأنك شان ملائكة العزائم. ادخل إلىّ وحدك في مناجاة خالصة، يتصور الإمام النفري أن الله يقول لعبده: اعمل ولا تنظر إلى العمل. تصدق ولا تنظر إلى الصدقة. أخرج من علمك وعملك ومعرفتك وصفتك واسمك ومن كل ما بدا لتلقني وحدك. لا تخرج من بيتك إلا في رضاي تكن في ذمتي وأكن دليلك. القني وحدك مرة أو مرتين كل يوم وفي إدبار الصلوات أحفظ لك ليلك وأحفظ لك نهارك واحفظ لك قلبك واحفظ لك همك واحفظ لك عزمك. أتدري كيف تلقاني وحدك...أن ترى هدايتي لك بفضلي لا أن ترى عملك وأن ترى عفوي لا أن ترى علمك. رد علي علمك وعملك آخذه بيدي وأثمره ببركتي وأزيد فيه بكرمي. ما يقوله الله لعبده - يا عبد ضيعت حكمة ما تعلم فما تصنع بعلم ما تجهل - يا عبد الحزن على هو حزن بحق (إن ضيعتني فقد ضيعت ما لا عوض عنه) - من علامات اليقين الثبات ومن علامات الثبات الأمن في الروع - من عبدني من أجل وجهي دام . ومن عبدني خوفا من عقابي فتر، ومن عبدني طمعا في نعمتي انقطع. - علامة مغفرتي في البلاء أن أجعله سببًا لعلم . - يا عبد .. لو أعلمتُك ما في الرؤية لحزِنْتَ على دخول الجنَّة ( أي أن رؤية الله تعالى أفضل من دخول الحنة ) . - إن أكلْتَ من يدي لم تُطِعْكَ جوارحُك في معصيتي ( أي : إذا آمنت وتيقّنتَ أن النعمة مني وشكرتني عليها لم تُطِعْكَ جوارحُك في معصيتي ) . دعاء يدعو الإمام النفري ربه قائلاً: إلهي أنا الذليل بي العزيز بك الفقير بي الغني بك الضعيف بي القوي بك لا يعلم قدر ذلي وفقري وضعفي سواك. مولاي لو تحمل ذنوبي فإن أرضك لا تقلني، وسماؤك لا تظلني، ولا شئ من دونك يحمل ثقل ذنبي، ولا لسان من دون ألسنة عفوك يعذرني لخطيئتي، ولا أحد من خلقك يستطيع أن ينظر إلي لقبح ما شوهتني به خطاياي ولا معرفة من معارف خلقك تستطيع أن تتنصل لي إليك وهي ترى ذنبي في تعرفك. مولاي أسألك برحمانيتك، أسألك بنورك، أسألك بجمالك، أسألك ببهائك، أسألك بك، بذاتك، بوجهك، بنفسك، بجنبك، بيدك، بروحك، بعينك، بصمدك، بكلية أوصافك، بجمعية أفعالك، بكل ما أضفته لنفسك، وعظمته في تعظيمك، أسألك عفو الصفح والكرم وستر التوبة والإنابة.