مصطفى الفقي: الصراع العربي الإسرائيلي استهلك العسكرية والدبلوماسية المصرية    خطر تحت أقدامنا    التموين: انخفاض 300 سلعة بالأسواق.. ونتجه إلى أسعار ما قبل الأزمات    مفاجأة بشأن سعر الدولار في 2024.. يزيد بمعدل جنيهين كل شهر    جهاز دمياط الجديدة يشُن حملات لضبط وصلات مياه الشرب المخالفة    شقيقة زعيم كوريا الشمالية: سنواصل بناء قوة عسكرية هائلة    مصطفى الفقي: كثيرون ظلموا جمال عبد الناصر في معالجة القضية الفلسطينية    مصرع شخصين .. تحطم طائرة شحن نادرة النوع في أمريكا    مدافع الزمالك السابق: الأهلي قادر على حسم لقاء مازيمبي من الشوط الأول    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    نتائج مباريات ربع نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    موعد مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأربعاء 24/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    مسئول أمريكي: خطر المجاعة «شديد جدًا» في غزة خصوصًا بشمال القطاع    إعلام عبري: مخاوف من إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين بينهم نتنياهو    لازاريني: 160 مقار ل "الأونروا" بقطاع غزة دُمرت بشكل كامل    برنامج الأغذية العالمي: نصف سكان غزة يعانون من الجوع    ضابط بالجيش الأمريكي: حكومتنا لا تمتلك قلب أو ضمير.. وغزة تعيش إبادة جماعية    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    نشرة التوك شو| انخفاض جديد فى أسعار السلع الفترة المقبلة.. وهذا آخر موعد لمبادرة سيارات المصريين بالخارج    الدوري الإنجليزي.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    مهيب عبد الهادي يكشف موقف إمام عاشور من الرحيل عن الأهلي    الارتفاع يسيطر.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024 بالمصانع والأسواق    أكبر قضية غسل أموال، حبس تشكيل عصابي لتجارة المخدرات    3 أشهر .. غلق طريق المحاجر لتنفيذ محور طلعت حرب بالقاهرة الجديدة    أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تحول الصور والمقاطع الصوتية إلى وجه ناطق    القبض على المتهمين بإشعال منزل بأسيوط بعد شائعة بناءه كنيسة دون ترخيص    مصرع سائق سقط أسفل عجلات قطار على محطة فرشوط بقنا    مصرع شاب غرقًا أثناء محاولته السباحة في أسوان    العثور على جثة شاب طافية على سطح نهر النيل في قنا    بعد 3 أيام من المقاطعة.. مفاجأة بشأن أسعار السمك في بورسعيد    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    أجبروا مصور على مشاهدتها، دعوى قضائية ضد ميجان ذا ستاليون بسبب علاقة آثمة    نشرة الفن: صدي البلد يكرم رنا سماحة .. إعتذار أحمد عبد العزيز لصاحب واقعة عزاء شيرين سيف النصر    فريد زهران: الثقافة تحتاج إلى أجواء منفتحة وتتعدد فيها الأفكار والرؤى    بالأبيض.. جيسي عبدو تستعرض أناقتها في أحدث ظهور لها    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    حكم تنويع طبقة الصوت والترنيم في قراءة القرآن.. دار الإفتاء ترد    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024 (آخر تحديث)    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    عصام زكريا: الصوت الفلسطيني حاضر في المهرجانات المصرية    تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    بعد تأهل العين.. موعد نهائي دوري أبطال آسيا 2024    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    الخطيب يفتح ملف صفقات الأهلي الصيفية    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجماعات الصوفية المصرية (3/7) تصوف «الشاذلية» بين الطريقة والحقيقة
نشر في المصري اليوم يوم 01 - 06 - 2011

بعد نشر المقالتين الأولى والثانية من هذه السُّباعية، عاد بعض القراء والأصدقاء عاتبين علىَّ أننى أجَّلتُ الكلام عن (أصول الفقه الثورى) وعن المبادئ الرئيسة للوعى الضامن لنجاح الثورات. ولم يشفع عندهم، أننى أخذت بالأكثرية من آراء القراء الذين اختاروا البدء بالطرق الصوفية، بينما كان رأى الأقلية هو الموضوع الآخر.. وهو الموقف ذاته (أعنى المعاودة إلى المعاتبة والتبرُّم برأى الأغلبية) الذى يحدث اليوم، على صعيدٍ أوسع وأهم. إذ نرى كثيراً من المصريين، يعاودون الكلام فى مسألة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، قائلين إن رأى الأغلبية لم يكن صائباً!
وبالتالى، تجب علينا معاودة النظر فى الموضوع، لأن قول «نعم» للتعديلات كان رأى (الإخوان المسلمين) غير الصائب.. ومن هنا، راح يستعلن عليهم الذين قالوا «لا» مؤكِّدين أنهم وإن كانوا الأقلية، فهم الأكثر وطنيةً وإدراكاً لروح الثورة المصرية.
وفيما يتعلق بالمسألة الأهم (الاستفتاء) فإنه من الخطير أن نسير فى هذا الدرب المعاكس للنهج الديمقراطى، بعدما ظل المصريون يحلمون به زمناً طويلاً. لأن الديمقراطية التى تحدثت عنها سابقاً فى المقالة المنشورة هنا تحت عنوان (داء الديمقراطية ودواؤها) ليست برنامج كمبيوتر يتم تحميله عند اللزوم، أو وصفة جاهزة نطبقها حين نريد. وإنما هى مسارٌ طويل، تتشكَّل فيه الأسس العامة والرؤى الجماعية، من خلال (الخبرة) والتراكم البطىء الراسخ، وهو الأمر الذى لا يمكن إعداده سلفاً، مثل منزل سابق التجهيز.
فالبيت الديمقراطى لا بد من الارتفاع بجدرانه خطوةً خطوة، وإلا انهار البناءُ على رؤوس السكان.. ومن هنا، أرى أنه لا يجوز لنا بحالٍ من الأحوال، خاصةً فى الفترة الحرجة الحالية، معاودة النظر فيما سبق اتخاذه من خطوات على المسار العام. وإنما يجب التركيز دوماً على الخطوة القادمة، وما ليها من خطوات تمضى بنا قُدُماً. مع الإيمان بأن المسار الديمقراطى يصحِّح ذاته، ويتجاوز أخطاءه إن حدثت.. بشرط ألا يتم التفريط فى المسار ذاته، بدعوى أنه يخدم أغراض جماعة معينة.
وعلى نحوٍ أكثر تفصيلاً، فقد كنتُ من الذين دعوا إلى «نعم» فى الاستفتاء الأخير. مع أننى لم أكن يوماً من الإخوان المسلمين، ولن أكون منهم فى يومٍ من الأيام (لسببٍ بسيط، هو نفورى من استغلال الدين فى الأغراض السياسية) فضلاً عن أن «الإخوان» والجماعات الدينية عموماً، لم يكونوا يوماً على قلب رجل واحد، مثلما يروِّجون عن أنفسهم ويبهرجون بذلك على الناس.. بل أزيدُ على ذلك، من دون أن أتزيَّد، مؤكِّداً أن حال مصر لن ينصلح ويتطور إيجابياً، إلا حين يكفُّ أصحاب اللافتات الدينية، المسيحية والإسلامية، عن المراوغة السياسية واستعمال (الدين) كورقة لعب سياسى، سعياً لمطالب دنيوية تعود بالنفع على الزعماء الدينيين، ثم يدفع بسطاء المؤمنين المتوهّمين، ثمنها الباهظ.. الظالم.
■ ■ ■
ولمَ سبق، فسوف نستكمل الكلام عن الطرق الصوفية التى تحظى فى مصر بأتباع كثيرين، قد يصل عددهم إلى الملايين. وكان من ألطاف الله (وعناية الرب) أن الصدام الذى كاد يقع بينهم وبين السلفيين، بعد اندلاع الثورة، لم يقع.. إذ لا يُعقل أن نهمل «فَهْم» مكونات الواقع المصرى، إلى الحين الذى تقع فيه الحوادث والمشكلات، فنسارع ساعتها إلى البحث عن حقيقة هؤلاء المتصادمين، على القاعدة الهزيلة الهزلية: مَنْ أنتم، مَنْ أنتم؟!.. لأن هذا النهج البائس، ثبت مع الأيام فشلُه، مهما كان من الاهتمام الإعلامى (المؤقت) به.
وأول ما يلفت النظر فى سياق استكشاف طبيعة «الطرق الصوفية» فى مصر، أمران. الأول منهما أن أتباع الطرق الصوفية، المصرية وغير المصرية، لم يؤثَر عنهم طيلة القرون الثمانية الماضية (منذ انتشار الطرق الصوفية فى القرن السابع الهجرى) التنازع فيما بينهم، على النحو الذى نراه عند أصحاب التيارات والمذاهب الدينية، القديمة والمعاصرة، التى اعتركت دوماً: الحنابلة والمعتزلة، القرامطة والفاطميين، الشيعة والسنة..إلخ.
ومع أن الصوفية، والمتصوفة، كانوا دائماً ما يقومون بدور جهادى ضد الظالمين من الحكام والمستعمرين الأجانب، وهو ما نرى له أمثلةً فى سيرة: عمر المختار (ليبيا) محمد ماء العينين (المغرب) محمد المهدى (السودان) محمد أبوالعزائم (مصر).. وغيرهم كثيرون، ومع ذلك فإن مشايخ الصوفية، والمتصوفة من أتباعهم الكثيرين، لم يؤثَر عنهم يوماً التنازع فيما بينهم، أو منازعة أصحاب الدنيا. إذ يُعدُّ من شروط (التصوف) عدم منازعة أهل الدنيا فى دنياهم، وعدم إنكار العقائد على أصحابها أو محاسبتهم عليها، وعدم الاعتبار للتديُّن الشكلى والتمسك بظواهر الشريعة دون حقائقها.
والأمر الآخر، اللافت للنظر فى تاريخ الطرق الصوفية بمصر، هو أن المؤسسين الأوائل لهذه الطرق. كلهم وفدوا إلى بلادنا من خارجها، والصوفى المصرى الوحيد الذى ترك علامة كبرى فى التصوف، وهو «ذو النون المصرى»، لم يشتهر أمره فى مصر، ولا ذاعت آراؤه فيها! وإنما ظهر أمره واشتهر حاله وذاعت أقواله ورؤاه المؤسِّسة للطريق الروحى (مثل فكرة السلم الروحى= الأحوال والمقامات) فى بغداد، التى رحل إليها من مصر مبكراً، وظل يعيش فيها حتى وفاته.
ولا يعنى ذلك أن المصريين لم يكن فيهم (أولياء) فالولاية غير مقصورة على جماعةٍ بعينها، وليست محصورة عن أى جماعة أخرى. ولكن أهل التصوف المصريين، لم يؤسِّسوا (تاريخياً) طرقاً صوفية واسعة الانتشار بالبلاد، كالشاذلية والرفاعية والأحمدية والدسوقية والقادرية، وإنما تفرَّعت على أيديهم هذه «الطرق» التى ورد مؤسِّسوها على مصر، من المغرب والمشرق.
والأعجب مما سبق، أن الطرق الصوفية الأوسع انتشاراً بمصر (باستثناء القادرية) ترتبط جميعاً بالشيخ أحمد الرفاعى (الكبير) عراقىِّ الأصل والإقامة، وبتلميذه الشهير «أبى الفتح الواسطى» عراقىِّ المنشأ والإقامة، مصرىِّ النهاية والوفاة.. وهو ما سوف نراه فى هذه المقالة، وفى المقالات التالية.
■ ■ ■
بدأ مؤسس الطريقة الشاذلية، الشيخ أبوالحسن الشاذلى (المولود بقرية «غمارة» المغربية سنة 593 هجرية) مساره الروحى بالبحث عن شيخٍ مرشد، فارتحل من المغرب إلى تونس ومصر والشام والعراق، والتقى فى بغداد بالشيخ الرفاعى المرموق، أبى الفتح الواسطى. ويروى الشاذلية عن شيخهم، قوله: «لما دخلتُ العراق، اجتمعت بالشيخ الصالح أبى الفتح الواسطى، فما رأيتُ بالعراق مثله، وكان بالعراق شيوخ كثيرة، وكنت أطلب (القطب) فقال لى الشيخ أبوالفتح: تطلب القطب بالعراق، وهو فى بلادك، ارجع إلى بلادك تجده! فرجعتُ إلى بلاد المغرب، إلى أن اجتمعتُ بأستاذى الشيخ الولىِّ العارف الصديق، القطب الغوث، أبى محمد عبدالسلام بن بشيش، الشريف الحسنى. فلما قدمت عليه، وهو ساكنٌ مغارة برباطه فى رأس الجبل، اغتسلتُ فى عينٍ أسفل الجبل، وخرجت من علمى وعملى، وطلعت إليه فقيراً، وإذا به هابطٌ علىَّ، فلما رآنى قال: مرحباً بعلىِّ بن عبدالله بن عبدالجبار، وذكر لى نسبى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال لى: يا علىُّ طلعت إلينا فقيراً عن علمك وعملك، فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة.. فأخذنى منه الدهش، وأقمتُ عنده أياماً، إلى أن فتح الله على بصيرتى».
■ ■ ■
وشيخ الشاذلى (عبدالسلام) يعرف بابن بشيش، وبابن مشيش. وهو اختلاف نشأ عن ظاهرة «الإبدال» اللغوية، حيث يُستبدل الحرف بحرفٍ آخر تسهيلاً لنطق الكلمة. وقد أشار لذلك، ابنُ عيَّاد الرُّندى (أحد أشهر مؤرخى الطريقة الشاذلية، ورجالها المرموقين) بقوله: «وأما أبو عبدالله السيد عبدالسلام بن بشيش، فهو من أجلِّ مشايخ الشيخ أبى الحسن الشاذلى، وعلى يديه كان فتحه، وإليه كان ينتسب إذا سُئل عن شيخه، وهو: سيدى عبدالسلام بن بشيش، واشتهر فى الغرب بمشيش».
وعلى يد ابن بشيش (مشيش) سلك أبوالحسن الشاذلى طريق الصوفية، وفقاً لمنهج أستاذه الذى جمع بين الشريعة والحقيقة، أى الاستمساك بظاهر الدين، مع الحفاظ على جوهره العميق. وهو المعنى الذى ورد فى وصية ابن بشيش لتلميذه الشاذلى: «الزمْ الطهارة من الشرك. كلما أحدثت، تطهَّرت من دنس حب الدنيا. وكلما ملت إلى الشهوة، أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى. وعليك بمحبة الله على التوقير والنزهة، وأدمنْ الشرب بكأسها مع السكر والصحو. كلما أفقت أو تيقظت، شربت. حتى يكون سُكرك وصحوك بالله، وحتى تغيب بجماله عن المحبة وعن الشراب والشرب والكأس، بما يبدو لك من نور جماله وقدس كمال جلاله».
ويروى الشاذلية، أن الشيخ عبدالسلام بن بشيش، هو الذى رسم لتلميذه أبى الحسن الشاذلى (الطريق والطريقة) فبعدما تمت الصحبة بينهما (.. وبالمناسبة، فإن صحبة المريد بالشيخ ليست دائمة مثلما يعتقد كثيرون، وكان الإمام عبدالقادر الجيلانى يشير إلى ذلك بشكلٍ مجازى، حين قال: لا رضاع بعد الحولين). المهم، أن ابن بشيش قال للشاذلى بعدما انقضى زمن تلمذة الأخير على يديه: «يا علىّ، ارتحلْ إلى أفريقية، واسكنْ بلداً بها تسمى بشاذلة، فإن الله عزَّ وجلَّ يسمِّيك الشاذلى، وبعد ذلك تنتقل إلى تونس، ويؤتى عليك بها من قبل السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى أرض المشرق، وبها ترث القطبية.. يا علىّ، الله الله، والناس الناس. نزِّه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التمايل من قِبَلهم، وعليك بحفظ الجوارح، وأداء الفرائض. وقد تمت ولاية الله عندك، ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك. وقل اللهم ارحمنى من ذكرهم، ومن العوارض من قِبَلهم، ونجِّنى من شرِّهم، واغننى بخيرك عن خيرهم، وتولَّنى بالخصوصية من بينهم؛ إنك على كل شىءٍ قدير».
وسار أبوالحسن على هدى أستاذه، واستقر به المقام حيناً بتونس (إفريقية) وزار مصر، ثم عاد إلى تونس والتقى هناك تلميذه الأشهر: أبوالعباس المرسىّ. ثم ارتحل الشاذلى ومريدوه إلى مصر فأقام بها زمناً، وتولَّى التدريس بجامع العطارين بالإسكندرية وببعض مساجد القاهرة، وشارك المصريين فى الجهاد ضد الصليبيين فى موقعة المنصورة التى أُسر فيها لويس التاسع.. وطاب له المقام بمصر، حتى كانت سنة 656 هجرية، حيث نوى الشيخ الحج، فاتجه لركوب البحر (الأحمر) للعبور إلى الحجاز، لكنه توفى ببلدة تسمى «حميثرة» بصحراء عيذاب، بجنوب شرق مصر عند ساحل البحر الأحمر، ودُفن حيث توفى. ولايزال قبره قائماً هناك، يُزار، إلى اليوم.. وخلفه أبوالعباس المرسىّ فى مشيخة الطريقة الشاذلية.
ولم يترك الشيخ أبو الحسن الشاذلى كتباً، وكان يقول: كُتبى أصحابى! وقد كان له عددٌ كبير من الأصحاب والمريدين والمحبين حافظوا على تراثه الروحى.. ولاتزال بأيديهم أدعية وابتهالات خاصة (أحزاب) منسوبة إلى الشيخ أبى الحسن.
■ ■ ■
وقد انطلق الطريق الصوفى للشاذلية من الإسكندرية ليملأ أرجاء مصر، وكان بدءُ هذا الانطلاق من سيرة وآثار الشيخ أبى الحسن، وبفضل سيرة قطب الإسكندرية وشيخها الأشهر: شهاب الدين أحمد بن عمر بن علىّ الخزرجى البَلَنسى، الذى اشتهر بكنيته (أبوالعباس) وبلقبه (المرسىّ).. نسبةً إلى بلدة «مُرسِيَة» التى ولد بها سنة 616 هجرية.
ومن المأثورات المروية عن أبى الحسن الشاذلى، الدالة على المكانة الروحية لتلميذه (وزوج ابنته من بعد) قوله: «يا أَبَا العبَاَّسِ، واللهِ ما صَحِبْتُكَ إِلاَّ لِتَكُونَ أَنْتَ أَنَا، وأَنا أَنْتَ. يا أَبَا العَبَّاسِ، فِيكَ مَا فِى الأَوْلِيَاءِ، وَليْسَ فِى الأَوْليَاءِ مَا فِيكَ».. ومن مأثورات أبى الحسن الشاذلى التى اشتهرت بين الصوفية، عبر مئات السنين، قوله: «أبُو العبَّاسِ مُنْذُ نَفَذَ إِلى اللهِ لَمْ يُحْجَبْ، وَلَوْ طَلَبَ الحِجَابَ لَمْ يجِدْهُ.. وأَبُو العبَّاسِ بِطُرُقِ السَّمَاءِ، أَعْلَمُ مِنْهُ بِطُرُقِ الأَرْضِ».
وصل أبوالعباس مع شيخه الشاذلى إلى الإسكندرية، سنة 642 هجرية، واستقرا بحىّ كوم الدِّكة الذى سيولد فيه بعد قرون، ويعيش ويموت هناك، فنان الإسكندرية الأشهر البديع: سيد درويش.. أمَّا الدروس العلمية والمجالس الصوفية، فقد اختار لها الشاذلىُّ المسجدَ المعروف اليوم بجامع العطارين (وكان يُعرف وقتها بالجامع الغربى) وقد أقبل على هذه الدروس والمجالس، جمعٌ غفير من أهل الإسكندرية.
ولا تفوتنا الإشارة هنا، إلى أنَّ الإسكندرية كانت فى هذا العصر مدينةً متميزة ذات مكانة علمية خاصة. فقد حفلت من قبل الشاذلىّ والمرسىّ برجالٍ كبار، حطُّوا رحالهم فيها وأقاموا المدارس العلمية، أمثال: الطرطوشى، ابن الخطاب الرازى، الحافظ أبوطاهر السِّلَفى.. وكان صلاح الدين الأيوبى (قبل الانقلاب البشع الذى قاده على الدولة الفاطمية) يحرص على قضاء شهر رمضان من كل عام بالإسكندرية، ليسمع الحديث النبوى من الشيخ أبى طاهر السِّلَفى.
وحين تولَّى أبوالعباس مشيخة الطريقة الشاذلية بعد وفاة أبى الحسن الشاذلى (سنة 656 هجرية) كان عمره آنذاك أربعين سنة. وظلَّ يحمل لواء العلم والتصوف حتى وفاته 686 هجرية، بعد أن قضى أربعةً وأربعين عاماً فى الإسكندرية، سطع خلالها نجم الطريقة الشاذلية فى الآفاق. وعند وفاته، دُفن أبوالعباس فى الموضع الذى يحتله اليوم مسجده الكبير بالإسكندرية. وكان هذا الموضع وقت وفاته، جبانةً يُدفن فيها الأولياء. وقد أُقيم سنة 706 هجرية بناءٌ على مدفنه، ليتَميَّز عن بقية القبور من حوله فصار البناءُ مزاراً، ثم صار مسجداً صغيراً بناه «زين الدين القَطَّان» وأوقف عليه أوقافاً.
وأُعيد بناء المسجد وتم ترميمه وتوسيعه سنة 1189 هجرية.. وفى سنة 1362 هجرية (1943م) أُعيد بناء المسجد، ليتخذ صورته الحالية التى هو عليها اليوم (أكبر مساجد الإسكندرية) وقام ببنائه وزخرفته المهندس الإيطالى ماريو رُوسِّى. وهو معمارىٌّ شهير، شغف ببناء المساجد، وما لبث أن أعلن إسلامه. وقد توفى ماريو رُوسِّى بالحجاز، ولا تزال ذريته تعيش بمصر.. وقد التقيت قبل سنوات بحفيده، وكان يشكو بعينٍ باكية، أن مصر لا تريد أن تمنحه هو وأسرته «الجنسية المصرية» مع أنهم يعيشون هنا، جيلاً بعد جيل، منذ قرابة المائة عام.
وحول المسجد، تقوم مساجد جماعة من الأولياء وكبار الشاذلية، منهم: البوصيرى، ياقوت العرشى، الموازينى، الواسطى.. وغيرهم من الأولياء. وتعرف منطقة المسجد حالياً بميدان المساجد، وجرى قبل بضعة سنوات تجديدها وتسويرها وترميم مسجدها الأكبر: مسجد أبى العباس.. وبناء مسجد آخر، لا يقل جمالاً، هو مسجد الشيخ الشاذلىِّ الشهير: ياقوت العرشى.
■ ■ ■
وبعد «أبى العباس المرسى» تولى المشيخة الشاذلية، تلميذه: ابن عطاء الله السكندرى. الذى يُعرف عند الشاذلية بلقب (حكيم الصوفية) وقد عُرف ابن عطاء بهذا اللقب، استناداً إلى كتابه البديع «الحكم العطائية». الذى يعدُّ واحداً من أشهر الكتب التى تلخص المفاهيم الصوفية، بلغةٍ رمزية عالية البلاغة. وهو تطوير لهذا اللون الأدبى الخاص، الذى نجده لدى صوفية سابقين، من أمثال: الحلاج (أبى المغيث الحسين بن منصور، المتوفى 309 هجرية)، النفَّرى (محمد بن عبدالجبار، من أهل القرن الخامس)، الجيلانى (الإمام عبدالقادر، المتوفى 561 هجرية)، ابن عربى (الشيخ الأكبر محيى الدين، المتوفى 638 هجرية).
وقد اعطى «ابن عطاء» دفعةً كبيرة للطريقة الشاذلية باعتباره أول وأهم مؤلِّف شاذلى، فبالإضافة إلى كتابه (الحكم) ترك بين يدى الناس مؤلفات طالما اعتز بها الصوفية شاذليةً كانوا أم غير شاذلية، مثل: التنوير فى إسقاط التدبير، تاج العروس، لطائف المنن فى مناقب الشيخ أبى العباس المرسى وشيخه أبى الحسن الشاذلى.
وقد حظى كتاب الحكم العطائية، من بعد وفاة مؤلفه (سنة 709 هجرية) بعديدٍ من الشروح، أشهرها: ابن عباد الرُّندى، شرح أحمد زرُّوق، شرح عبد المجيد الشرنوبى، شرح محمد بن أبى العلا، شرح ابن عجيبة الحسنى، شرح البريفكانى.
ومن بعد ابن عطاء الله، حظيت الشاذلية بكبار المشايخ الذين انتسبوا للطريقة على امتداد القرون التالية، وهكذا تفرَّعت الطريقة إلى (طرق) فرعية، ينتسب كل فرع منها إلى أبى الحسن الشاذلى أولاً، ثم إلى الشيخ الفرعى المقتبس من الشاذلى.
ويجمع بين تلك الفروع، التقديرُ العظيم (المبالغ فيه أحياناً) للشيخ أبى الحسن، كما تجمعهم تلك «الأحزاب» التى يحرصون على تلاوتها بعد الصلوات.. كما يتميز الشاذلية بالجمع بين الطريقة والحقيقة، أى بين الفقه والتصوف، مثلما كان حال شيخهم الشاذلى، الذى عُرف عنه قوله: حسبك من العلم، العلم بالوحدانية، ومن العمل تأدية الفرائض مع محبة الله ورسوله واعتقاد الحق للجماعة، فإن المرء مع من أحب، ولو قصَّر فى العمل.
وهناك سمةٌ خاصة بالشاذلية، هى أنهم على اختلاف الفروع التى ينتمون إليها، لا يرون فى التصوف باباً لإهمال المظهر الخارجى للصوفى، وهم يقتدون فى ذلك بشيخهم أبى الحسن الذى كان يحسن لباسه ومظهره، ويأخذ زينته عند كل مسجد، ويتحلَّى دائماً بالثياب الحسنة، قائلاً: اعرف الله، وكن كيف شئت.. ومن الوقائع الدالة فى هذا الإطار، ما يرويه الشاذلية من أن أحد مريدى الشاذلى، أراد أن يُظهر (التقوى) فراح يشرب الماء ساخناً فى يومٍ شديد الحر، وتَرَكَ الماء البارد! فنهاه الشيخ أبو الحسن عن ذلك، وقال: يا بنىَّ اشربْ الماء البارد، فإذا حمدت الله استجاب كل عضو منك بالحمد لله.
وللطريقة الشاذلية فى مصر اليوم، فروع تكاد تخرج من كثرتها عن الحصر. منها العزمية والبكرية والوفائية والحامدية والعروسية والفيضية، وغيرها، وكلها تجتمع على سمات رئيسة، وتفترق عند بعض الملامح الفرعية (كالأدعية والأوراد والأحزاب).. ولن نجد للشاذلية، ولا لبقية الطرق الصوفية، لباساً معيناً أو شعارات خاصة. ولن نجد لهم ذلك (الشكل الموحَّد) مثلما هو الحال فى الجماعة الإسلامية التى صرنا نسميها اليوم «السلفية».. ولن نجد فى وجوههم هذا التجهُّم الدائم والجدية الصارمة التى نراها عند الجماعة الإسلامية التى صرنا نسميها اليوم «الإخوان». لأن التصوف لا يقوم أصلاً على المظهر، ولا يعتدُّ بظاهر الأشكال! فالصوفية كانوا دوماً يقولون: المدارُ على القلب.. وكانوا دوماً يحرصون على ما يسمونه: سَتْر الحال.
■ ■ ■
ولسوف نستكمل الكلام عن الطرق الصوفية، الأسبوع المقبل، بمقالة عن «القادرية» تتلوها مقالتان عن الطرق الصوفية الأخرى، وعن أهمية التصوف كمسارٍ روحى ومسيرة تعبُّدية لا تزعم لنفسها اليقين التام (الظاهرى) ولا تسعى للمزاحمة على السلطة السياسية، ولا تتوسل بالدين للوصول إلى الدنيا.. وهى أمور نحتاجها اليوم، فى مصر، بعدما انسربت المذاهبُ والفرق الدينية، المسيحية والإسلامية، إلى دهاليز تُنذر دوماً بالانفجار.
وتهدِّد المخالفين بالنحر
والأتباع بالانتحار،
.. أم المولى جعلَنا
شعوباً للتشعُّب، وقبائل للاقتتال
.. فلمَّا الكلُّ مال
متحيِّزاً إلى فئةٍ، ومتحرِّفاً لقتال
أفضى الحالُ إلى مُحال المآل
وسلَّمنا الانتظارُ للانهيار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.