وقيام الليل الذي كلف الحق به نبيه اتخذه كل محب عاشق قدوة ومنهاجًا له، كإحدى مجاهدتهم في طريق العشق، فاللذة الروحية التى هى سُكْر العاشق وسُكَّره ونشوته وانتشاؤه ومكاشفته لِما سمح له به المعشوق أو تفضل عليه به، قد تجعل صاحبها يهيم خارج نطاق سيطرة عقله مثل بعض شطحات بايزيد البسطامي وحسين بن منصور الحلاج والشبلي: سبحاني ما أعظم شاني.. ما في الجبة غير الله» حتى اتهمهم البعض بفساد عقيدتهم وكانت الحجة في ذلك إن رسول الله مع علو قدره لم يصدر منه مثل هذا الشطح، برغم سطوة الوحي عليه وشدته، وذلك مردود عليه، فكل صوفي مهما بلغ عشقه ومجاهداته وشطحه وتجليات الحق له، إنما يشبه جدول ماء صغير قد امتلأ ففاض منه ما زاد عليه، وأما رسول الله فهو البحر الواسع والمحيط الذاخر الذى مهما أضفت إليه استوعب الكثير، فقد أهله ربه لذلك الدور العظيم والقول الثقيل الذى لا يطيقه غيره، فلا تجوز المقارنة بين جدول صغير ومحيط ذاخر، ولذا كشف لنا الحق تلك المهمة العظيمة التى اختارلها رسوله الكريم في قوله:»وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». وتأويل وشرح المعاني الصوفية ميسور لمن وهبه الله التيسير، حول هذا المعنى يقول بايزيد في إحدى شطحاته: نظرت إلى ربي بعين اليقين بعدما صرفني عن غيره، وأضاءني بنوره، فأراني عجائب سرِّه، وأراني هويته، فنظرت بهويته إلى أنائيتي، فزال نوري بنوره، وعزَّتي بعزّته، وقدرتي بقدرته. ومثل هذا الكلام يشرح المثل القائل: لا يفنى الضوء إلا في ضوء أكبر منه، ومثال ذلك إذا أشعلت شمعة وقت انقطاع نور الكهرباء، سيفنى نورها فور عودة النور ووضوح رؤية الأشياء على حقيقتها؛ ولذا يقول بايزيد : إذا جاء حبُّ الله غلب كل شيء، لا حلاوة للدنيا، لا حلاوة للآخرة ، الحلاوة حلاوة الرحمن. ومن طرائف العشق، أن العامة تقول عن التراكيب الفنية للأخشاب «الأرابيسك» عاشق ومعشوق، وتراكيب الزجاج الملون «الزجاج المُعشق»، وإذا كانت سياحتنا في حدائق بايزيد البسطامي قائمة فلنسمع قوله الملغز برغم بساطته:»إني جمعت عبادات أهل السماوات والأراضين السبع فجعلتها في مخدة ووضعتها تحت خدي « .. فقد قال الحق: ومازاغ قلبه العاشق وما غوى، فإن سر العبودية يتلخص في كلمات قليلة أخبرنا بها رسولنا الكريم: «خير ما قلت وما قاله الأنبياء من قبلي: «لا إله إلا الله». ومن جميل ما قيل ما نظمه سمنون المحب، عاش ومات في بغداد عام 298ه : أحنُ بأطراف النهار صبابة :: وبالليل يدعوني الهوى فأجيبُ وأيامنا تفنى وشوقي زائد :: كأن زمان الشوق ليس يغيبُ فغلبة العشق على قلب العاشق تغلب لسانه ويتكلم بما يراه أهل العقل وليس أهل العشق جنونًا، وسيد المجانين في ذلك قيس بن الملوح: «أنا ليلى وليلى أنا» ومن الصوفية الكثير أمثال الحلاج والبسطامي والسهروردي ومحيي الدين بن عربي والشِبلي، وليس في ذلك من كلام الصوفية ما يسمى «اتحاد وحلول» يعنى توحد الخالق بالمخلوق، ولك أن تتأمل قول الحق ثم تجيب بنفسك عليك، هل في ذلك اتحاد وحلول؟: «وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمىَ» الأنفال17 ، ومثل ذلك آيات كثيرة منها: «أأنتُمْ تَزرعُونهُ أَم نحنُ الزَّارعُون» الواقعة 64 . يعزز الصوفي الجبار مثل اسمه محمد بن عبد الجبار النِّفَّري 354 ه تهافت اتهام «الاتحاد والحلول» دون تعمد ذلك في كتابه الفريد مثل صاحبه «المواقف والمخاطبات» في أول مواقفه في الكتاب، وهو موقف «العز»: أوقفني في العز وقال لي لا يستقل به من دوني شيء.. ولا يصلح من دوني لشيء .. وأنا العزيز الذي لا يُستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته .. أظهرت الظاهر وأنا أظهر منه؛ فما يدركني قربه ولا يهتدي إلي وجوده، وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه فما يقوم علي دليله ولا يصح إلى سبيله». ومن لطائف تفسير أسماء الله الحسنى، فإن اسم الجبار لا يعني ما يوحي به من قوة وقهر وإنما كثير الجبر، جبرٌ للخاطر وجبر الفقد والأحزان وكل مواجع النفس وانكساراتها. ومن علامات المتصوفة غير قيام الليل الزهد، لتأديب النفس وتربيتها والجهاد معها، فالنفس محل قوام الجسد المادي، فهى جالبة الاشتهاء من مأكل ومشرب ومنكح وغير ذلك من قوام الأجساد وإعمار الدنيا، فإذا تأدبت النفس زهدت، فالروح لا زهد لها ولا شهوات، فهى سر الحياة ونفخة الله من روحه تعالى في تمثال آدم التى يتوارثها أبناء آدم حتى ما يشاء الله، ولذا قال الحق قبل نفخ الروح في آدم ليتحول من تمثال طيني إلى كائن حي:»إذ قال ربكَ للملائكةِ إِني خالقُ بشرًا من طين، فإذا سوَّيتهُ ونفختُ فيه من رُّوحي فقعوا لهُ ساجدين» البقرة 30 ، وغير خفي أن الأمر بالسجود ليس للجسد الطيني والتمثال الذي هو آدم وإنما للسر الذي أودع بعد النفخ من روح الله فيه، ففطن الملائكة بأن السجود لروح الله وليس لطينة آدم فسجدوا من فورهم، وغاب هذا الفهم عن الشيطان، وقَصر نظره وتوقف عند طبيعة آدم الطينية الثقيلة وطبيعته النارية الشفافة، وجعل يجادل ويفاضل حتى تمرد على الأمر الإلهي، وغاب عنه أن الأمر بالسجود هو لروح الله التي نفخها في هذا المخلوق الجديد، ولو فقه ذلك لكان أول الساجدين .. ولكنه قضاء الله لإعمار الأرض التي حدث عنها الملائكة «جاعل في الأرض خليفة»، ونلاحظ هنا كلمة خليفة؛ وقد فهمها البعض بأن آدم خليفة لله، سبحانه وتعالى أن يكون له يخلفه، وإنما يقع ذلك على آدم ومن يخلفه من أولاده ..ألا ترى الناس تقول خير خلف لخير سلف، يعنى من ترك خليفة له لم يمت، «ولد» لأنه حسب زعمهم يحمل اسمه، وبذا يكون امتدادًا له.