صدر حديثًا عن مركز المحروسة للنشر، كتابي "النصوص الكاملة للنفري"، و"شرح مواقف النفري"، لعفيف الدين التلمساني، ودراسة وتحقيق وتعليق الدكتور جمال المرزوقي. "كشف الحجاب لعارفيه فأبصروا مالا تعبره حروف هجاء" محمد بن عبد الجبار النفري ازدهرت مؤخرا الكتابات الصوفية باللغة العربية وأصدرت العديد من الكتب التي تتناول الصوفية الكبار بالشرح والدراسة ولكن لم يلتفت الكثير منها لواحدة من اهم الشخصيات في تاريخ التصوف الإسلامي وهو محمد بن عبدالجبار النفري صاحب المواقف والمخاطبات وتأتي أهمية النفري من كونه يمثل مدرسة مستقلة في التصوف الإسلامي بجانب أسلوبه المتميز في الكتابة المكثف. والنفرى، صاحب المواقف الحقيقى هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله، توفى عام 354ه. ويلقب بالسكندرى والمصرى؛ "لأنه عاش فى مصر وربما توفى بها، ولكن اللقب الغالب عليه هو "النفرى" نسبة إلى نفر – بكسر أوله وتشديد ثانيه وراء - بلد من نواحي بابل بأرض الكوفة. أما محمد بن عبد الجبار النفرى، فهو حفيد صوفينا، وإليه ينسب كتاب "المواقف" على أساس أنه هو الذى قام بترتيب أوراق جده الشيخ والتأليف بينها - أثناء حياته وبعد وفاته - دون "الاهتمام بالترتيب الزمنى لتأليفها. ولم يتحدث شيخنا النفرى فى مصنفاته عن شئ من حياته، أو الأطوار التى مر بها أو شيوخه أو تلامذته - كما فعل معظم متصوفة الإسلام- وكان كثير الترحال والأسفار، وقد أظهرنا فى مصنفاته على مذهب صوفى جديد إلى حد كبير، وهو مذهب يقوم على ما يسمى "بالوقفة"، وتعنى عنده أن ينفصل الصوفى تماما عن السوى، ويفنى عن الكونية، وفى هذا الفناء لا يشهد الصوفى إلا الأحدية. فمذهب النفرى الصوفى مذهب فى شهود الوحدة فى الوجود فى حال من الذوق فحسب، إذ يفنى الصوفى عن نفسه، وعن الأكوان، فلا يعود يرى موجودا سوى الله فى الوجود، ولكن هذا الصوفى لا ينطلق فى نفيه للأكوان فيقرر أنها معدومة بإطلاق. أو أن الأكوان يندمج وجودها فى وجود الله بحيث تصبح الإشارة إلى الأكوان هى عين الإشارة إلى الله، وإنما يرد الصوفى من حال الفناء عن نفسه، وعن العالم، إلى حال البقاء، وبتعبير اصطلاحى آخر : يرد من حال الجمع إلى حال الفرق؛ فيشاهد الأكوان قائمة بمكونها تعالى. وأسلوب النفرى فى مصنفاته شديد الرمزية، يخرج بنا عن اللسان المعتاد، وعن المنطق المألوف، ويقف على هوة هى حسب قول النفرى "برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء"، فالطريق بلا دليل؛ لأن عالم النفرى عالم الغربة، مجهول لدى كل دليل، فمن ذا الذى يجرؤ على أن يمسك بيد غيره ليقوده ويكشف له عن خفاياه ؟! الطريق يمر وسط غابات من الرموز، وهذه الغابات ليست على وجه الأرض لنشق فيها سبلنا، إنها تحت الأرض فى أعماق كل واحد منا، كما يراها النفرى فى "موقف التيه": "أوقفنى فى التيه، المحاج كلها تحت الأرض، وقال لى : ليس فوق الأرض محجة، ورأيت الناس كلهم فوق الأرض، والمحجات كلها فارغة". لو حاول فنان أن يجسم بالألوان رؤية النفرى لكانت النتيجة لوحة سريالية فيها من الغرابة ما يدنيها من الجنون، ولا سيما أن للرؤية شطرا ثانيا ينقسم فيه الناس قسمين: قسم ينظر فى الهواء، وقسم يقلب نظره فى داخله : "ورأيت من ينظر إلى السماء لا يبرح من فوق الأرض - ومن ينظر إلى الأرض ينزل إلى المحجة ويمشى فيها". البصر ينفذ إلى عوالم فيرى فيها روابط يحاول اللسان أن ينطق بها فتتفجر اللغة، وتتفتت الكلمات فى وحدات لا ينكشف الرباط بينها إلا لمن يعرف أن يحل اللغز، أو يرجع إلى زمن ما قبل انفجار اللغم الذى فجر العوالم تحت الأرض، وكشف ما تشير إليه الكلمات دون أن تبلغ إلى تسميته. فمع النفرى يتخذ فعل الكتابة بعدا ماورائيا للكلمة، وتتحول اللغة على يديه إلى هوة ملأى بالغرابة والعجب والهدم. بالمعنى المبدع الرائي الواقف بين تراب التجربة الجوانية وسماء التطلع الفريد. لقد تحول فعل الكتابة معه إلى "كتابة - قصيدة" جديدة تؤسس بقدر ما تمحو، وترمز بقدر ما تكشف اللغة. كان همه الأكبر أن يربح الدهشة الكبرى، وها هو الآن - بعد طمس طويل - يستيقظ من رماد تجربته ليبعث فينا ريح الدهشة ويسعدنا بقصائده. صفى النفرى حروفه وكلماته وقصائده، فما سفسط ولا بكى، لكنه "حدس" قبل ألف سنة وقليل، بما سيأتى. وأهمية هذا الشرح - إضافة إلى فهم عبارة النفرى - تتمثل فى الكشف عن مذهب التلمسانى الصوفى ويعد (التلمسانى) حلقة هامة فى تطور الفكر الصوفى الذى ازدهر فى القرنين السادس والسابع الهجريين. بظهور ابن عربى ومدرسته، وفهم التلمسانى يلقى ضوءا جديدا على مدرسة ابن عربى. ورغم أهمية الرجل. وأهمية آرائه فى التراث الصوفى الفلسفى، فإنه لم يحظ بدراسة مستقلة تكشف عن حياته ونشأته ومذهبه الصوفى الفلسفى الذى يتسم إلى حد كبير بالأصالة والابتكار. والتلمسانى هو أبو الربيع عفيف الدين، سليمان، بن على، بن عبد الله بن على، بن يس. العابدى، الكومى التلمسانى، وهو معروف عند القدماء ب"العفيف التلمسانى". وحياة عفيف الدين فى مسقط رأسه بتلمسان. وفى رحاب خانقاه "سعيد السعداء" بالقاهرة، وفى خلواته المعروفة ببلاد الروم بشكل خاص لا تخرج إطلاقا عن نطاق التصوف والتجرد. أما المرحلة الختامية من حياته، فتختلف كل الاختلاف عن المراحل الثلاث السابقات، فنراه لأول مرة ينعم بلذات العيش وجمال الحياة فى منزله الذى أقامه فى ظاهر دمشق فى سفوح قاسيون، ومازال مكان قصره معروفا عند أهل دمشق ب "العفيف" وهو حى من أحيائها العامرة والآهلة الآن بالسكان.