في يوم ١٥ يونيو ١٩٥٢ تحقق حلم من أحلى أحلامنا.. عشنا نتمناه سنوات طويلة نتصوره فى خيالنا نرسمه على الورقة نعد له التجارب نختار له الاسماء مدة الحمل فى الطفل لا تتجاوز 9 أشهر، أما مدة الحمل في الجريدة فهي عمر طويل من المحاولات والاستعداد والتردد والإقدام والجهد والعرق في هذا اليوم أصدرنا العدد الاول من جريدة «الأخبار». ولعل كثيرين لا يعرفون كيف سميت هذه الجريدة «الأخبار» ولعلهم لا يعرفون أن رخصة «أخبار اليوم» في جريدة يومية وليست جريدة أسبوعية، وأنه عند إصدار أخبار اليوم كانت الفكرة أن تصدر أسبوعية مؤقتًا، ثم تصدر بعد ذلك كل يوم.. ولكن نجاح «أخبار اليوم» منذ العدد الاول من صدورها جعلنا نتردد في أن نغامر باسمها الضخم في مشروع جديد وبحثنا عن اسم جديد وفكرنا في اسم «آخر لحظة». وبدأت التجربة بصدور آخر لحظة كملحق لمجلة آخر ساعة وأثرت «آخر لحظة» يوم الاربعاء على توزيع الصحف اليومية كلها في ذلك اليوم، وشجعنا النجاح على أن نكرر التجربة فصدرت «آخر لحظة» يوم الإثنين من كل اسبوع، ثم صدرت يوم الجمعة، وكانت تصدر بنصف حجم أخبار اليوم، ونجحت آخر لحظة نجاحا مذهلا واحتلت الصف الاول بين الصحف اليومية ولهذا بدأ التفكير فى تحويلها إلى جريدة يومية. واختلفت اسرة «أخبار اليوم» فى حجم الجريدة الجديدة، فريق يرى ان تصدر بحجم اخر لحظة وفريق يرى ان تصدر بحجم اخبار اليوم، وجرى اقتراع بالتصويت فرأت الاغلبية ان تصدر الجريدة الجديدة بالحجم الكبير وبقيت مشكلة اسم الجريدة. كان فريق منا يرى ان يكون اسمها «آخر لحظة»، وفريق كان يرى ان يكون اسمها «أخبار النيل»، وفريق ثالث يريدها «الأخبار». وفريق رابع يريدها «أخبار اليوم» ثم عقد رؤساء تحرير الجريدة اجتماعا فى دار الاستاذ التابعى لتقرير الاسم وحضر الاجتماع الاساتذة توفيق دياب وزكى عبدالقادر وكامل الشناوى وجلال الحمامصى وعلي أمين وأنا. وكان يعجبنا جميعا اسم «أخبار اليوم» كجريدة يومية، ولكن فريقا منا كان يشفق ان نغامر بهذا الاسم فى مغامرة مجهولة لقد نجحت «أخبا اليوم» نجاحا ساحقا كجريدة اسبوعية اصبحت علما خفاقا فى كل بلد من بلاد العالم فكيف نجىء اليوم ونعرضها لهذه التجربة القاسية.. فقد تفشل الجريدة اليومية فتذهب وتأخذ معها الجريدة الاسبوعية الناجحة. واضطررنا ان نعدل عن اختيار اسم «أخبار اليوم» على الرغم من أن هذا الاسم لم يكن فى حاجة الى إعلان وعلى الرغم من انه كان يوفر علينا الوف الجنيهات التى انفقناها فى الدعاية للاسم الجديد.. وعلى الرغم من ان اصدار جريدة إخبار اليوم اليومية كان يوفر علينا ثلاثة ارباع الجهد الذى بذلناه لإنجاح المشروع الجديد!. ولكنه «الجبن» سيد الاخلاق.. هو الذى جعلنا نعدل عن الاستفادة من اسم «اخبار اليوم»، أو لعله «الحرص» كما قال آخرون هو الذى ارغمنا ان نتهيب المغامرة بمستقبل «اخباراليوم». ثم علمنا أننا لا نستطيع أن نحصل على اسم «الأخبار» لان ورثة المغفور له أمين الرافعى كانوا يملكونه، فرأى فريق منا أن نسمى الجريدة «الأخبار المصورة»، واختار فريق آخر «الأخبار الجديدة»، وأخذت الأصوات فقالت «الأخبار الجديدة» الأغلبية. وكانت الأخبار اول جريدة في العالم يرأس تحريرها 5 رؤساء تحرير فى وقت واحد هم: جلال الدين الحمامصي، وعلي أمين، وكامل الشناوي، ومحمد زكي عبد القادر، ومصطفى أمين، وكان المفروض ان ينضم الاستاذ توفيق دياب الى رؤساء التحرير ولكنه اعتذر فى ليلة صدور الجريدة. وقررنا ان نجعل استاذنا محمد التابعى مديرا للتحرير وتكريما له وكان موسى صبرى وعلى الجمال نائبين لرئيس التحرير. وعندما دارت المطبعة جعلنا أول نسخة من «الأخبار» في أيدينا، وتوهمنا بحكم الأمومة أننا نحمل أجمل طفل فى الدنيا تطبيقا للنظرية التى تقول: القرد فى عين امه غزال! ولكن غزالنا لم يعجب القراء، فقد كان شكل المولود الجديد مختلفا عن كل الصحف اليومية!. كان القارىء اعتاد ان يفطر فى الصباح طبق الفول المدمس وفوجىء بساندوتش! لم يعجب القراء هذا النوع من الصحافة الجديدة اعتبرنا ارتفاع سعر الملوخية اهم من تعيين وزير جديد للزراعة.. عاملنا متاعب الناس على انها اهم من حرب كوريا، وانهينا عصر التطويل واللت والعجن فى الصحافة المصرية، كنا اشبه بقوم يدعون الشعب الى خلع الجبة والقفطان وارتداء المايوة! وهبط العدد الثانى عن العدد الاول، فى العدد الاول كنا اوسع الصحف انتشارا، وفي العدد الثاني اصبحنا أقل الصحف انتشارا، ولم نيأس اجتهدنا وتعبنا وسهرنا وكافحنا وتحملنا الخسائر الفادحة. كنا نتحمل الضربات ونصمت للمطارق تنهال فوق رؤوسنا.. نجد متعة وهناء فى الكفاح والبناء، كنا فريقا واحدا من المحررين والموظفين والعمال، لا رئيس ولا مرؤوس، نفطر معا ونتغدى ونتعشى معا، ولا نذهب الى بيوتنا الا بضع ساعات كل يوم، لا عطلة ولا اجازة ولا تزويغ، كان شقاء لذيذا، لذة لا حصر لها. وبعد شهرين اثنين اصبحت «الأخبار» هى اوسع الصحف فى مصر انتشارا، وقفزت من المرتبة الثالثة الى المرتبة الأولي. وكانت «الأخبار» جريدة سعيدة الحظ، فبعد صدور العدد الاول منها بخمسة اسابيع فقط قامت الثورة، واذا بالجريدة الوليدة تصبح فى يوم وليلة اوسع الصحف اليومية فى الشرق الاوسط توزيعا، واستطاعت ان تحقق انتصارات ضخمة لعل من ابرزها انها كانت اول جريدة نشرت اسماءاعضاء مجلس الثورة، وانها اول جريدة اذاعت السر الخطير وهو ان ان اسم زعيم الثورة الحقيقى هو «جمال عبدالناصر». واذيع هذا السر لاول مرة فى سلسلة مقالات بدأتها بعد الثورة بعنوان «قصة التسعة» وأثارت اذاعة الاسرار ضجة كبري، وتقرر وقف المقالات العشرة، ولم يكن قد نشر منها سوى مقالين اثنين.. وكان المقال الثاني عن كيف عارض جمال عبدالناصر في إعدام فاروق وكيف اصر على ان تكون الثورة بيضاء لا تراق فيها نقطة دم. وذات يوم زارنا عبدالفتاح الرافعي، واقترحنا عليه ان نأخذ رخصة « الأخبار» من الورثة فرحب بالاقتراح وقال ان يهمه ان تعود «الأخبار» التى كان يصدرها اخوه العظيم وتصبح من جديد علما خفاقا!. وانتقلت لنا رخصة «الأخبار» وعرضنا الأمر على زملائنا المحررين فعارضوا أن نغير اسم «الأخبار الجديدة» بعد النجاح العظيم الذي نال الاسم. وتحايلنا على تنفيذ قرارنا.. فكانت كلمة «الجديدة» تتضاءل شيئا فشيئا تحت اسم «الأخبار» حتى اختفت فجأة.. وأصبح اسم الجريدة «الأخبار» فقط!، ولم ينتبه اغلب المحررين لهذا الذي حدث إلا بعد بضعة ايام! ونجحت الاخبار وأصبح اسمها على كل لسان. ولم يكن ما حدث معجزة.. وإنما الذى حدث اننا كنا نعيش في قصة حب، حب جريدتنا وحب وطننا وحب عملنا، وحب بعضنا، كلنا كنا رؤساء وكلنا كنا عمالا! كلنا كنا اباء الجريدة وأولادها! كل عامل وكل محرر وكل موظف وكل ساع وضع طوبة في البناء.. ووضعنا العرق والدم والدموع بين الطوب بدل الاسمنت المسلح!. ولم يكن الطريق سهلا.. ولكن الضربات التى انهالت على رأس الجريدة زادتها ثباتا وجعلت لها جذوراً! والعواصف والاعاصير التى هبت عليها منحتها قوة وصلابة وقدرة على مقاومة.. الفشل علمها النجاح والصدمات دربتها على الصبر، وكان اقوى ما فى «الأخبار» نها اسرة واحدة. كان العرق على جباهنا كأغلى الروائح العطرية وكان الحبر على اصابعنا جميلا كالمانيكير فى اصابع حسناء.. وكان صوت المطابع يغنى فى اذاننا كصوت ام كلثوم كنا نعمل فى طابقين ونشعر كأننا نعمل فى ناطحة سحاب.. كنا نذهب الى مكاتبنا وكأننا ذاهبون الى معبد لتأدية الصلاة! وكان الله معنا، واذا توقفنا دفعنا على الطريق واذا اظلمت الدنيا فى عيوننا اضاء لنا الطريق.. واذا تعثرنا مد لنا يده وساعدنا على الوقوف من جديد!. كنا لا نصدق اننا نجحنا.. ولهذا مكثنا سنوات نحتفل بعيد ميلاد «الأخبار» صباح كل يوم، فقد كنا نولد كل يوم فعلا!.