تحت عنوان " الشعب الذي يقول لا " كتب الأستاذ جلال الدين الحمامصي عن جماعة الأخوان المسلمين:" كلما قرأت الاعترافات التي يدلى بها المتهمون في قضايا الجهاز السرى للإخوان المسلمين أحسست بالإشفاق والألم، الإشفاق على مصر التي سعت طويلاً نحو الاستقرار، فلما أوشكت أن تحققه أبى فريق من أبنائها إلا أن يحيلوا هذا الاستقرار إلى فوضى، وخراب، ودمار سعيًا وراء حكم، وجريًا وراء سلطان" لقد كان الحمامصي في مقدمة عدد من الرواد الذين اقتحموا المجال الصحفي في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين وهم يحملون أفكاراً ورؤي شديدة الإختلاف عما كان سائداً آنذاك، وبفضل اقتحام هؤلاء الرواد استطاعت الصحافة المصرية الحديثة أن تحقق نقلة موضوعية في الشكل والمحتوي والهدف واللغة وتخلت رويداًعن الأسلوب الإنشائي والخطابي والبلاغي المجازي المسهب لصالح الأسلوب الخبري الموضوعي الموجز ولا يقف تفرد الحمامصي عند كونه أحد رواد الصحافة العظماء بل كان صاحب بل يمتد لكونه قلما جريئا خاض المعارك مدافعا عن الديمقراطية ونزاهة الحكموحقوق الانسان، وقد خاض هذه المعارك دون أن يهتز إيمانهأو تلين صلابته في الدفاع عن رأيه حتي لو كان هذا الرأي وحيدا ضد التيار، وخلال 60 عاما اقترب خلالها كثيراً من السلطة لم يكن عبداً لها بل كان مرتفع القامة عالي الجبهة رفضا الانحناء لحاكم ولا لسلطان إلا لسلطان الحقيقة وحدها وسلطان الحرية والديمقراطية مما جلب عليه غضب أولي الأمروبطش فكان مثلا الصحفي المصري الوحيد الذي تم فصله بقرار مكتوب من الزعيمعبدالناصرواعتقل في31 ديسمبر1960 وقد اتخذ هذا الإجراءكمال الدين رفعت الذي كان مشرفا علي أخبار اليوم في ذلك الوقت، وتم إعفاءالحمامصي من عمله بمؤسسة أخبار اليوم ويسألون الحمامصي لماذا؟! فتأتي إجابته: لأنني حاربت الفساد في عهد عبدالناصر. ومع السادات أيضا كانت للحمامصي حكاية، ففي6 يناير1946 أطلق حسين توفيق الرصاص علي أمين عثمان وكان السادات من المتهمين في هذه القضيةولكي يكون بعيداعن مسرح الأحداث توجه يومها لزيارة جلال الحمامصي,وفي التحقيق شهد الحمامصي بذلك وكانت شهادته أبلغ مبرر لبراءة السادات من الاتهامورغم هذا فإن الحمامصي فيأخريات عهد السادات كانممنوعا من الكتابة وكان حينما يكتب كان موسي صبري يقوم بدور مقص الرقيب السياسي في مقالات الحمامصي تدخلفىبالحذف منها مايغضب النظام الحاكمولما تولى محمود أمين رئاسة أخبار اليوم، وعاد محمد حسنين هيكل إلى الأهرام خيره بين العودة إلى الجامعة الأمريكية أو الأهرام، فوافق على العودة إلىالأهرام، مؤسساتحريرى،لقسم الدراسات الصحفيةإلي أن عاد مجددا إلىأخبار اليوم؛ ليكتب عموده الشهير "دخان فى الهواء" ويصطدم في واحد من هذه المقالات مع مع رئيس الوزراء الدكتور عبدالعزيز حجازي حول مياه الحنفيات التي تنزل علي وجوه الناس طينا كما اصطدم مع حافظ بدوي رئيس مجلس الشعببسبب أحد القصور فقال له حافظ بدوي: لا تنسي أنني الرجل الثاني في مصر ونسي الرجل الثاني أن الصحفي المقاتل اختلف مع الرجل الأول عبدالناصر ومع الرجل الأول السادات وكشف الحمامصي مبكرا قضية الفساد في شركة هيديكو لصاحبتها هدي عبدالمنعم التي هربت من مصروكتب متسائلا عن كيفية هروبها ومن ساعدها وضرب مثلا بأن جاسوسا سويسريا هرب من سجنه فاستقال وزير العدل في سويسرا لأنه المسئول عن السجون أما عن سيرته فتقول أنه في دمياط عام 1913، وتخرج في كلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول " القاهرة " قسم العمارة عام 1939 وعرف الطريق الي بلاط صاحبة الجلالة منذ كان طالباً بالمدارس الثانوية حيث بدأ عام 1929 العمل هاوياً بجريدة كوكب الشرق كمحرر رياضي وفي عام 36 قام بأول رحلة صحفية وكان لا يزال طالباً بالجامعة حيث اختارته مجلة روز اليوسف عندما كان التابعي رئيساً لتحريرها ليغطي زيارة لزعيم حزب الوفد خارج البلاد، وكان فكري أباظة رئيس تحرير المصور ضمن الوفد، وبعد عودته طلب منه فكري أباظة العمل في دار الهلال كمحرر للرياضة وشئون الجامعات بمرتب عشرة جنيهات، وبعد عامين أصبح محررا بجريدة المصري ثم سكرتيراً للتحرير عام 1939وهو العام الذي تخرج فيه من الجامعة وخلال عمله بالمصري كان أول سكرتير تحرير في مصر يطبق الفن الهندسي في إخراج صفحات الجريدة فيجعل الصفحة 8 أعمدة بدلاً من 7، وبذلك أدخل الرقم المزدوج في عدد انهر الصفحات بالصحف المصرية كالمتبع في صحف العالم ثم ترك جريدة المصري في 1942 وخرج من الوفد مع مكرم عبيد واشترك معه في وضع الكتاب الأسود الذي تضمن فضائح زعماء الوفد وكان الحمامصي قد انتخب عضوا بمجلس النواب عن الكتلة الوفدية في 1942 وتم إسقاط عضويته لعدم استكماله السن القانونية للعضوية بالمجلس " 30 سنة "،ثم اعتقل بعد عام واحد والتقي في السجن بالرئيس أنور السادات والصحفي الكبير موسي صبري وخرج من المعتقل بعد عام ليعمل مديرا لتحرير جريدة الكتلة في العام ذاته 1944 ثم ترك حزب الكتلة والجريدة بعد عامين عندما رأي مكرم عبيد يتقرب الي النحاس ثم أنشا صحيفة الأسبوع في 1946 واستمرت سبعة أشهر فقط بعد تعرضها لخسائر مالية كبيرة وعمل في العام التالي رئيساً لتحرير جريدة الزمان واستمر رئيساً لتحريرها حتي عام 1950 وفي العام ذاته انضم إلي دار أخبار اليوم وعندا صدرت الأخبار في 1952 كان أحد رؤساء تحريرها ثم ترك الأخبار وعمل نائباً للمدير العام " أنور السادات " في صحيفة الجمهورية في 1954 وبعد عام واحد كلفه عبد الناصر بإنشاء وكالة أنباء مصرية 100% وهي وكالة أنباء الشرق الأوسط علي النمط الأوربي وكان أول مدير لها عند إنشائها عام 1956 ثم عاد رئيساً لتحرير الأخبار في 1959 ثم أبعد وعمل أستاذا للصحافة بالجامعة الأمريكية وأنشأ مركزا للتدريب الصحفي بالأهرام في 1968 كما شارك في إنشاء معهد الإعلام بجامعة القاهرة عام 71 وأصدر صحيفة صوت الجامعة التي تخرج فيها كثير من الأقلام الصحفية في مصر والعالم العربي، وعاد رئيسا لتحرير الأخبار عام 74 حتي عام 76 وأثناء عمل الحمامصي بوكالة انباء الشرق الأوسط علم برغبة عبد الناصر في تعيين كمال الدين الحناوي مديراً عام للوكالة ورفض الحمامصي هذا التعيين قائلاً " ان هذا التعيين سيهد كل اللي بنيناه وانا ضد اشتراك أي عسكري في عمل مدني " مش بتاعه حتي ولو كان بتاعه " وتقول عنه شريكة حياته ابنة عبدالحميد سليمان باشا ووالدتها كريمة إسماعيل باشا سري وشقيقة حسين باشا سري الزوجة التي كانت تكتب مقالاتها في مجلات دار الهلال تحت اسم مستعار نوال والتي أنجبت له ثلاثة أبناء: محمد كامل عام1950 وفاطمة1952 وقسمت 1954 : " أنه كان صريحا واضحا وهادئا وعاشقا للصحافة، كما أنه عاطفي وإن كان لا يعتني بإظهار عواطفه ويقرأ كثيرا ويصوم ويصلي ويحترم مواعيده حتي أنهم في عمله يضبطون ساعاتهم علي حضوره وانصرافه، وكان يلتقي علي كوبري قصر النيل في التوقيت المحدد مع رجل الساعة الآخر نجيب محفوظ فكلاهما حدد ساعته لرياضة المشي فيلتقيان كل صباح عند نقطة منتصف الكوبري بالضبط ويلتقيان أيضا كل صباح علي صفحات الأخبار عندما يقرأ نجيب للحمامصي مقاله اليومي دخان في الهواء ومما قاله الحمامصي عن نجيب محفوظ : لقد تابعني الأستاذ نجيب في معركتي مع البنك العربي الإفريقي الدولي عندما كنت أقول إن رئيس البنك أساء إلي اقتصاد مصر وأنه يجب أن يخرج وعندما حققت حملتي أهدافها وخرج قابلني نجيب محفوظ في هذه المرة في نقطة منتصف الكوبري ولم يتكلم إنما رفع أصبعه إلي السماء مشيرا إلي أن هذه إرادة الله وتروى زوجته عن لحظاته الأخيرة فى الحياه : " لقد حاولت أن أثنيه عن موعد مشواره الأخير، لقد فرغ من غدائه وآن وقت المشي في نادي الجزيرة وتلح ويصمم, فتصحبه إلي منتداه وممشاه, حيث اعتاد أن يسارع إلي هناك كل يوم متريضا ومتأملا, وبينما يسيران ويتحدثان وتفاجئه الأزمة ويقول الحمامصى عن أسرته : " والدي كان شاعرا وأديبا ومستشارا لأحمد شوقي الذي كانت بيننا معه صلة قرابة ونسب، خالي متزوج ابنته، وما من قصيدة أو مسرحية شعرية كتبها شوقي إلا وقرأها علي مستشاره اللغوي كامل الحمامصي، أبي، وكان شوقي كمثال لا يشاهد مسرحيته مجنون ليلي إلا وبجواره أبي فإذا أراد أن يغير كلمة في بيت من الشعر فإنه لا يبدي رأيه للمخرج عزيز عيد أو أحمد علام وفاطمة رشدي قبل أن يقر أبي هذا التغيير.. أنطون الجميل باشا رئيس تحرير جريدة الأهرام كانت له جلسات في مكتبه يحضرها الوزراء والأدباء والشعراء فكانوا إذا اختلفوا في شيء أو بشأن تفسير كلمة يلجأون لوالدي أو يطلبونه بالتليفون ليسألوه رأيه كما كان ارتباطي بأمي مختلفا وكانت أشد من والدي تخاف أن تأخذني الصحافة عن دراستي بل كانت مصرة علي امتناعي عن العمل الصحفي تماما، عادتي في الكتابة مع الصباح أن أعمل فنجان قهوة وأخرج أمشي وخلال المشي تتكون خطوط الموضوع وتطرأ جملة أو فكرة فأدونها في ورقة أحملها في جيبي، وعندما أصدرت كتاب حوار وراء الأسوار ناصبني الناصريون العداء بصورة مفزعة متصورين أن السادات هو من أوحي لي بالكتاب, وهذا غير صحيح ولعله كان دافعا له لمهاجمتي في مجلس الشعب, وعندما بدأت أكتب في عهد الرئيس السادات ضده آمنوا بأنني أكتب بوحي من ضميري وما أؤمن به فإذا ما كانوا أعداء فهم أعداء رأي، إن من طبعي ألا أقترب من الزعامة لأنها تحرمني من حريتي في أن أنتقد ما أشاء وأضرب مثالا علي ذلك أنني كنت من أقرب الصحفيين لعبدالناصر وكنت أحبه جدا وهو الذي اختارني لرئاسة تحرير الجمهورية وإنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط وعندما تقترب من شخص تحبه يجب أن تخلص له النصيحة وكان ناصر يستمع لي في البداية ثم تحول إلي شخص آخر ينفر من هذه النصيحة ويضيق بها نعم كانت لي قصة حب وأنا لم أزل طالبا في كلية الهندسة, وهل هناك إنسان ليس له قصة حب، كان هدفي أن أقيم حياة زوجية, وصحيح هناك القول بأن الصحفي يتزوج الصحافة لكن إذا جاءت من تقبل أن تكون لها ضرة فلا مانع, والإنسان إذا وقع في الحب لا تسأله لماذا أحب؟, ووقتها واجهتني أزمة شديدة فقد دخلت معترك الحياة السياسية والصحفية, وهذا مما يقودني إلي المعتقل والحبس مسوقا للمجهول, ومن هنا حكمت صوت العقل وضغطت علي قلبي وعواطفي فما ذنب تلك الإنسانة التي سأتزوجها, ومعظم أوقاتي في الحبس لقد أصدر الحمامصي عدداً من المؤلفات منها" صحافتنا بين الأمس واليوم "، " نزاهة الحكم "، " معركة الجلاء "، " ماذا في السودان"، " معركة تأميم قناة السويس "، " من القاتل"، " القربة المقطوعة "، " أسوار حول الحوار" فضلا عن عددً من الدراسات الصحفية الهامة التي تبوأت مكانة أكاديمية رفيعة في مختلف المعاهد وكليات الإعلام بمصر والعالم العربي من بينها " المخبر الصحفي "، " المندوب الصحفي"، " صالة التحرير"، " الأخبار في الراديو والتليفزيون"، " وكالات الأنباء"، " الإدارة في الصحف"، " من الخبر الي الموضوع الصحفي "، " الصحيفة المثاليةوقد توفي الحمامصي فى العشرين من يناير 1988