من غرائب الزمن العجيب الذي نعيشه ان تحتفل جريدة الجمهورية بمرور 60 سنة علي صدورها.. دون ان تشير بكلمة واحدة لاسم مؤسسها.. وممولها.. واول رئيس لتحريرها.. والرجل الذي جسد الكرامة لكل من يحمل صفة »صحفي«! سقط من الاحتفال اسم حسين فهمي مؤسس صحافة ثورة يوليو 2591.. وأول نقيب للصحفيين بعد الثورة.. وهو الصحفي الذي ولدت جريدة »الجمهورية« في منزله بعمارة عمرو بالجيزة.. حيث كان يجتمع مع اقرب مساعديه.. وحيث كان يذهب اليه جمال عبدالناصر حاملا بعض الصحف العربية والاجنبية ويستمع منه لتفاصيل ما تم انجازه.. ويناقش معه مقترحات الاعداد والاخراج.. واسماء الكتاب.. كي تكون صحافة الثورة التي تعبر عنها صحيفة »الجمهورية«.. مختلفة عن المدارس الصحفية السائدة في تلك الأيام. وأود في هذه السطور ان اكشف سرا.. وهو ان حسين فهمي.. هو الذي مول وانفق علي جريدة الجمهورية في البدايات الاولي.. من ماله الخاص.. ولم تدفع الدولة مليما واحدا.. لاصدار جريدة الجمهورية ولذلك حكاية تستحق الرواية: عندما اندلعت ثورة يوليو 2591 المجيدة.. كان حسين فهمي يرأس تحرير جريدة »الزمان« التي كان يملكها ادجار جلاد باشا.. احد نجوم العصر الملكي.. وكان يشغل موقع سكرتير التحرير الاستاذ جلال الحمامصي.. ويساعده الاستاذ موسي صبري.. كان حسين فهمي يعرف جمال عبدالناصر.. منذ سنة 5391 عندما التحق عبدالناصر بكلية الحقوق.. وتوطدت العلاقة بعد الثورة.. وباتت المكاشفة والمصارحة والندية.. هي الطابع المميز للعلاقة بينهما.. كان جمال عبدالناصر.. يتردد كثيرا علي حسين فهمي في منزله بالجيزة.. في اجواء من الثقة والمصارحة.. كشفت عن نوايا بعض الخبثاء للاطاحة بمصطفي وعلي امين واحسان عبدالقدوس.. وغيرهم كي يحلو محلهم ويشغلوا مواقعهم الرفيعة في الصحافة المصرية! في احدي هذه الجلسات.. وتحت تأثير ما كان ينقل اليه من اكاذيب.. طرح عبدالناصر فكرة تطهير الصحافة »!!!«. والاطاحة بأسماء يعتذر كاتب هذه السطور عن ذكرها.. وقال عبدالناصر في تبرير التطهير.. انهم يهاجمون الثورة في جلساتهم الخاصة! وفهم حسين فهمي عمق الدسائس.. التي احمل مستنداتها بخط جمال عبدالناصر.. وقال وفقا لما رواه لي الراحل حسين فهمي انه قال لجمال عبدالناصر.. ان اصحاب هذه الاسماء هم نجوم الصحافة في مصر.. وليس من مصلحة الثورة الاطاحة بهم كي يجلس فوق مقاعدهم اناس.. ليسوا في قامتهم ولا في شعبيتهم بين الناس. وهنا تساءل جمال عبدالناصر: - طب.. هنعمل ايه.. هانسيبهم كده.. واشار الي اسم شاعر كبير.. قال انه يهاجم الثورة كل ليلة من فندق هيلتون. قال حسين فهمي: - الحل ان الثورة تعمل صحافتها! بدت علامات الاستفهام علي وجه جمال عبدالناصر.. واستطرد حسين فهمي قائلا: - الثورة تصدر صحفها التي تتحدث بلسانها.. ونترك الصحافة القديمة بنجومها وكتابها.. ونختار من بين هؤلاء الكتاب من يصلح لنشر انتاجه بصحف الثورة!.. وقال حسين فهمي لعبدالناصر: سأحل هذه المشكلة! وتوجه حسين فهمي الي ادجار جلاد باشا.. واقترح عليه ان يشتري منه المطبعة التي كانت تطبع جريدة »الزمان«.. و»الجورنال ديجيبت« وان يسمح له بطبع صحفه بالمجان لمدة خمس سنوات. ووافق ادجار جلاد باشا.. وباع حسين فهمي الارض الزراعية التي ورثها عن والده.. وما استطاع بيعه من اراضي والدته امينة هانم ابنة برهان باشا نور.. ودفع لادجار جلاد المبلغ الذي تم الاتفاق عليه! وصدرت جريدة »الجمهورية« في ديسمبر 3591.. وحققت نقلة مهنية في عالم الصحافة.. سواء من حيث الاخراج.. او المحتوي.. أو صفحات الرأي.. وحمل الترخيص اسم جمال عبدالناصر. وبعد صدور الجمهورية باكثر من عام.. تم الاتفاق بين جمال عبدالناصر وحسين فهمي علي تعيين انور السادات.. عضو مجلس قيادة الثورة.. بجريدة الجمهورية.. فعينه حسين فهمي في منصب المدير العام.. وكان الشرط الاساسي.. هو عدم التدخل في شئون التحرير. ودارت الايام.. وجاءت الرياح بما لا يشتهي السفن.. وكتب السادات مقالا بعنوان »الصاغ الاحمر« هاجم فيه عضو مجلس قيادة الثورة خالد محيي الدين.. ورفض حسين فهمي ارساله الي المطبعة.. وتوجه به لمكتب السادات لاقناعه بعدم نشر الاخبار والمقالات التي تثير الخلافات داخل مجلس قيادة الثورة.. وانه ليس من المصلحة في الظروف الحالية نشر الغسيل القذر علي الرأي العام. اعترض السادات.. علي ان المقال لم يرسل مباشرة للمطبعة.. وقال »انا مقالاتي تنزل من عندي للمطبعة.. ماتروحش لرئيس التحرير«. اختصار الكلام.. احتدم الخلاف وقال السادات للرئيس عبدالناصر »حسين فهمي ضربني في مكتبي و....و....« وقال حسين فهمي لعبدالناصر في لقاء لاحق انه لم يضربه ولكن البللورة التي يضعها فوق مكتبه هي التي كسرت عندما ضربها بقبضة يده.. وترك حسين فهمي جريدة الجمهورية التي اسسها بماله الخاص.. واقترح عليه جمال عبدالناصر تأسيس صحيفة أخري تطبع بمطبعة جريدة المصري بشارع القصر العيني.. وكانت جريدة الشعب.. التي صدرت عملاقة.. الا ان اخطاء الجمهورية تكررت مرة أخري مع صلاح سالم الذي كان قد عين هو الآخر في منصب المدير العام بجريدة الشعب بسبب مقال كتبه اثناء العدوان الثلاثي بعنوان »لماذا فشلنا في الدفاع عن السويس؟«.. وتكررت المأساة.. والصدام.. وقرر حسين فهمي اعتزال الصحافة.. وظل بلا عمل لسنوات.. وسنوات الي ان اصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراره بتعيين حسين فهمي رئيسا لتحرير جريدة الأخبار سنة 1691. في جريدة الأخبار.. وقع الصدام الحاسم عندما صدر قرار في يناير سنة 5691 موقعا من الرئيس جمال عبدالناصر بنقل 53 صحفيا من جريدة الجمهورية للعمل في مؤسسات القطاع العام.. ودارت في تلك الايام معركة.. لايكاد يصدقها العقل.. بين حسين فهمي.. وبين السلطات صاحبة الحل في البلد.. كان حسين فهمي يدعو لعدم استلام الصحفيين لاعمالهم في شركات القطاع العام.. في الوقت الذي تصر فيه القيادة السياسية علي ان يتسلموا عملهم اولا.. ثم نعيدهم بعد ذلك الواحد تلو الآخر.. وان الرئيس عبدالناصر غير موافق علي اعادتهم للصحف دفعة واحدة. حكاية طويلة سوف اتناولها.. بمستنداتها في مناسبة أخري من اجل احياء تاريخنا الذي يضم المئات من الشرفاء الذين يسقطون من تاريخنا.. لاسباب لا نعرفها.. وتناستهم صاحبة الجلالة.