قال أنور السادات: صباح يوم السبت 4 يوليو عام 1953. أي بعد عام من قيام الثورة. إني أذكر ما حدث في ذلك اليوم تماما. وكنت قد ذهبت إلي مستشفي الدكتور مظهر. حيث كان جمال عبدالناصر هناك بعد أن أجريت له عملية المصران الأعور.. وجلست إلي جوار جمال وهو متمدد في فراشه وبدأنا نتحدث في موضوع الصحافة. وبالتحديد تحدثنا عن صحافة الثورة!.. وقال لي جمال: إن "الثورة" يجب أن يكون لها صحافتها.. والواقع أن مسألة "صحافة الثورة" سبق أن شغلت أذهاننا جميعاً وكان جمال أكثرنا اهتماما بالمسألة. وفي ذلك اليوم. هناك في مستشفي الدكتور مظهر. كان جمال يعد لي مفاجأة.. فقد قال لي بعد أن تحدث عن ضرورة إصدار جريدة يومية. إيه رأيك. المسألة دي عايز أحطها في رقبتك!.. وقلت علي الفور: إستني عليه شويه لما أفكر. خرجت لأفكر وخرجت يومها من مستشفي الدكتور مظهر لأفكر. ومرت ساعات.. وكلما فكرت كبرت المسألة في نظري أكثر. وتعقدت وظهرت مشكلة كبري جديدة ماذا أستطيع أن أصنع؟! إن المسألة ليست هينه علي الإطلاق. فإصدار جريدة يومية يتطلب استعداد ضخماً. ولم أكن أري أمامي في تلك الأيام أملاً واحداً يجعلني أبدأ في إعداد "الجهاز" الضخم الذي نريده ليلعب دوره في ثورة الشعب. ولم تكن تحت يدي أيه إمكانيات لإصدار الجريدة اليومية. فقد كنت أعمل صحفياً في فترة ما من حياتي. كنت محرراً في دار الهلال. وعرفت من تجربتي تلك كيف تصدر الصحف الأسبوعية أما اليومية فمصيبتها أكبر!! جهاز الجريدة اليومية وجلست ذات يوم أتصور "الأجهزة" التي لابد من وجودها والاطمئنان إليها لتتحول في النهاية إلي "جهاز" واحد كبير.. إلي جريدة يومية. تصدر كلما أشرقت شمس يوم جديد.. وتلك الأجهزة هي: المطابع وعمالها. وأسرة التحرير. والإدارة.. والمشكلة الكبري "التوزيع" فلابد من تنظيم عملية التوزيع حتي يمكن أن تصل "الجريدة" إلي أيدي أفراد الشعب ثم المشكلة الأكبر خطورة الإعلانات والجريدة أيه جريدة تعتمد أساساً علي الإعلانات لكي يمكنها ان تصدر بصفة مستمرة!!.. العملية كلها تحتاج إلي هذه الأجهزة. حتي يمكننا أن نقف علي أقدامنا. قلت له: "مستحيل".. ومر يومان.. وتعقدت المسألة أكثر في ذهني.. وذهبت إلي جمال عبدالناصر في يوم 6 يوليو.. وجلست لأقول له بكل صراحة. مستحيل.. لا يمكننا إصدار جريدة يومية.. المسألة معقدة جداً.. وعايزة وقت طويل. وعايزه أخصائيين.. ولازم أخصائيين.. وحتي لو وجدناهم فالمسألة ستكون مجازفة!.. ونظر إلي جمال وهو صامت.. وسحب نفسين من سيجارته ثم قال لي: أمال احنا عملنا "الثورة" ازاي؟!. وساد الصمت لحظة.. ثم مضي يقول: الثورة لازم يكون لها صحافتها.. والجرنال لازم يطلع قبل آخر السنة دي!!.. ومرة ثانية خيم الصمت علينا. ثم عاد صوت جمال يرن في أذني.. ووجدت نفسي أقول له: خلاص.. أنا اقتنعت!!.. الفرق بين الصحافة الأسبوعية واليومية وابتدأت المعركة فعلاً بعد خروجي من مستشفي الدكتور "مظهر". كان علي أن أبدأ "فوراً" في إعداد "الجهاز الكبير" وأول شئ خطر علي بالي في تلك اللحظة هو الاتصال بالصحفيين.. وهم زملائي جميعاً.. وذهبت أولاً إلي دار الهلال. إلي المكان الذي اشتغلت فيه كصحفي في فترة ما من حياتي. وخرجت من دار الهلال لتبدأ عملية "لف" علي الصحفيين. وأسمع دروساً في الإدارة والتوزيع وفي الحفر. وفي الإعلانات. وكل نصيحة كانت مغلفة دائماً بغطاء براق من الإخلاص الشديد!!.. وكان أول شيء يجب أن يتم هو إيجاد مكان للجريدة. وفي أول أغسطس استأجرت شقتين في عمارة جديدة بشارع شريف. فرشت الشقتين كالعادة في 24 ساعة!. وفي ذلك المكان بدأت أعمل في إعداد "الجهاز الكبير".. كنت أذهب إلي شارع شريف في الصباح والمساء.. وأجلس مع من تيسر لنا من المحررين وأولهم حسين فهمي.ونتناقش ونطرح أمامنا المشاكل التي تعترض سبيلنا لنذللها. وبعد أيام بدأت في تكوين جهاز الإدارة. مفاجأة في شارع شريف وفي شارع شريف حيث كنا نعمل اكتشفت أن جريدة "القاهرة" تحتل دوراً بأكمله في نفس العمارة التي استأجرت فيها الشقتين وكنت قد سمعت أن "القاهرة" ستصدر يومية.. أي مثل "الجمهورية"!!.. وفي كل يوم أصعد إلي الدور الخامس حيث المكان الذي نعد فيه "الجمهورية" فأري أفواجاً من الصحفيين تتجه إلي الدور الثاني من العمارة.. حيث توجد "القاهرة" وأنا ليس معي سوي بضعة أفراد من الزملاء الصحفيين.. وزيادة علي هذا فقد سمعت أن "القاهرة" تستعد للصدور منذ عام.. فماذا يمكنني أن أصنع.. وجمال يريد جريدة يومية واسعة الانتشار في أيام!!.. وانتابني "الغم" فعلاً. وشعرت أن المعركة ستكون أكبر مما أتصور.. وأشد!.. كل واحد يطعن في الآخر وجاءت عملية ترشيح المحررين.. وكانت مأساة!!.. فكلما رشح البعض أسماء معينة. أبدأ في السؤال عن أصحابها. فأسمع بعد السؤال طعناً شديداً في أصحاب تلك الأسماء!!.. المسألة كانت محنة أخلاقية تمر بها صاحبة الجلالة!.. ولم أكن أدري في تلك الأيام.. هل المسألة هي أننا نكره الخير لبعضنا. أم المسألة أعمق من هذا؟!. علي أي حال لقد استمعت إلي آراء كثيرة في أناس كثيرين ولم تكن كلها صحيحة أو لوجه الله!!.. قالوا لي وانتهت معركة "المحررين".. بعد أن امتلأت رأسي بالآراء!. وجاء دور الأقسام.. قالوا لي: إن الجريدة اليومية يتحتم وجود أقسام فيها.. قسم للأخبار. وقسم للمراجعة. وقسم للترجمة. وقسم للتصوير. وقسم للأدب. وقسم للسكرتارية. وقسم فني. وقسم للمتنوعات. وقسم للأقاليم.. وللمراسلين في الخارج.. كانت المسألة بالنسبة لي تجربة ضخمة لم أتخيل أبداً أنني سأمر بها في يوم من الأيام!. وبدأت أعد إحصائيات عن كل شيء. وأفتح فمي أكثر وأكثر.. وتبتلعني الدوامة.. ولكني كنت قد اعتبرتها معركة!. وانتهت مسألة الأقسام.. وبدأوا يقولون لي: القسم الفلاني عايز. والثاني يريد. والثالث مطلوب له كتب.. وأغوص في الدوامة أكثر.. ويجتاحني الإرهاق. لكنها كانت معركة!. طريق طويل وبالرغم من تلك الجهود الجبارة التي بذلناها في الأيام الأولي. حتي بدأت بعض الأجهزة تتكون.. أقول بالرغم من هذا فقد كان الطريق يبدو أمامنا طويلاً للغاية ومليئاً بالصخور!. كنا كلما بدأنا في إحدي العمليات تبرز لنا أكثر من مشكلة وكان عددنا يزيد يوماً بعد يوم.. وكانت المعركة تبعاً لذلك تكبر وتتشعب.. وتتضاعف الصعاب!. وأتذكر الوعد الذي قطعته علي نفسي أمام جمال.. وأتذكر قوله لي: إن الجريدة يجب أن تظهر في "السوق" قبل نهاية العام.. أي بعد أشهر!.. وتنتابني الحيرة ثم تشدني الدوامة فأغوص فيها أكثر وأكثر.. لم أكن قد انتهيت من المسائل الكبري. لم أكن قد وجدت المطبعة وأجهزة الطبع والحفر والجمع. بل لم أكن قد وجدت "الدار" التي سيعمل تحت سقفها "الجهاز الكبير" الذي سيلعب دوره في ثورة الشعب!. لكني كنت قد اعتبرتها معركة.. والإنسان عندم يخوض إحدي المعارك يتجاهل كل الصعاب. ولا يبالي بها.. "الجمهورية" لن تصدر. وعثرنا علي "الدار" والمطبعة وعندما وقعنا عقد شراء دار "الزمان" بمطابعها من إدجار جلاد. كنت أظن أن المسألة قد انتهت. وسوف تصدر "الجمهورية" في أمان الله. قبل آخر السنة!.. ومن أجل هذا اطمأن قلبي.. وكنت قد عرفت أن جريدة "أخبار اليوم" وبعض الصحف اليومية.. كانت تطبع في مطبعة "الزمان" كاملة ولا ينقصها شيء بالمرة. وإذن ف"الجمهورية" سوف تصل إلي أيدي الشعب.. لكن تبين لي بعد شراء دار "الزمان" ومطابعها أنه من المستحيل أن تطبع "الجمهورية" في دار "الزمان" وتصل إلي أيدي الشعب في الموعد المحدد كل صباح... والحكاية بالتحديد هي أن دار "الزمان" لم يكن فيها ماكينات جمع حروف "لينوتيب" عربي. تكفي لجمع مواد جريدة يومية.. وكانت "أخبار اليوم" لديها تلك الماكينات. فكانت موادها تجمع في دار "أخبار اليوم" وتطبع فقط عند جلاد!. وكان علينا أن نجد "ماكينات لينوتيب" و"إنترتيب" تجمع المواد باللغة العربية.. ولكي يتم هذا يتحتم علينا أن نتعاقد مع إحدي الشركات في الخارج. ثم ننتظر شهوراً عديدة حتي تصل الماكينات إلي مصر. أي أن "الجمهورية" لن تصدر كما وعدت جمال في آخر السنة.. وكنا في أواخر أغسطس.. وليس هذا فقط.. فقد اكتشفنا أن دار "الزمان" ليس فيها ورشة "حفر أكلاشيهات" وذلك يتطلب شراء ورشة جديدة في الحال. لكي تنتظم عملية الطبع. ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد اتضح أن "الدار" نفسها لا تتسع للمحررين وموظفي الإدارة والتوزيع.. فحجراتها ضيقة للغاية وقليلة.. وأصبحت الدوامة التي أغوص فيها أكثر اتساعاً وقوة. وأحسست أنني لن أكسب المعركة كما كنت أعتقد.. حد اليأس كانت المشكلة معقدة إلي حد اليأس. وصدور "الجمهورية" في آخر السنة أصبح أمراً مستحيلاً!. وفي كل مرة تجذبني "الدوامة" إلي قاعها كانت تحدث معجزة تخلصني من تلك "الدوامة".. ففي ذلك الوقت ونحن نتلفت هنا وهناك بحثاً عن حل للمأساة. تذكرت جريدة "الأساس" التي كانت تصدر في العهد الماضي. وتذكرت أن لديها ماكينات جمع "لينوتيب" في حالة جيدة للغاية. فالجريدة لم تكن واسعة الانتشار ولم تستهلك أجهزتها العديدة لأنها لم تعش أعواماً كثيرة أيضا!. وكان ما توقعت.. ذهبنا إلي دار "الأساس" وكان محجوزاً عليها. ورأينا الماكينات الجديدة التي لم تستعمل. واكتشفنا وجود ورشة "حفر" في حالة جيدة.. واشترينا كل شيء.. حتي مكاتب المحررين.. كنت كمن وجد "كنزاً" ولم أكن أشتري الشيء الذي أحتاج إليه فقط. بل كنت أشتري أي شيء في "الأساس" باعتبار أنني سأحتاج إليه في المستقبل. وتنفست في ارتياح شديد لأول مرة منذ وضع جمال في رقبتي "حكاية" صحافة الثورة.. ثم فجأة ظهرت مسألة أخري.. مأساة أقصد. نحن.. وغيرنا!! وتخلصنا من مسألة العواطف.. وبدأنا نستعرض "الماكينات" لنبدأ التجارب.. كان الوقت يمضي بسرعة. وكنا في وضع يختلف في كل شء عن وضع أي ناس يريدون إصدار حريدة يومية.. كان وضعنا يحتم علينا أن نعد إلي جانب الإمكانيات المطلوبة لكل جريدة يومية رأياً قوياً يتفق مع أهداف ثورتنا.. فقد ينجح صحفي لأنه بارع في"الفبركة" والإثارة ومخاطبة غرائز الجماهير. وقد ينجح صحفي آخر لأنة يسبق دائماً في نشر الأخبار.. وقد ينجح صحفي ثالث لأنة يجيد التلاعب بالألفاظ.. أما نحن فكان علينا أن نكون"ثواراً" لا صحفيين فقط!. كان علينا أن ننشر الحقائق لا الأوهام.. كان علينا أن نقول في كل صباح للشعب حقيقة جديدة. كانت خافية عليه بحكم وضع "الصحافة" في العهود التي مضت!. كان علينا أن نقف إلي جوار الأحرار في مصر وفي خارج مصر.. كان علينا أن ندعو إلي ما نؤمن به.. إلي حرية كل الشعوب. وحقوق كل الشعوب. وأمن كل الشعوب.. كان علينا أن نثور علي صفحات "الجمهورية" مثلما ثرنا في الميادين الأخري!. وإلي الهند الصينية أوفدنا مندوباً عن "الجمهورية" وكان أول صحفي مصري يصل تلك البلاد البعيدة.. حيث المعركة كانت في عنفوانها. بين شعب الهند الصينية وبين المستعمرين.. وأوفدنا مندوباً إلي إلمانيا الشرقية والغربية. ومندوباً إلي تونس ومندوباً إلي يوغوسلافيا وكنا نريد أن نبعث بمندوبين إلي كل مكان في الدنيا.. ثم رأينا أن نتفق مع الزعيم "اليساري" الانجليزي "أنورين بيفان" لكي يكتب خصيصاً ل"الجمهورية".. ورأي بيفان يتفق مع رأي الأحرار في مصر وفي خارج مصر.. ووافق أنورين بيفان.. وكان نصراً صحفياً سبقت به الجمهورية كل صحف الشرق.. جمال لا تعجبه البروفات وأطل علينا الشهر الأخير.. شهر ديسمبر حيث كان لابد ل"الجمهورية" أن تصدر كما وعدت جمال.. أن أروع فترة مرت بي كانت تلك الفتره الأخيرة ما في ذلك شك.. فالبروفات بدأنا نعدها.. وكنت أذهب إلي جمال عبدالناصر أحمل إليه تلك البروفات. وفي يقيني أنه سيأخذني في أحضانه مهنئاً. ولكن يفاجئني وأنا أضع "البروفات" أمامه بنظرات السخرية فهي لم تعجبه. وهو كان يتوقع أن تكون "الجمهورية" أحسن من تلك التي أمامه.. وعرفت حقيقة جديدة.. أن الإنسان الذي يعمل شيئاً لا يستطيع أن يحكم بنفسه علي عمله. والغير أقدر علي هذا الحكم.. وأخرج من عند جمال.. ثم أعود إليه أحمل "بروفات" جديدة أحسن.. ولا تعجبه أيضاً. فأخرج لأعود.. وهكذا.. صفحة باللغة الفرنسية كانت "الأقتراحات" كثيرة جداً.. والذين تطوعوا بتقديم اقتراحاتهم لا حصر لهم.. ومن أعجب تلك الأقتراحات. ما قدمه لنا"أحدهم".. فقد أعد "ماكيت" ل"الجمهورية" الصفحة الأخيرة فيه باللغة الفرنسية!!.. واقتراحات أخري أعجب!!.. وقضينا عشرين يوماً في عمل البروفات حتي وصلنا في النهاية إلي "الشكل" الذي نريده.. وجاءت اللحظة الحاسمة.. الحظات التي ستخرج فيها "الجمهورية" من خلف جدران ذلك المبني الأبيض القائم في شارع الصحافة إلي أيدي الشعب في الشمال والجنوب.. "أنور السادات" * وهكذا يختتم أنور السادات. رحمه الله. قصة اصدار "الجمهورية".. متحدثاً عن معركة بدأت مع اصدارها.. ولا يعرف متي تنتهي.. وهي بحق معركة لن تنتهي أبداً.. لأنها مستمرة يومياً.. بلا توقف.. وهي نضال يستمر مدي الحياة.. تواصله الأجيال جيلاً بعد جيلاً.. ويسلم كل جيل شعلته إلي جيل آخر يليه.. ليحافظ علي الشعلة متقدة.. ولن تنطفي هذه الشعلة أبداً.. مهما حدث.. بعون الله..