مات محمد البوعزيزي في الرابع من يناير كانون الثاني 1102 هذا ما تقوله الشاهدة الرخامية الموضوعة علي قبره الريفي في فلاة يسرح فيها البصر الي ان يقف مجبرا علي سفوح جبل »قرعة نور« حيث تتعانق أشجار الزيتون والكاليبتوس فوق أسيجة من شوك الصبار الذي علم أهله الصبر، وإحتمال العطش لكنه حذرهم ضمنا بشوكه المحيط بالثمر الحلو من سرقة ما ليس لهم ومن التورط في تزوير تواريخ الموتي وفضائلهم لصالح الأحياء. وحسب روايات من صبروا علي الظلم أكثر من صبار حقولهم، فإن البوعزيزي لم يمت في التاريخ اعلاه إنما قبل ذلك بعدة أيام لكن كان المطلوب أن يبقي حيا علي الورق الي ان يصل »فخامة المخلوع« زين العابدين بن علي الي مستشفاه ليعوده كأب حنون للأمة ويعلن بالقرب من سريره المحاط بأعلي رعاية سامية أنه فهم مطالب الشعب، ويعود للعاصمة ليخطب مكررا فهمه: فهمتكم، لإهمتكم.. لكن هل فهمهم فعلا؟ والخطأ ليس في تاريخ موت البوعزيزي فحسب بل في اسمه أيضا، فعند القبر المزروع في فلاة التيه العربي والمغروس في الذاكرة العربية المشروخة، والذي جفت علي أسمنته المطلي بالابيض باقة زهر صغيرة أحضرها دبلوماسي ألماني أسمه الدكتور »هرست ولفرام كيريل« تكتشف أن اسم جالب النار المقدسة للربيع العربي كان طارق تيمنا بفاتح الاندلس الذي أحرق مراكبه عند شواطئ أسبانيا قاطعا خط الرجعة علي من يقرصه الخوف من المجهول في لحظات المواجهة الحاسمة. وقد يكون الاسم مركبا - محمد طارق مثلا - لكن الأسرة التي تحتفظ بقفص بلبله في منزل العائلة في تونس العاصمة التي حلت فيها بعد رحيل فقيدها تعرفه كطارق، وتحفظ تفاصيل اليوم الأخير في حياته كقصيدة مدرسية واجبة الحفظ والتكرار علي مسامع ضيوف تكاثروا بحثا عن سر ربما كان مخبأ في مكان ما في جيب أم هذا الشاب الذي تحول الي أسطوره عالمية نجحت في إقناع عمدة باريس بتسمية ساحة باسمه في أهم عواصم العالم، ولم تنجح في إقناع والي سيدي بوزيد حيث ولد واحترق بوضع طوبة عليها أسمه في المكان الذي أحرق فيه نفسه أمام الولاية. الساحة التي شهدت منشأ النار الثورية العربية ما تزال محتلة بنصب ذهبي للسابع من نوفمبر - تشرين الثاني التاريخ الذي خان فيه بن علي بورقيبة ليواصل بعدها خيانة أحلام الشعب التونسي عدة حقب انتهت قبل عام فقط في الرابع عشر من يناير - كانون الثاني الماضي فاتحة الطريق ثورات عربية بعضها نجح في القضاء علي مستبديه وبعضها ما يزال يقدم الشهداء يوميا كرما لعيون فاتنة اسمها حرية. وقبل أن أسأل عن تفاصيل اليوم الأخير في حياة سارق النار تعرف أخته الصغري بسمة أني قادم من سوريا، فتسارع الي القول وكأنها تطمئن الشعب السوري بالنصر القريب من خلالي: لقد شاهدته في الحلم قبل أيام وكان يقول لي مبتسما لقد انتهينا من ليبيا ونحن ذاهبون الان الي سوريا، وكان ذلك الحديث في منزل عائلة البوعزيزي بعد أيام من العثور علي القذافي في مجرور الصرف الصحي، وما تبع ذلك من عرض جثته في مصراته. وعن يومه الأخير مع العائلة تقول بسمة ابنة الرابعة عشرة ربيعا أنها ذهبت لتحضر له ميزان الفواكه، وتضعه له علي العربة كعادتها كل صباح، فلم يكن ذلك اليوم مختلفا عن سابقيه في يوميات بائع متجول سوي بخواتمه وليس في بداياته، وهنا تتدخل الأم مقاطعة لتضيف بهارا للاسطورة التي يجب ان تضمخ دوما بوداع العاشقات أو حدس الأمهات، فقد شعرت كما تؤكد بحنين غريب لتقبيله حين ذهبت الي غرفته في الصباح الاخير له داخل البيت لكنها لم تقبله، فالامهات في الريف التونسي لا يقبلن أولادهن حين يكبروا الا ان ذهبوا للجيش، أو عادوا من سفر بعيد. وطبعا لم تدرك الأم مهما بلغت دقة حدسها أن أبنها علي سفر بعيد في ذلك الصباح الممطر: يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ألا كل من تحت التراب بعيد وفي ما أستمع الي الأم البسيطة التي صار الاعلام يطلب منها أدوارا لا تتقنها ولن تتقنها، وأتأمل صورة البوعزيزي المبتسم علي جدار غرفة الضيوف تذكرت الدبلوماسي الألماني زائر البوعزيزي الوحيد قبلي وتساءلت بيني وبين نفسي لماذا أختار أن يترك بطاقته مع باقة الورد في تلك الفلاة الشاسعة وبين قبور متشابهة كلها بيضاء الا واحدا من رخام أخضر لامرأة أسمها بشري بنت صالح تفذلك أهلها باللون حسب وصيتها لكنهم لم يخرجوا عن الشائع في كتابات الشواهد مكتفين ب: يا أيتها النفس المطمئنة... شاهدة قبر البوعزيزي تختلف، وتنبيء عن اجتهادات غير مألوفة في مقبرة قرية نائية وشبه مهجورة: »اللهم يمن كتابه، ويسر حسابه، وثقل بالحسانات ميزانه، وثبت علي الصراط أقدامه، وأسكنه أعلي الجنان جوار نبيك ومصطفاك.. ولا تسلني هنا لماذا تضع الميثولوجيا الاسلامية الشهداء دوما مع الأنبياء والقديسين في أعالي عليين، فالدبلوماسي الألماني الذي قطع مئات الكيلو مترات ليضع باقة ورد علي قبر أحدهم في القرية النائية المحاطة بالزيتون والكاليبتوس والمسيجة بالصبار لم يسأل ذاك السؤال، فهو يدرك ككل أصحاب البصائر والعقول أن من يغيرون وجه العالم لهم احترامهم في الأرض، وفي الأعالي علي حد سواء لكن العرب يخالفونه الرأي قليلا، فهم الذين قالوا بالمجمل عن الشخصيات التي تغير وجه التاريخ: لا كرامة لنبي في وطنه، ولم يضيفوا: لا في حياته ولا بعد أن يموت.