جل الدول العربية التي اسشقت هواء الربيع العربي بدأت تستدعي فحول المختصين في القانون الدستوري وعلوم السياسة والبلدان لصياغة دساتير جديدة، وتلك الدول كانت لها بالطبع دساتير أو كتب ثورية استوعب الزعماء فيها أخبار السياسة، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، ولكنهم عند الممارسة خلطوها بدسائس من الباطل، وزخارف من أصول الديمقراطية لفقوها، وكانت تلك المواد الدستورية تنافح عن مبادئ حقوق الانسان والحريات العامة، وبعضها ذهب إلي حد السماح بالتعددية علي انها قواعد جوهرية للمجتمع لايمكن المساس بها أو التطاول عليها. وهذا شأن العديد من الدول التي وضعت في قانونها الاسمي صورا قد تجردت عن موادها وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتالدها، وعند التطبيق تظهر نوايا القوم: فمن الدول من سهرت لعقود علي حماية الحزب الحاكم من غضب وانقلابات الناخبين حتي أصبح الحزب الحاكم هو الدولة ورئيس الحزب هو رئيس الدولة، وكل من سولت له نفسه انتقاد الحزب فإنما ينتقد رئيس الدولة، وتعطي الكلمة لوسائل الأمن كما كان شأن تونس بن علي للرد علي من كان يعتبر خارجا عن الجماعة، وكان من الصعب تصور نجاح أو مصير بدون بركة الحزب، وكان القانون يتدخل لاعطاء ما يزيد علي 08 في المائة من مقاعد البرلمان للحزب الحاكم، والبقية تقتسمها المعارضة الناعمة التي تخترقها أجهزة الأمن الخفية لتحدث البلبلة داخل صفوفها، ومن لم يرض بهذه المعارضة، وارتأي لنفسه معارضة خشنة قإما يزج به في غيابات السجن أو يختار لنفسه منفي في الخارج. هكذا كانت حال الدساتير في السابق، تجد فيها كل ما يمكن ان تجده في القوانين السامية الغربية، وكان الحكام العرب يتنافسون في وضع دساتير تسمو فيها الاقوال وتضرب فيها القواعد والحكم، وتطرف بها الاندية إذا غصها الاحتفال، وتمتلئ بها الكتب إذا غمرها المحللون، ومازلت اتذكر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في آخر زيارة رسمية له لتونس كيف فجد دستور تونس وحماية هذا البلد لحقوق الانسان والحريات العامة! كان بعض الحكام يظنون ان شعوبهم بلداء الطبع والعقل، وأذكاهم يكونون متبلدين ينسجون علي منوال والديهم في العزوف عن السياسة، ويذهلون عما أحالته الأيام من الاحوال إلي أن تبين لهم أن الحق لايقاوم سلطاته والباطل يقذف شهاب النظر شيطانه، ومرعي الجهل والتبلد بين الانام وخيم وبيل، فثارت عليهم شعوبهم، التي يئست من بطش زعماء تبين انهم فئة ضعيفة ما كانت لهم من فئة ينصرونهم من دون الله، وأن الارض جعل الله الملك فيها لمن لا يريد علوا في الارض ولا فسادا. والتغيير كبير جدا اليوم في عالمنا العربي وإن كان الطريق إلي القاعدة الدستورية مليئا بالاشواك في بعض الدول التي لم تعرف قط في حياتها رياحا دستورية، وظن البعض كما هو الشأن في مصر أنه بسبب التجربة التاريخية والسياسية وشهرة بعض الاساتذة في القانون الدستوري، فإنه لاتكفي إلا ايام قلائل لوضع دستور ديمقراطي حداثي يأتي بمجموعة القواعد الاساسية التي ترسم قواعد الحكم فيها، وتضع الضمانات الكفيلة لحقوق الافراد والجماعات، ولكن الدولة في عالمنا العربي وبالاخص في الدول التي عرفت سلطوية قوية في أعلي هرم الدولة، لم يتم الحسم في »هويتها« ولذا فبمجرد ان تم التطرق إليها ذهبت بعض الاحزاب الإسلامية لتدعو إلي انتخابات تشريعية قبل التطرق إلي اللجنة التأسيسية التي ستعني بصياغة الدستور. ويجمع الكل علي ان الفترة الحالية هي فترة حاسمة في مصر الشعوب والاوطان العربية، ويجب علي الفاعلين في المجتمع التغاضي عن المواضيع »الهوياتية« ذات التكلفة السياسية الباهظة، والتطرق إلي المسائل الجوهرية التي في غيابها انطلقت الثورات العربية اصلاً، فالدساتير ستنجز وستكتب من ماء من ذهب، ولن تبقي كما كانت صورية بل ستعزز موادها وتعظم قوة المراقبة والمحاسبة فيها وستتمسك بالقيم المقدسة والثوابت الواردة في تاريخ كل دولة. إن تطلعات الشعوب الآن ليست في هوية الدولة التي لا يمكن أن يختلف اثنان علي مقوماتها التاريخية والدينية.. ولكن تطلعاتها اليوم وغدا هي في إيجاد فرص للشغل والتنمية، وتحقيق ذلك يكون بتعبيد الطرق للسيارة من الآن وبحكمة مقتدرة، كتحديث ودمقرطة هياكل الدولة وكيفية توزيع الدساتير الجديدة للسلطات المركزية واللامركزية وفق مبدأ فصل السلطات والديمقراطية .