رمضان وانا طفل منذ اكثر من خمسين سنة كان وما يزال شهرا كريما، وكنت ومازلت اشعر في ايام رمضان.. ان الملائكة تهبط من اماكنها في السماء.. وتقترب اكثر من الارض ربما لتوزع رحمات الله علي الناس!. اما رمضان في حي السيدة زينب العريق.. فقد كان له شكل ومظاهر وطعم وروح.. ذات مساء اعلن الراديو ان غدا سيكون اول ايام شهر رمضان وان العلماء ثبتت لديهم رؤية الهلال فارتفعت صيحات الفرح في البيوت والحواري وامتلأت الحواري بالاطفال يهللون ويغنون »وحوي يا وحوي« وجاء صوت عبدالمطلب في اجهزة الراديو يبشر »رمضان جانا وفرحنا به.. اهلا رمضان«!. لكن بيتنا ربما كان البيت الوحيد في الحي الذي لم ترتفع فيه صيحة فرح واحدة فقد جاء رمضان فجأة ونحن في شدة وضيق.. وكان هذا يعني ان رمضان لن يكون رمضان.. رمضان عند الناس في الاحياء الشعبية »موسم« يطول ثلاثين يوما، لابد ان يستعد له الناس. ونحن كيف سندخل رمضان بلا لحوم ولافراخ ولا ياميش، وكانوا يطلقون عليه اسم »النقل« ظل ابي في غرفته يروح ويحيء مثل اسد جريح.. بينما تكومت واخوتي في الخارج.. شاعرين بالازمة المحدقة.. وقد ملا الحزن قلوبنا الصغيرة!. اقتربت من باب حجرة ابي علي وجل وخوف، وسمعت ماما تكلم بابا. . مالك كده يا ابو محمود يا اخويا »شايل طاجن ستك« وزعلان ليه؟. جاء صوته وهو يزفر. . يعني مش عارفة ليه.. رمضان اهو.. ينفع كده ومافيش فلوس؟! ربنا يفرجها. امتي.. والسحور فاضل عليه ساعتين ثلاثة؟! تسللت رغما عني بنظري الي داخل الغرفة رأيت ابي يقف مهموما في الظلام، لكني شاهدت بطرف عيني امي تنزع من يدها اسورتها الذهبية.. وتمدها الي ابي. قائلة: معلش.. خد دي مشي بها الدنيا! نظر ابي اليها في دهشة واستنكار. عايزاني اخذ ذهبك؟ ردت: ما انت اللي جايبه. مش ممكن. . لا ممكن. . عشان خاطري ردت عليه: عشان خاطري انا. اذا بتحبني صحيح خدها!. لم اسمع رد ابي. . لكن خلال دقائق شاهدته يرتدي ملابسه بسرعة ويغادر البيت ليعود بعد اقل من ساعتين محملا بأكياس الياميش والطعام ولم ينس ان يحمل معه »فانوس بشمعة« لكل واحد من اخوتي.. وكان لي فانوس!. اول يوم رمضان. . فور آذان المغرب جلسنا جميعا حول مائدة الافطار وبينما كانت امي تضع اطباق الطعام وكان اصنافا وانواعا. فجأة ارتفع صوت اختي الصغيرة تسألها: ماما.. هي اسورتك الذهب فين؟ لم ترد امي واستدارت عائدة الي المطبخ. قال بابا وهو يشعل سيجارة.. الاسورة.. في قلبي! جاء رمضان.. وما اكثر ما جاء.. وفرحنا به!.