وقتية وجودنا كأفراد يماثل ذلك المزيج بين الحاضر والمستقبل الذي تحدثنا عنه، يماثله تذكير الآدمي بقدرٍ من ماضيه وماضي غيره لتثبيت خُطَاه في مسيرة حياته، وتهيئته لظروفها وتمكينه من مواجهة جديدها والاستعانة بشيءٍ من قديمها معها أو مع غيره . ووقتية وجودنا كأفراد صحبها دائما وقتية أفسح مدًي .. هي وقتية جماعاتنا التي تمتد بحكم تواصل الأجيال بأكثر مما تمتد حياة الفرد مهما طالت، ويصاحب هذه » الوقتية » للفرد أو للجماعة يصاحبها وجود جنسنا الذي لم يبدأ من بداية الكون، وإنما بدأ بعد بدايته بآماد مجهولة وغير معروفة لنا، ومع ذلك لا يكف خيالنا ثم عقلنا عن النظر والاستقصاء والبحث في بداية الكون ونهايته، وما زلنا نجمع في علمنا الوضعي المؤشرات ونحسب حساب الطاقات والحفائر والأثريات وأعمار الأتربة والصخور لمعرفة بداية الكون، ولا بأس في نظرهم رغم استحالة ذلك من محاولة معرفة نهايتها .. فنحن بدون أن نشعر مسوقون بقوة أملنا في المزيد والمزيد من الفهم والمعرفة والمغالاة إلي حد مراجعة عمل الخالق عزّ وجل من أدني خلقه إلي أقصاه، ونحاول التعرف علي سرّ قوته جلّ شأنه لنتملكها ونستخدمها، مفترضين أن وقتية حياتنا لا حدود لها، وكأن حتمية الاعتلال وحتمية الشيخوخة والموت وفناء الجماعات واقع يمكن أن يُقاوم باجتراء وعناد، ويُطْمَع في التخلص أو الإفلات منه في وقت ما بالمزيد من الدراية والذكاء والعلم !! الأمل بين التعقل والجموح وهذا الأمل بما فيه من طمع أوتزيد أوجموح وراء كل تقدم سعي ويسعي إليه الآدميون أفرادًا وجماعات، ويلازمه دائمًا تجاهلهم ثم نسيانهم الفعلي لمجيء الاعتلال والموت .. وهو نسيان غريزي يكاد يكون من نواميس طبيعة الحياة نفسها وطبيعة الأحياء .. يتملكهم حين يحشدون فكرهم ويجمعون إرادتهم علي عمل يستغرق وقتًا .. وتلوح لهم في نجاحه نتائج دائمة في نظرهم وقتئذ .. فالإنسان من هذه الناحية بحاجة من وقت لآخر إلي التذكير بأنه فانٍ وليس مخلدًا، وهذا التذكير لازم جدًا للحد من الاندفاع وراء الآمال والأطماع اندفاعًا لا يبالي معه بغيره ويتعرض فيه المندفع إلي إغفال الإخلاص والاستقامة والتراحم . فنحن جميعًا من هذه الزاوية باقون في نظر أنفسنا إلي غير نهاية .. لا يخرجنا من هذا الحلم الدائم الملازم لحياتنا إلاّ الفشل أوالاعتلال أو الموت .. وهذا الإخراج مع عموميته وحتميته فيه فيما عدا التنسك فيه من التمزق والتشويه والاغتراب ما يبغضه إلي نفوس البشر ويصرفها عنه ما دامت حيّة فيه .. وقلما يستسلم عليلنا للموت حتي وإنْ أشرف عليه، لأننا جميعًا فيما عدا الشواذ لا نفارق الحياة اختياراً ولا نتركها إلاّ قسرًا !! نحن ونواميس الكون حياتنا وحياة سوانا من الكائنات الأخري حيوانية أو نباتية، تجري كونيًا علي نحو من السياسة في الخلق تستلزم وتستخدم نواميس مختلفة عديدة تلائم مجاميعها مراحل وظروف مختلفة يمرّ بها المخلوق، وتعينه دون أن يعرفها أويعرف حقيقة وظيفتها تعينه علي مواجهة وعبور تلك المراحل والظروف .. وقد يفضل الحيّ كفرد أو كجماعة أو نوع أوجنس ناموساً أوأكثر بسبب أو آخر دعاه لذلك التفضيل وإلي التمسك به، لأنه يجهل تلك السياسة الكونية التي لا يغيرها بإرادته أو تفضيلاته وقيمه . ومن هنا جاء أصل تعصبنا لبعض القيم ونظرتنا الجامدة إليها علي أنها قيم مطلقة صحيحة في كل زمان ومكان .. ويجري هذا التعصب برغم فوات مناسباتها وعصرها بتغير المراحل والظروف .. هذا التغير الدائم الذي ليس أمره في أيدينا ! .. وفهمنا لهذا الأصل هو نوع إبصار لجانب من السياسة في الخلق .. وهو إذا حصل لآدمي وصح يفتح لعينه وعقله وداخله وعواطفه وغرائزه يفتح لها منافذ لنور يدخل إلي أعماقه ويزيل ظلام الأنانيات والشهوات والأحقاد والأطماع الغبية الحمقاء التي ترجع إليها كل شرورنا أفرادا وطوائف وأممًا طوال تاريخنا، ويوقف بزوال إحساسنا بملازمة هذه الشرور لنا يوقف احتياجنا أو شعورنا بالحاجة للأجور والمثوبات والعطايا والوعود التي نتمني أن تثبتنا علي طريق الإخلاص والاستقامة والتراحم، وأن تنقذنا من تلك الملازمة الشريرة وتخفف مغرياتنا ومشجعاتنا وشهواتنا وشهيّاتنا المصاحبة لوجودنا المادي وغير المادي بالفطرة .. هذه الفطرة قابلة للتناقص والترويض والترقي والتصعيد مع الزيادة في الفهم وقوة الإرادة والاعتياد علي ضبط النفس والاتزان .. إذ لا حد لتقدم البشر برغم فناء الأفراد متي ساد التقدم في جماعاتهم مع الاستقامة والإخلاص والتراحم والشوق الجاد إلي الفهم والمعرفة والمثابرة علي نشرهما وتطورهما مع صدق الرغبة في إدراك نواميس هذا الكون العظيم ومتابعتها بإصرار متزايد علي الدقة والموضوعية . مخترعات ومستجدات البشر ومخترعات ومستجدات ورغبات البشر ومستحدثاتها التي لا تنقطع في كل عصر في دنياهم المادية والسلوكية، هي بلا شك عادة تستحوذ علي التفاتهم واهتمامهم، وينسون في انشغالهم بها خلقهم هم بل وخلق الكون الجليل الذي هم فيه مجرد جزيءٍ ضئيل بالغ الضآلة .. وهذه غفلة غريزية موقوتة ومحسوبة .. وهي تخف بالتدريج مع تنمية ونمو وتعمق الفهم والمعرفة واتساع فكر الآدمي العادي وإثراء وعيه وذاكرته واعتياده المطرد علي ضبط ذلك الميل الفطري إلي الاندفاع في الاتجاهات التي يشعر فيها بنجاحه ؛ سواء في سبقه الذي لم يصل إليه سواه إلاّ القليلون، أو نجاحه في محاكاة المتميزين الذين سبقوه، أو حلمه بهذا النجاح والفوز والفلاح في يوم من الأيام .. وهو اندفاع يملأ نفس وعقل الإنسان ببحث لا يدع مجالًا لديه للتفكير فيما سواه أعَم وأهَم منه . والآدميون في طريقهم اليوم ما لم يفاجأوا بكارثةٍ شاملةٍ عامة تقضي علي جنسهم أوتعود به إلي الوراء لأحقاب ماضية بدائية في طريقهم إلي الزيادة الجادة المتواصلة المصرّة علي التعرف علي الكون والاتصال به بكل وسيلة ممكنة .. يشهد علي ذلك نجاحهم في ارتياد الفضاء، وفي فتح عوالم من خلاله لم تكن معروفة لهم فصارت في متناولهم وتقدم الجديد والجديد كل يوم لخدمة البشرية .. وهذا الارتياد المتزايد للفضاء والوصول إلي كواكب فيه لم يسبق لإنسان أن وضع قدمه عليها أو وصل إليها . هذا يعني ويبشر بأنهم في طريقهم إلي تحقيق اتصال أوسع بالكون قوامه معرفة موضوعية واسعة جداً غزيرة جدًا وقابلة للمزيد من الاتساع والغزارة، وليست مبنية علي الأحلام والأوهام والفروض التي لا يساندها واقع فعلي دقيق مدروس بعناية ! ما بين الإنجاز البشري وبقية الأحياء وهذا الإنجاز إنجاز بشري مقصور علي الجنس البشري، ولا يوجد شيء قريب منه لدي بقية الأحياء التي نعرفها .. حيوانية أو نباتية .. فهي كلها محدودة بحدود ضيقة جدًا .. تحول بينها وبين الإطلال الواعي علي الكون الهائل ومحاولة الوقوف الواعي الفاهم علي جانب من نواميسه وتنمية هذا الجانب باستمرار الملاحظة والرصد والمقارنة والحساب والشوق إلي الاتصال بمن فيه ممن يمكنهم أو يحتمل تواصلهم معنا في المستقبل القريب أوالبعيد . عدة الإنسان في هذا الاتصال قوامها عمق الفهم والوعي الكوني، والمثابرة علي المزيد منهما، مع صفاء الرؤية، وصدق التوجه، واتخاذ الوسائل والتدابير التي تحقق للإنسانية ولوج هذا الفتح الجديد الذي يمثل أملاً كبيراً في الخروج إلي آفاق لم تكن في حسبان أحدٍ حتي عهد قريب !