من اللافت أن بعض آفات التمييز عالق بالإنسان وحده دون سواه. فليس بين الحيوانات والطيور والحشرات والهوام ليس بينهم غني وفقير، فالغني والفقر صفة آدمية لم توجد ولن توجد إلاَّ بين الآدميين. فلا تعرف كافة الأحياء غير الآدمية الغني والفقر، وهي قد تتصارع علي » لقمة » اللحظة ولكنها لحظة تنتهي بغايتها. لا يوجد بين هذه الأحياء ما يجمعه أو يحوزه ليكون في قادم الأيام أكثر ثراءً من غيره، أو ليتجنب الفقر. لذلك لم يوجد قط بين بقية الأحياء غير الآدمية بيع أو شراء، ولا إقراض واقتراض، ولا ملكية فردية ولا نظام اقتصادي اشتراكي أو حر متروك لحركة السوق وحريتها.. وقد نجت تلك الأجناس والأنواع من هذه الزاوية من تسعة أعشار هموم الآدميين الذين يموتون جوعًا متي توقفت البيوعات والأسواق وأفلست التجارات والمصارف وأغلقت المنشآت والمصانع وانهارت العملات وفقدت قيمتها ومعناها بالانهيار العام في الاقتصاد ! فالغني والفقر خاصية خاصة اختص بها الآدميون أنفسهم.. يحاول كل منهم أن يزيدها وينميها.. نجاح مقرون بآفات وهذه الخاصية التي بدونها لم تكن لتوجد أية حضارة ضئيلة أو عظيمة ليست من عمل النواميس الكونية التي كانت وما زالت عاملة عملها في الكون، وإنما هي من ابتداع العقل البشري وحده إيجادًا لشيء من النظام في اختيارات واندفاعات وحاجات وأطماع الآدميين.. وقد أدي هذا الابتداع إلي إقامة الجماعات والحضارات وازدهارها ثم انهيارها.. وهو نجاح هائل غاص حتي اليوم بالنكبات والكوارث وصنوف الحطة والإذلال والخداع والنفاق والظلم والبطش وعدم المبالاة بالتدمير والتخريب وسفك الدماء بغير حذر ولا ورع ! محاولات لا طحن لها ! ومن قديم حاولت جماعات أن تعيش هنا وهناك بعيدًا عن ذلك المعمعان الذي لا يتوقف ولا يتركه البشر عامة، وفرضت هذه الجماعات علي أفرادها القناعة بالاشتراك في الأقوات والمنافع علي جهة التساوي والعدل.. فلم تدم وانحلت أو ذوت وتقلصت.. ومازالت فرق الرهبنة البوذية والمسيحية موجودة تمارس هذا النوع من الاشتراك بقدر نسبي من الأمانة، لكنها لم تستطع الاحتفاظ بحماس الناس وإعجابهم الأول بها، ولم يعد الإنسان العادي يطيق هامشية الحياة التي يحياها الراهب بفرض أمانتها واجتماع فضائلها مع هدوئها وانتظامها بين لغط الحياة الاجتماعية وصخبها ! وفي معظم سنوات القرن الماضي راجت الحماسة للاشتراكية، واستولي المتطرفون فيها علي دفة الحكم في روسيا، وأخذوا يحققون بالقوة والعنف ما تصوروه منها.. من إلغاء الملكية الفردية وقيام الدولة بالهيمنة علي كل شيء، وبانفرادها بتوزيع الأقوات والمنافع علي الأفراد بالعدل الذي تراه.. وفي سبيل ذلك قتلوا الملايين وأذلوا الملايين، وأفسدوا عقول ونفوس الملايين، وأنفقوا الملايين بعد الحرب العالمية الثانية لنشر تصورهم هذا في البلدان الأخري من العالم.. وانتهي ذلك بانكشاف خيبته وفشله وانهيار اقتصادياته وسياساته، واتضاح استئثار الحاكمين بهذه النظم وأتباعهم بأطايب كل شيء، وحرمان المحكومين من الفرص العامة المباحة لأمثالهم في البلاد غير الاشتراكية ! هذا الحكم الذي خاب في تنفيذ ما ادعاه وزعمه وتاه به، وافتقر واحتاج إلي معونة الذين كانوا خصومه الألداء.. وكانت هذه النهاية إقرارًا هائلاً باستحالة أن يعيش الآدميون علي الأرض في مظلة من المساواة العادلة.. وأن افتراض أو فرض إمكان هذه المساواة خيال محض ترفضه طبيعة الآدمي ويزداد رفضها له مع الوقت.. إذ ثبت أنه يشل أطماع الخلق ويقتل آمالهم.. ولا معني لحياتهم إذا خلت من الأطماع والآمال التي تبعث فيهم الحركة والمغامرة وطلب الجديد ومتعة تصوره وتنفيذه أو محاولة تنفيذه. ثم إن تقييد آمال البشر وأطماعهم لضمان أمنهم وانتظام حياتهم، مسعي لم تنجح فيه جميع الملل والنحل، ولم يُجْد أو ينفع فيه محاولة صرف أنظار الخلق عن هذه الأطماع والآمال بمتاع الحياة الآخرة. وقد لوحظ في روسيا وغيرها من البلاد الاشتراكية مبالغة الناس في تعاطي الكحول أو المخدرات.. وربما كان هذا هربًا من الشعور بعبء شلل الأطماع والآمال الذي جعل رتابة الحياة غير محتملة علي الآدمي اليقظ ! لا أطماع بغير مخاطر نعم لا بد للآدمي فيما يبدو من ممارسة أطماعه وآماله علي نحو أو آخر.. أو علي الأقل أن يشعر أن في إمكانه أن يمارسها لو أراد.. وأنه في عدم ممارستها إنما يستسلم فقط لحكمه الشخصي وحكم ظروفه الخاصة ولما يظن أنه العقل والفطنة والسلامة.. بتجنب الفشل والخيبة والهزيمة والحقد والحسد والصراع مع الآخرين، وخسارة ما هو معه والافتقار والحاجة والضياع ! وإبان موجات الأزمات، تعلو أصوات من ينادون بالعودة إلي بساطة القدماء واستقامتهم.. كأن أولئك لم يعرفوا إلا البساطة والاستقامة. وكأن بساطتهم واستقامتهم قد اغتيلتا اغتيالاً وحرمت منهما البشرية، وكأن زوالهما لم يكن ضمن حركة الحياة في الكون.. هذه الحركة الدائبة الدائمة التي لا تتوقف قط من أجل البسطاء المستقيمين أو من أجل غيرهم.. ولا ترجع إلي الخلف أو الوراء إلاّ لردة فيها نوع محافظة علي صور من الحياة لا يصونها إلاّ هذه الردة . تلك الأصوات التي تعلو بالرجوع إلي ما كان عليه القدماء من بساطة واستقامة مزعومتين أقرب ما تكون إلي الأمغاص التي تعبر كغيرها عن الأوجاع من الضيق والخوف وما يصحبهما من ألم وحيرة وفقدان ثقة بالنفس وبقدرتها علي علاج متاعبها، أو الثبات في مواجهة أزماتها ونكباتها ! الإنصات للأدعياء ! ما تزال الجماعات البشرية أكثر ميلاً وإنصاتًا لأدعياء الطب ووصفاتهم، وأكثر شكًّا وأقل ثقةً بالأطباء والصيادلة المعترف بعلمهم وفنهم وتخصصهم وعلاجاتهم.. لأن الجماعات البشرية ما تزال بعامة متعلقة بما هو غيبي اعتقادي سريع التأثير قريب النتائج.. يسمح لكل آدمي بأن يتدخل بما لديه من خبرة يزعمها في النصيحة والعلاج اللازم لأية علّة.. وكلنا يشاهد شيئًا يشبه هذا في محاولات علاج علل الجماعات التي توصف أحيانًا بأنها مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية، وتوصف أحيانًا بأنها أزمات وفتن.. وفيها وعليها تتزاحم الأفراد والآراء والتعليقات ممن يعرفون حقًا وممن يدعون من الأدعياء والمغرضين والانتهازيين وطالبي الشهرة.. وتمتلئ الصحف والرسائل والكتب والاجتماعات والندوات والمجالس والمؤتمرات محلية وغير محلية بألوان من التحليل والتشخيص وأوصاف العلاجات من كل من يزعم لنفسه الاختصاص والخبرة والدراية أو الثقافة بحكم أنه معدود من الساسة أو رجال الاقتصاد والمال أو القانون أو الأعمال أو من الصحفيين أو الكتاب أو أهل الفكر والرأي.. كأن أي إنسان ينتمي لهذه الفئات حقيقة أو اعتبارًا معدٌّ ومهيأ لمواجهة المشاكل والأزمات العامة بما يكفي لحلها جزئيًا أو كليًا، وربما كان هذا الباب المفتوح علي مصراعيه من أسباب تعقد أو إطالة عمر المشاكل والأزمات، بينما يعلم كل آدمي عادي أن رواج الأشغال والأعمال يلطف حتماً اشتدادها وأن الكساد يؤدي إلي العكس، وأن مفتاح الرواج والكساد ليس في يد أحد من تلك الفئات عالية الصوت، وإنما في يد الآدمي العادي الذي إذا استقام والتفت لعمله راجت الأشغال والأعمال، وإذا فسد وفسدت أعماله بفساده جر الكساد أو زاد في أواره وانتشاره. فَلَدَي الآدمي العادي ثلاثة أرباع ما يؤدي بالجماعة إلي النجاح والفلاح، وقد يصبح معه ما يقودها إلي الافتقار والتدهور. بصيص أمل ! وإذا كان انتشار الآدمي العادي وكثرته يجعلان تغيير سلوكه وأعرافه وعاداته أمرًا ليس هينًا، فقد أصبح ذلك أقل صعوبة عما كان من قبل بكثير.. وذلك بفضل اليسر غير العادي في الاتصالات والمواصلات العامة الذي حققته التكنولوجيا الحديثة وتطوير الصحافة وسرعة وسائل الإعلام، فتقاربت بذلك المسافات بين العاديين من الناس وبين الخاصة من المترفين وأهل البطر والشقاق وامتهان الأخلاق وعدم المبالاة بالقيم، وصار انتقال العدوي إلي الآدمي من هؤلاء أسرع وأوسع، كما صار منعه أشق وأكثر صعوبة، وعلاجه يكاد يكون متعذرًا أو بالغ الصعوبة !