نواصل بهذا المقال سلسلة بعنوان "أزماتنا الاقتصادية" وإذ رأيت فى المقال السابق أن أولى الأزمات بالذكر والتحليل هى ندرة الاقتصاديين فقد أردت أن أبحث عن الطبيب الكفء قبل أن أضع وصفات العلاج . وفى هذا المقال أعرّج على موضوع جديد هو فى بلاد العالم المتقدّم مشكلة من المشكلات الاقتصادية المزمنة التى يتم التعامل معها فى إطار منظومة متكاملة تسعى إلى توظيف الموارد البشرية بكفاءة وتعمل على رفع وتحسين إنتاجيتها، أما فى مصر فقد تحوّلت المشكلة النمطية إلى أزمة بعد أن استخدم العنصر البشرى كأداة للدعاية لإنجازات الحاكم، وبعد أن أُتخِمَت المدارس والمعاهد بطلاب التمسوا فيها مجانية التعليم، فلا وجدوا تعليماً ولا بقيت الخدمة الرديئة مجانية، ونتج عن هذه التخمة التعليمية إفراز أجيال غير مؤهلة تحمل شهادات لا قيمة لها فى سوق العمل، لكنها مع ذلك تشعر بحقها فى أن تحتل مكانة مرموقة فى المجتمع ولا ترضى بالعمل فى وظائف تحسبها دونية، وهنا جاء دور الدولة الفاشلة فى التعليم لتتم فشلها فى التوظيف فتخلق وظائف تكرارية ليس لها إنتاجية ولا عائد فى الاقتصاد. ومع جمود الهيئات والمصالح الحكومية وعجزها عن التطوّر تراكمت فيها جيوش من أشباه الموظّفين الذين لا ينتجون ولا يتقاضون أجر الكفاف الذى يطعم فرداً لمدة أسبوع ناهيك عن أسرة كاملة تريد طعاماً وكساءً وتعليماً وعلاجاً حتى يتحقق لها الحد الأدنى للآدمية. ولأن الدولة قد اختزلت فى فرد، ولأن ذلك الفرد قد تجرّد من إنسانيته وظن أنه إله يمشى على الأرض، فقد صار لا يعبأ بمستقبل الأجيال ولا يعنيه تكلّس الدولة وتراجع كافة مؤشرات التنمية البشرية بها، فقد عمد الفرد الحاكم على ترحيل أزمة البطالة إلى الأمام كما فعل سابقوه، وحسبه أنه يستخدم دعايته الرخيصة فى تعظيم الجهد الاستثنائى الذى تضطلع به دولته لتوظيف المزيد من العاطلين ليلحقوا بجيوش أشباه العاطلين. ولما أراد آخر الفراعنة أن يورّث الحكم لولده، ساءه أن يترك هذه الأزمة تتفاقم لتثقل كاهل الأمير الصغير، ولذا رأى أنه لابد من حل هذه الأزمة أو حلحلتها بأية طريقة، فسوّلت له نفسه وحاشيته تخلّى الدولة عن مسئوليتها تماماً فى مسألة التوظيف وتركها للقطاع الخاص (يبدو أن صاحبنا قد احترف فن التخلّى منذ زمن) ولأن القطاع الخاص فى بلدنا لا يعمل وفق قوى السوق الحرة التى من شأنها أن تفرز العمالة الماهرة وتكافئ الموهوبين وتشجّع التعليم وتضطلع بمسئوليتها الاجتماعية، فقد تناست دولة الفرد أنها عبثت أيضاً بالقطاع الخاص، واختصت ثلة من المحظيين بامتيازات مدفوعة الثمن سواء عن طريق حصول هذه الثلة على أراضى الدولة بأبخس الأثمان، أو بالحصول على تسهيلات ائتمانية مفزعة من البنوك، أو بتقديم خدمات ومنافع الدولة لهم دون مقابل يذكر، بل ودون المشقة والعناء اللذين يلاقيهما أى مستثمر جاد ما دام خارج هذه الثلة. فكانت النتيجة أن المستثمر الذى يسعى إلى زيادة الناتج وتوظيف العمالة والمساهمة فى حل أزمة البطالة لا يجد فى مصر سعة فيخرج منها بنفسه وماله، فيحرم الاقتصاد مرتين، مرة بهجرة عقل منتج، وأخرى بهروب رأس المال الذى من شأنه أن يعالج أزمات كثيرة أهمها أزمة البطالة موضوعنا اليوم. هذا نصيب الدولة من الأزمة أما نصيب المواطن فلا يقل خطورة وتقصيراً فالمواطن قد تصالح مع الحاكم الفاسد على أن يحصل منه على أجر زهيد مقابل حضوره العمل أو ادعائه الحضور، وبذا يحصل من الدولة على أى "سبّوبة" مصداقاً للمثل الشعبى الردئ "اللى ييجى منهم أحسن من عينهم" وحقيقة الأمر أن هذا الشخص يسرق من قوت الوطن، ونصيب أبنائه وأحفاده من طعام وكساء وعلاج. ولا تخلو هذه القاعدة من استثناء فهناك من لا يزال يملك بين جنبيه قلباً ينبض بالأمل فى أن ينتج ويترقى فى عمله حتى يحقق ذاته ولو فى مصلحة حكومية، لكن هذا الصنف المسكين سرعان ما يقنط فيلحق بالعاطلين أو المهاجرين أو لا سمح الله المنتحرين. وإذ أحرص على تجنّب قوالب النصح والإرشاد والوصفات الاقتصادية الجاهزة فى هذه المقالات، فأنا حريص أيضاً على عدم الدخول فى تفاصيل ما للبطالة من سوءات، وانعكاسها على سلوك الفرد والجماعة وطبيعة الشعب وغيرها من أمور بديهية ابتذلها المنظّرون. لكننى أنظر إلى أزمة البطالة فأجدها مشكلة عادية يمكن علاجها لو أننا أمعنّا النظر فى أسبابها وأمطنا عنها التعقيدات التى أضفت عليها طابع الأزمة بعد أن اتصلت بمنظومة التعليم والدعاية للحاكم وفساد القطاع الخاص وغيرها من تعقيدات. هذا على الصعيد العام أما على الصعيد الشخصى ألم تشعر يوماً أن أزمة البطالة فى بلدنا صنعها الكسل والاتكال على الدولة الاشتراكية والحاكم الأب؟ ألم تبحث عن سباك أو نجّار ماهرين بأى ثمن فلا تجد؟ وتبحث عن سائق يقود سيارتك فلا يمكث معك إلا قليلاً ثم تظهر عليه أمارات البطر والإهمال؟ أذكر هذين المثالين لأن فيهما نموذجاً لتوزيع الثروة بين ميسورى الدخل الذين يبحثون عن خدمات عادية، ومحدودى الدخل والمهارات الذين لا يُطلب منهم سوى تعلّم وظيفة غير معقّدة لا تستلزم الحصول على شهادات عالية أو حتى متوسّطة. فالبطالة وبعيداً عن تعريفاتها العلمية لا يمكن تقديرها بدقة ما لم يبذل العاطل عن العمل جهداً مناسباً لتحسين مهاراته وفرصه والبحث عن وظيفة شاغرة تناسب هذه المهارات حتى ولو لم تكن المهنة التى يراها فى أحلامه، فذاك ترف لا يملكه عاطل عن العمل!. ما هو الحل إذن؟ ولنمضى سوياً فى الحلم وتصوّر حلول غير تقليدية، وهنا لابد أولاً أن نفض الاشتباك بين منحة البطالة التى تقدمها الدولة لكثير من العاملين بها فى صورة مرتبات، وبين الوظائف الحقيقية المنتجة. ثم علينا أن نبحث سريعاً فى مزايانا النسبية واغتنامها حتى وإن عادت بنا فى تطبيقها إلى تجاربنا السابقة، ولا أقصد بذلك النظر إلى الخلف، ولكن أقصد البناء على أسس سليمة لا أن نقلّد الغرب بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فلو أن الصناعات كثيفة رأس المال هى الاتجاه السائد فى الغرب فإن لدينا طاقات بشرية يمكن توظيفها فى صناعات كثيفة العمل وفى الإنتاج الزراعى أيضاً ولنا فى نهضة الصين أسوة ومثل. ففكرة الورشة المدرسة التى نشأ فيها عمّال مصر المهرة فى سابق العهود لا يجب أن تندثر طالما تراجع مستوى العمالة الماهرة مع انتشار الكثير من المدارس والمعاهد الفنية، التى يبدو أنها لا تنظر إلى سوق العمل قبل إعداد خرّيجيها، تماماً مثلما تصنع المدارس العامة. هذه الورش لابد أن تجتمع تحت مظلة رعاة من المستثمرين الذين يستطيعون توفير مساحة كبيرة بعيدة عن العمران تشبه الكومباوند السكنى لكنها كومباوند سكنى-إنتاجى فى آن فتنقسم إلى وحدات صغيرة للإنتاج الصناعى البسيط، الذى يبدأ بالإحلال محل الواردات من الصين على سبيل المثال، على أن يتم مراقبة أداء كل ورشة ووضع شروط لبقاء طاقمها تتصل بالإنتاجية والجودة، ووحدات سكنية للعاملين بهذه الورش، بالإضافة إلى مدرسة لتعليم أبناء العاملين تجمع بين التعليم الفنى والتعليم العام. فيتوافر عنصر المنافسة ويتوافر الحافز القوى على البقاء فى العمل من سكن مناسب وتعليم محترم وتفادى لأزمة المواصلات. هذه المشروعات هى التى يجب أن يذهب إليها دعم الدولة مشروطاً بحجم مناسب من التوظيف والإنتاجية والتصدير فيما بعد. قس على هذا النموذج ما يمكن تطويره من إنتاج زراعى وصناعات تحويلية بسيطة مرتبطة بالإنتاج الزراعى. وكما قدّمنا فى المقال السابق فإننا لن نضع حلولاً لأزماتنا المزمنة فى مقال أو عشر مقالات، لكننا نسعى إلى وضع بعض الحلول غير التقليدية والقابلة للتطبيق السريع، كنوع من الإسهام فى حل أزماتنا عسى أن يتحرك الماء الراكد، ومعنا فى المقال القادم أزمة جديدة بإذن الله تعالى.