تمت خلال العقود الماضية أعمال كبيرة للتنمية الزراعية فى مصر، تضمنت حصر واستصلاح وتنميط أنواع الأراضى الزراعية، وتقرير ما يجود عليها من حاصلات حقلية وبستانية، وتحديد طرق خدمة مناسبة لهذه الحاصلات، وتوفير سلالات نباتية عالية الإنتاج وسلالات مقاومة للظروف الخشنة. وتمت عمليات إقامة شبكات رى عالية الكفاءة يصل مجموع أطوالها إلى 40 ألف كيلو متر، تمتد من بحيرة ناصر أمام السد العالى إلى حقول الوادى والدلتا تبلغ مساحتها الأرضية 8.3 مليون فدان ومساحتها المحصولية 15 مليون فدان. وعلى الرغم من كل هذه الجهود، فقد تفاقمت مشكلة تدنى الأمن الغذائى حيث عجز الناتج المحلى عن تلبية احتياجات السكان الذين يتزايد عددهم سنة بعد أخرى، فتم استيراد مواد غذائية رئيسية منها القمح والفول والزيت والسكر وعلف الحيوان بكميات تجاوزت ال50٪ من إجمالى الاستهلاك. وقد كتب الدكتور رشدى سعيد ضمن كتابه القيم «مصر المستقبل: المياه والطاقة والصحراء» أن نخبا من رواد المفكرين المصريين قد تنبأت فى الثلث الأول للقرن العشرين بمثل هذه النتيجة، بالنظر المقارن بين تزايد عدد السكان وتيسر الأراضى القابلة للزراعة المروية. ومن هؤلاء المفكرين إسماعيل صدقى باشا رجل القانون ورئيس الوزراء فيما بعد، والأمير المثقف عمر طوسون وحسين سرى باشا خبير الرى ورئيس الوزراء فيما بعد. وتناول الدكتور جمال حمدان هذه الجزئية فى كتابه المرجعى «شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان الجزء الثالث»، وأطلق ما سماه مجازا بالمساحة المستوردة، وهى المساحة الافتراضية للأراضى التى تنتج السلع الغذائية المستوردة بنفس مستوى إنتاجيتها فى مصر. واستخلص من الدراسة «عام 1980» أن مصر تحتاج ضعف المساحة التى تزرعها لتصل إلى الاكتفاء الذاتى. ومنذ «انتفاضة الخبز» التى شهدتها مصر فى أواخر سبعينيات القرن العشرين، تعلمت الحكومات المتتالية ألا ترفع سعره، فلا يزال رغيف الخبز يباع فى الأسواق بخمسة قروش «أثرية» ليس لها أى قيمة نقدية فى السوق. غير أن الاعتمادات النقدية المطلوبة لدعم الخبز داخل الميزانية العامة للدولة تخطت بحكم الأمر الواقع كل الحواجز نظير تزايد كميات القمح المستورد وتوالى ارتفاع أسعاره فى الأسواق العالمية. وهكذا حوصرت الحكومات ثلاثيا بين خوفها من انتفاضة خبز جديدة، وضغوط نقدية خانقة، وإساءة البعض لدعم لا يستحقونه باستخدام الخبز «المجانى» لغير مقاصده النبيلة، فالتبس الوضع عليها فلم تفعل شيئا جذريا يتناسب مع الموقف الصعب. ومع استمرار تضخم كمية القمح المستوردة سنويا، اقترح الدكتور عبدالسلام جمعة الخبير الزراعى المعروف تبنى ثلاثة محاور رئيسية لتقليصها اقترابا من الاكتفاء الذاتى. المحور الأول هو تطوير التركيب المحصولى ليحابى القمح على حساب البرسيم. والمحور الثانى هو رفع الكفاءة الزراعية بالتوسع الرأسى فتصل إنتاجية فدان القمح إلى ثلاثة أطنان. والمحور الثالث هو الالتزام باستصلاح 3.4 مليون فدان حتى عام 2017، لتصل جملة الأراضى الزراعية إلى 11 مليون فدان مساحة أرضية ونحو 22 مليون فدان مساحة محصولية. وحينئذ يمكن زراعة 4 ملايين فدان بالقمح تنتج 12 مليون طن، وزراعة 3.5 مليون فدان بالذرة تنتج 12 مليون طن، وخفض مساحة الأرز إلى 1.2 مليون فدان تنتج 6 ملايين طن أرز. هواجس الاكتفاء الذاتى الهاجس الأعظم لدعاة الاكتفاء الذاتى من القمح فى مصر يقوم على احتمالية استعماله فى منازعات السياسة الدولية كسلاح استراتيجى للتجويع، وهى احتمالية لا يجوز نفيها المطلق لخطورتها البالغة. ويغذى هذا الهاجس فى العقل الباطن ما قام به عرب البترول من استعماله كسلاح استراتيجى عقب نشوب حرب أكتوبر المجيدة، بتشجيع وربما بإيعاز من مصر. ويستحضر دعاة الاكتفاء الذاتى قصة أحداث وقعت نحو منتصف ستينيات القرن العشرين، حينما تصارعت مصر سياسيا بشىء من الخشونة مع الولاياتالمتحدة، فامتنعت الأخيرة عن تسليم شحنات قمح متفق عليها. وقيل وقتها أنه لولا شهامة الاتحاد السوفييتى الذى سارع بتحويل سفن محملة بالقمح من أعالى البحار للموانئ المصرية لحدثت مجاعة لنفاد رصيد المخازن. والقصة بهذا النص تتجاهل أن القمح الممنوع كان منحة أمريكية، يتطلب تسليمها إظهار حد أدنى من توافق سياسات الأطراف، وهو ما لم يحدث أيام مجريات القصة، ناهيك عن التغافل عن رصيد غذاء قومى يقارب الصفر. والقصة التى يمكن أن تعطى وجها آخر للقمح فى السياسة الدولية وقعت بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتى فى أوج الحرب الباردة مع نهاية ستينيات القرن العشرين، حيث أدت أحوال مناخية بالغة السوء إلى انهيار محصول القمح بالاتحاد السوفييتى. فلما طلب شراء ملايين الأطنان من الولاياتالمتحدة رحبت بالصفقة، غير أنها أصرت على أن يكون الدفع مقدما، وأن تقتضى السعر بالذهب وليس بالدولار. وفى النهاية كان للولايات المتحدة ما أرادت وكان للاتحاد السوفييتى ما أراد. والقصة الثالثة التى لم تتناولها الأقلام حتى الآن بما تستحق من تحليل هى خلفيات التقلبات العنيفة التى شهدتها أسعار معظم السلع الغذائية منذ بدايات عام 2008، مقدمة للأزمة الاقتصادية الخانقة التى تجتاح العالم فى الوقت الحاضر. وظاهر الحال أنه تسربت(؟) تقارير تتنبأ بتراجع محصول القمح القادم لعدة بلاد منها كندا وأستراليا. وقبل أن يتيقن عقلاء الناس من هذه التسريبات اندفع مضاربون ينفخون فى بورصات القمح الرئيسية ليقفز سعر الطن من 150 إلى 350 دولارا خلال عدة أسابيع. وأصيبت دول اعتادت تصدير ملايين قليلة من القمح كالهند وكازاخستان برذاذ حمى لا عقلانية فتوقفت عن تصديره، وكان هذا مبررا لتسريع إيقاع النفخ فى بورصات القمح فكاد سعره يشارف 500 دولار للطن. وعلى الرغم من توافره بأسواق منتجيه الرئيسيين كالولاياتالمتحدة وفرنسا والأرجنتين، فقد كان السعر المعروض مستحيلا لمعظم الدول النامية المستوردة. وصاحب هذه الارتفاعات المجنونة موجات تصاعدية تستعصى على الفهم قفزت بأسعار الذرة والأرز والسكر والبترول والعقارات إلى مستويات خرافية، ثم ذهبت السكرة فى الأسابيع الأخيرة من العام، وتمخضت البورصات الكبرى فولدت خرابا يبابا أصاب الدول المتقدمة وبورصاتها المنفلتة فى الصميم، كانت إحدى حسناته مع الأسف والأسى عودة أسعار الغذاء إلى مستوياتها السابقة على الأزمة ولكن الموارد النقدية للدول المستوردة للقمح تعرضت للتآكل. تكاملية منظومة الأمن الغذائى الخلاصة المفيدة التى يود كاتب هذا المقال التأكيد عليها هى تعدد وتشابك متغيرات ومحددات الأمن الغذائى فى مصر، بما يتجاوز قدرة خبير أو بضعة خبراء على السيطرة على كل تعقيداتها وفك طلاسمها ويستحق الأمر إنشاء هيئة مؤسسية ذات مرجعية عليا تتكفل بوضع سياسات وبرامج الأمن الغذائى ويمكن للهيئة أن تتضمن عدة وحدات متداخلة منها وحدة لإدارة قواعد بيانات موثقة يقوم عليها خبراء متخصصون كل فى مجاله، وتختص وحدة ثانية ببناء سيناريوهات وتصميم نماذج رياضية تتناول مقاربات إنتاج وتوزيع استهلاك الغذاء، يشارك فى وضعها خبراء العلوم الرياضية والعلوم التطبيقية والعلوم البيئية والعلوم الاجتماعية، ويقوم فريق متكامل فى وحدة ثالثة بفحص النماذج الرياضية المقترحة لضبطها ثم تقييمها علميا بتنفيذ سلسلة من المشروعات التجريبية المتتابعة. والمقاربات الموضوعية لسيناريوهات الأمن الغذائى متعددة، وتتشابك مع بعضها رأسيا وأفقيا لبناء منظومة متكاملة ويأتى فى مقدمة المقاربات دروس ومردودات آلية إنذار مبكر ترصد بيانات إنتاج الغذاء محليا وأنماط الاستهلاك، والمخازن والأسواق المحلية والعالمية، وترتيبات عمليات الاستيراد سعرا ومكانا وتوقيتا، والحوافز السعرية والنسب الضريبية والشروط المرجعية لأحقية حصول المستحقين على الغذاء المدعم، وتعمل آلية الإنذار المبكر أيضا على توصيف إجراءات طوارئ للظروف الاستثنائية وتحديد مسئوليات ملزمة لإدارات حكومية وأهلية عن برامج تنفيذية تبادلية للتعامل بكفاءة مع الأزمات حال حدوثها. وتهتم مقاربة ثانية بالأمن الغذائى بصفته ركيزة أساسية لجهود الدولة فى مكافحة الفقر، ضمن التزامها بتحقيق أهداف الألفية الجديدة للتنمية، واعتبار اهتزاز الأمن الغذائى أحد الانعكاسات الرئيسية للفقر، وتشير إحصائيات إلى أن نحو 20٪ من المصريين لا يحصلون على كامل احتياجاتهم الأساسية من الغذاء لوقوعهم تحت خط الفقر، وهنا تتبدى ضرورة التفرقة بين الطلب الكلى والطلب الفعال على الغذاء، حيث هناك الملايين التى تحتاج الغذاء ولكنها لا تستطيع لفقرها أن تشتريه. وتتبدى أيضا أهمية تحديد نقاط تفاعل مرنة للتوازن الديناميكى بين دور الدولة فى الرعاية الاجتماعية تقوم بمقتضاها بدعم غذاء المحتاجين، ودورها فى التنمية الاقتصادية بتهيئة فرص العمل المجزى وتحسين وتنويع مصادر الدخل. وتتناول مقاربة ثالثة اتساع فجوة البروتين الحيوانى فى غذاء معظم الناس، وآثارها على الصحة العامة، وأساليب تضييقها بالاستيراد على المدى القصير، وتحسين كفاءة الإنتاج الفردية للحيوانات المحلية بديلا عن زيادة عدد أفراد القطيع فى المدى المتوسط، ويرجح هذا الاتجاه تواضع إنتاجية البقرة المصرية إذ تعطى نحو طن واحد من اللبن سنويا، ونحو 180 كيلوجراما صافيا من اللحم، وللمقارنة فإن بقرة الدول المتقدمة تعطى ستة أطنان من اللبن و280 كيلوجراما من اللحم، ويمكن لمزارع الدواجن والمزارع السمكية أن تسهم فى سد جزء من فجرة المنتجات الحيوانية، حيث لا يتطلب ذلك توافر رءوس أموال كبيرة أو تكنولوجيات معقدة، ومع منطقية وأهمية تضييق فجوة البروتين الحيوانى فى غذاء معظم المصريين لابد من استيعاب ما هو معلوم عن زيادة الإنتاج الحيوانى بالضرورة وهو أنه يرتبط بتعاظم كمية المياه الافتراضية اللازمة لإنتاجه. ويمكن لمقاربة رابعة أن تختص بجرد استخدامات الموارد المائية لتلبية احتياجات الشرب والزراعة والصناعة والملاحة لمحدودية حصة مياه الرى فى المستقبل المنظور، لأسباب بعضها فنى وبعضها اقتصادى وبعضها سياسى. ورربما كان ذلك حافزا قويا للتركيز على تحسين كفاءة تخزين ونقل واستخدام المياه.، واستنباط تكنولوجيات ابتكارية للاستفادة من المياه العادمة ومياه البحر إلى الشمال والشرق، ويقتضى تحلية هذه المياه على أسس اقتصادية استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة، بعد تطويع معارفها البازغة فى علوم وتكنولوجيا هندسة المواد. والبيئة التمكينية التى تسمح ببناء منظومة متكاملة للأمن الغذائى، هى بيئة كاشفة لمجتمع يسود فيه قدر كاف من التحضر الرصين تنطوى مقوماته على إعمال العقل، والإيمان بالعلم، وإعلاء قيم العمل، وشفافية اتخاذ القرارات، وحينئذ سوف تكون مصر مثل اليابان فى عام 2006 تستورد جزءا من غذائها وتصدر سلعا وخدمات بأضعاف قيمة ما تسورده من الخارج، بلا خوف وبلا أوهام.