لا يستطيع الآدمي أيًّا كان مبلغ عناده وعزمه أن يتمرد من كل وجه علي المحيط أوالجماعة فيما اعتاده وجري عليه المحيط .. وتمرده إذا تمرد هو تمرد جزئي جانبي فقط .. يعبر به عن أمور لا يرضاها بأمور أخري أصح أوأفضل في نظره، أو لأنها تعبر عن تمرده وسخطه علي محيطه ومقاومته إيّاه وازدرائه له للعيوب التي يأخذها عليه . هذه العيوب التي قد يطويها وقد يذيعها علانية فلا ترضي فريقاً من الناس، لكنها لا تكفي لإثارة تمردهم ولا تصلح لإثارة غالبيتهم !! • كما تدين تدان : ناموس كوني، لو أدركه الناس لاختفي كثير من الشر ! لو عرف الآدمي وأدرك إدراكًا حقيقيًا أنه مخلوق لا يخلق، وأن لله تبارك وتعالي في خلقه شئونا، لما استغرب وجود هذه الندرة التي تبدو بخارج سرب العاديين من الناس، ولعرف أنها هبة ربانية منحها الخالق جل شأنه لمن يشاء . الناس بقدراتهم المحدودة يملؤهم المعتاد والمتشابهات علي اختلافها، والفريد لديهم قليل بل بالغ الندرة جدًّا ! تضمر إنسانية الآدمي، وقد تفسد وتضطرب حينما يترك روحه للنزعات والأهواء تتلاعب بها منساقًا وراء عدم إيمانه بالعقل والمجاراة المسايرة لدنياه ! لا تكف مجتمعاتنا عن الإشارة أو الإشادة بما تصورته لدي هذا أو ذاك من مناقب تدعو للإعجاب والانبهار . هذه المناقب قامت علي أحداث وإنجازات كانت ومضت قبل أن يعتري أصحابها ما اعتراهم من ذلك، وهذه آلية تنسي الآدمي اعتماده علي داخله وأعماقه لأنها تحصر حركته بين أسباب خارجية للانبهار وأسباب خارجية للقنوط .. وهذه وتلك مصادر بعيدة كل البعد عن أعمال الإنسان وما يجري فيها قبل أن يطمرها اعتياد المجتمع علي عدم الالتفات إلي الأعماق في هذه الأيام وفيما شابهها في الماضي القريب أو الماضي البعيد ! البشر ضمن جميع الأحياء في أرضنا، يعيشون دائمًا علي السطوح وليس علي الأعماق من عملية الخلق .. ولن يتجرد الآدميون قط من هذه السطحية .. عالمهم وجاهلهم، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، متحضرهم ومتخلفهم .. وبدون سطحية الآدمي الملازمة له بالطبيعة ما أمكنه أن يتحضر بل ما أمكنه أن يعيش .. لا هوولا أي حي آخر علي الأرض .. فلولا سطحية الآدمي وانطلاقه فيها وتطوره معها وإصراره علي الاندفاع فيها ما وجد أحد منا الآن علي الأرض ! لا جدال أن انتقاء عبارات العزاء والمواساة صعب، ولكني لم أجد أسخف من عبارة : » البقية في حياتك » ! .. فلا بقي من الميت بقية وقد انتهي عمره وغادر الدنيا إلي غير رجعة، ولا يمكن للأعمار أن تنتقل وأن تضاف ! .. أحسن الصنع من اختاروا عبارة أكثر صدقًا وتعبيرًا : » البقاء لله » .. نعم، كل من عليها فان، ويبقي وجه ربك ذوالجلال والإكرام . سرعة اليأس تجعل النجاح بعيدًا والعمل السهل صعبًا ! الجدران التي تقيمها حولك لتصد طعنات السهام، تحجب عنك الضوء وأيضًا عطور الحدائق !! نحن دائماً نتصور إمكان الجمع بين النفع والانتفاع في كل عمل نقصد ونعني بتنفيذه، ونتناسي أن دافعنا الأساسي إليه هوجانب الانتفاع الشخصي به أولاً وأخيرًا انتفاعًا ذاتيًّا خالصاً لأنفسنا !، فنحن منذ خلقنا نغلف بطريقة أوبأخري أغراضنا الذاتية بإطار خارجي من إمكان الانتفاع والانشغال بالهم العام ثم لا تلبث هذه القشرة الخارجية أن تتهاوي وتتطاير وتبرز فيها أمانينا وأطماعنا ومعها الاتهامات والشكوك وفقدان الثقة العامة الذي يودي بحضارتنا . إننا في معظم الوقت في ضباب يقظتنا الذي لا ينجلي فلا نري الأمور والأشياء علي حقيقتها، وإنما نشاهدها من بعيد من خلال الكلام والأوصاف والفروض والمعاني والأفكار والنظريات والاعتقادات والعلاقات والارتباطات والشكوك والعداوات وما نسميه تارة بالسلام وتارة بالحرب ! روي أحمد بن أبي الحواري أنه دخل يوما علي أبي سليمان الداراني فوجده يبكي، فسأله : ما يبكيك ؟! قال الداراني : ولم لا أبكي، وإذا جنَّ الليل، ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم علي خدودهم، وتقطرت في محاربهم، وأشرف الجليل سبحانه وتعالي، فنادي : يا جبريل، بعيني من تلذَّذ بكلامي واستراح إلي ذكري، وإني لمطلع عليهم في خلواتهم .. أسمع أنينهم .. وأري بكاءهم . فلم لا تنادي يا جبريل : ما هذا البكاء ؟! هل رأيتم حبيبًا يعذب أحباءه ؟ يبدوأن عقول كثرتنا إلي اليوم وإلي مستقبل لا نعرف مداه أضعف من أن تفلح في تحريك إرادتنا وعزائمنا إلي الإصرار علي مقاومة عاداتنا التي تحبسنا وتحاصرنا وتسترسل إمعانًا في إرباك حياتنا . وربما كنا من طريق الخيال واللغة نبالغ في تصور قدراتنا علي الاحتفاظ بهذا الذي نتوهم أنه تقدم وترقٍّ فعلي، بينما هوفي واقعه موجات قد تعلولكنها سرعان ما تنحسر وتتراجع وترينا وتذيقنا مرارة فشلنا ويأسنا ! البشر مثلهم مثل كل الأحياء الأخري، يتوالدون أويفرخون أويفرزون أوينبتون، لكن لا يصنعون هم ما ينتجون من الأحياء .. ولذلك كان كل ما يتوالده البشر .. القديم والجديد .. مفروضًا ليس منه مناص .. حتي في الأحوال القليلة جدًّا التي يتدخل فيها الطب والعلم لتوجيه نواح في الجنين قبل مولده ! العقل واحد من حيث إنه يتجه إلي غرض يسمي الحقيقة، والحقيقة وظيفتها أن تكون بؤرة تجتمع فيها وإليها الأنشطة العقلية، وهي لا تكون كذلك ما لم تكن واحدة بالنسبة لكل العمليات التي تتوخاها وتتجه إليها .. ووحدة الحقيقة هي بطبيعة الحال وحدة وظيفية .. ليست وحدة مادية أووجودية . عند أغلبية الناس تعلوقيمة القديم الذي اعتادوا الرجوع إليه، علي قيمة الجديد بالغًا ما بلغ سنده حتي في البلاد المتقدمة جدًا .. فهم لا يقبلون جديدًا من أحد إلاّ إذا لم يعارض أويتجاهل أويستخف أويتصادم بقديم مألوف معروف، فإذا انزلق إلي هذا المغمز سَخّفَه الناس . إنْ لم يعادوه انحيازًا منهم لما ألفوه ووقروا عليه مما قرأوه أوسمعوه واعتادوا من قديم قراءته أوسماعه !!.. ولا جدوي من وضوح الدليل المعارض وقوة عارضته وحجة منطقه إلاّ أن ينصاع الجمهور شيئاً فشيئاً للتجربة العملية الجديدة الناجحة ويعتاد الأخذ بها فيقيم بذلك اعتيادًا جديدًا !!! لوتأملنا لأدركنا أن » الوجود » هوأساسا وجود وقتي، وأن » الزوال » هوقدر الحياة ! الآدمي علي ما عرف فيه من خبث وجشع وشيطانية فيه أيضًا شيء رباني يأخذ به وبيده وفهمه إذا التفت إليه .. يأخذ به إلي أعلي وإلي أوضح وإلي أعمق وإلي أبعد وأعجب مما اعتاد عليه .. وهوإلي اليوم دائم الترنح علي ما فيه من تلك الشيطانية المعتادة التي تجره إلي الانحطاط .. يترنح بين كثرة الجهل وقلة العارفين، وبين الاندفاع في الأطماع وقلة الأمناء الصادقين المتواضعين، وبين كثرة أهل الشر وندرة البررة الخيرين ! .. فهل يمكن أن تنعكس هذه الحال قبل أن يلتهم الدمار الشامل حاضر البشرية كلها بكثرة أشرارها وقلة خيارها ؟! مساعينا العامة والخاصة يعوزها دائمًا الإخلاص وصدق النوايا، وهما عاملان لا يحفل بهما الآدميون كثيرًا في أي زمان ومكان برغم لزومهما لاستمرار نجاح الأعمال والمشاريع والبرامج والسياسات ! الإنسان كما الحياة، أحواله في صيرورة دائمة لا تتوقف .. يتغير كل منا في حياته .. مع جيله وسنه مرات ومرات .. خاصة إن طال عمره .. وهذا مطرد دائم في أجيال آبائنا القريبين، وفي أجيال آبائنا البعيدين .. وأجيال البعيدين البعيدين جدًّا .. الذين لا نعرف حتي أسماءهم، وقلما نهتم بمحاولة معرفتها ! من خرج من نوازع نفسه، أزال الحجاب بينه وبين الله .