محال أن يكون العارف العالم مغرورًا ، فالثقة بالنفس وما جنته من علم ، ليست غرورًا ، وإنما يصاحب الغرور من نضبت معارفهم واتسع جهلهم وقد ينصرم عمر الواحد من هؤلاء دون التفطن إلي أن قيمة ما لديه في الشأن الخاص والعام ، متوقفة علي « قاعدة معلوماته » ، وعلي ما استطاع فعلاً أن يجنيه من معرفة فيما مَرّ من رحلة حياته. ولا يغالي إلاَّ الجاهل في قيمة ما لديه ، فالعالِم يتطامن بعلمه ، ويطمع في المزيد ، وشعاره ما جري به الحديث ، نهمان لا يشبعان : طالب علم ، وطالب مال ! أما الجاهل ، فثقته في علمه المظنون ، ثقة ضريرة ، وغالبًا ما يكون لهذه الثقة المغرورة جذور من تدليل النفس في الصغر ، ومن «المراهقة » الممتدة في سنوات العمر ، وكثيرًا ما يصاحب هذا الغرور اعتقاد كفيف بامتلاك ناصية الحقيقة ، ومفاتيح المعرفة والصواب! عَالَم الجهول.. يضيق بثقته المغرورة ! ما يتزود به العالم من عزم علي طلب المزيد من العلم ، يفتقده الجاهل الذي يظن أنه أعلم الناس ، ولا يعي مع تسرب هذا الظن الضرير إليه ، أن حدود عالمه الشخصي تضيق باستمرار ، ودون أن يشعر. وتضيق معها فرص تعلمه شيئًا مفيدًا ، الأمر الذي يعيقه وهو غافل عن تنمية صلاته وروابطه وجسوره ، ويعرضه للأخطاء والخسائر ، ولهزائم وانكسارات وربما محن ، دون أن يدرك سببها الحقيقي ! وكلما تمكن هذا الداء من صاحبه ، ازدادت ثقته المغرورة في آرائه وفي أحكامه ، وازداد استخفافه بآراء غيره ، ومع الوقت يزداد عدد من ينكرهم وينكرونه ، حتي يصير وحيدًا في شيخوخته ، يتباعد عنه حتي الأصدقاء والأقارب ، نفورًا من جهله الذي يريد أن يفرضه علي العارفين ! وغالبًا ما يفرز هذا « الانفراد » مزيدًا من الكسل النفسي والذهني والعقلي ، حتي ليكاد المرء يعيش مع خيالاته التي يخفت بريقها بمرور الزمن ، وتتحول إلي ترديد مرارات وإفراز مواجد وأحقاد ! فلا يعود يسمع صوتًا للحب ، ولا ترحيبًا شجيًّا يعبر عن الوفاء ويؤنس الوحشة! وكثيرًا ما تؤدي هذه المراهقة ، وتدليل النفس الذي يورث إدارة الظهر للآخرين كثيرًا ما تؤدي إلي الشقاء والعزلة ، وتجرع المرارة في الشيخوخة ، وكم من ملايين من هؤلاء ينهون الشطر الأخير من حياتهم نهاية محزنة! الطبع أظهر في الصغار ! الصغار الذين أعنيهم ليسوا صغار السن بالضرورة ، وإنما صغار النفوس والعقول ، فهؤلاء لا يستطيعون بصغارهم أن يقاوموا ويقوّموا طغيان الطبع ، فيظلوا أسري حقيقيين للمقولة الجارية «إن الطبع يغلب التطبع » ذلك أن المدرسة الكبري في الحياة ، هي العلم والمعرفة وما ينمّيه الاختلاط والامتزاج التلقائي والعلاقات الصحية من خبرات تنبني عليها الحياة الاجتماعية ، وعلي قدر اتساعها أو ضيقها يكون الحظ من التعايش وتبادل الخبرات والآراء الناضجة في الحياة. ومع انحراف البوصلة الجهولة ، يفقد الكبار السهولة التلقائية الغنية التي كانت مقرونة في الصغر بالبهجة والمسرات ، ويختزنون توجسات ومخاوف ، ويتحجرون علي تصورات القديم الجامد ، ولا يمل الآباء من زرعها في أولادهم ، والإلحاح بها علي غيرهم! العداوات الموروثة ! ليس صحيحًا ما يتصوره البعض أن عالم البشر قد صار أفضل تقاربًا بحكم سهولة الاتصال والاختلاط ، فلا يزال في أعماق كثير من الناس موروثات الأصل والجنس والمعتقدات ، والتفرقة بين الشرق والغرب ، والأوروبي والآسيوي والأفريقي ، والأبيض والأصفر. مقرونة بمعالم داخلية متجذرة تشعل الخصومات وتثير النفور وسوء الظن ؛ وتحول دون التفاهم واستتباب الثقة والأمان والانتفاع بفرص التعاون وإفساحها للاستفادة من الإمكانات العظيمة التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة في وسائل الاتصال والنقل والصناعة وغيرها. ولا شك أن ماضي البشر وأساطيرهم وموروثاتهم ، قد لازم وخالط تطورهم ، وبث مع الجهل والجهالة سموم الخوف والشك وسوء الظن ، وطبع سلوك الكتل باليأس من الاحتياط للمستقبل ثم الانصراف للحياة بثقة وأمل. الجهل الكثيف في محيط من لا يتعلمون ! من اللافت أن الجهّال أدعياء العلم والمعرفة ، لا يتفطنون إلي شدة جهل الآدمي بنفسه وذاته وجسمه وعقله ، وأحوال يقظته ونومه ، أو ضحكه وبكائه ، أو حبه وكرهه ، أو رضاه وسخطه.. وجهله بعالمه الكوني المشاهد وغير المشاهد ، وبما وراء هذه الأكوان. ما أفدح جهل الإنسان بالخالق عز وجل ، الذي خلق ذلك كله وأبدعه ، ويسير مجراه منذ الأزل وإلي الأبد ، من وجود وعدم ، وظهور وخفاء ، وكبر وصغر ، واتصال وانفصال ، وزيادة ونقص ، واتفاق واختلاف وغير ذلك مما لا يستطيع الآدمي أن يتصوره تصورًا حقيقيًّا أو يعبر عنه تعبيرًا يفي بفهمه فهمًا حقيقيًّا. والعارف العالِم هو الذي يحس ويدرك ضخامة هذا الجهل ، لذلك قيل إن العالم يشقي في النعيم بعلمه ، لأنه يفتح أمامه رؤيً واحتمالات، ويثير في عقله موازنات واختيارات بين البدائل التي يهديه إليها علمه وعقله، بينما الجاهل في ارتياح، لأن رؤيته ضيقة، لا تثير لديه ما يثيره العلم لدي العالم العارف. وليست هذه الوضعية بعيدة عن الأمثال، فهي توري بأن « النعيم » حالة مشتركة بين كل من لا يعرف، سواء لجهلٍ أو لعاهةٍ في العقل، فيقال : « المجانين في نعيم »، ويقال : « وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم ». العالِم الجاد العارف هو الذي يصاحبه المزيد من الشعور بقصور ما لديه ، وعظم وجلال وكثرة ما يجهله ، والرغبة في معرفة ما يستطيع معرفته مما لم يهتد إليه علمه ! ومع ذلك فإن ما لدي العالِم العارف محض بصيص من العمق والحكمة ، يتحرك بداخله لينير طريقه ويجنبه الزهو الباطل الكاذب ولو أدرك الجاهل ذلك لتطامن واقتصد في حجم ما يدعيه من علم ، وما يزعمه من القدرة علي سداد الرؤية واحتكار الصواب ! الحاجة الدائمة إلي المعرفة يستقبل المولود الحياة بالبكاء، مغمض العينين، محوطًا بمجاهيل مطلقة، كثيفة غامرة، ويبدأ التعرف علي ما حوله شيئًا فشيئًا، يحصل المعرفة النسبية من محيطه وعلي قدر استعداداته المحدودة، ومع مراحل النمو، تزداد باستمرار دائرة المعرفة، ويصاحبها الرغبة النسبية المتفاوتة في الاستزادة من المعارف، تدفعها أشواق فض الغموض، والتعرف علي المجاهيل، ولكن الآدمي لا يفعل ذلك من أجل مقصود مطلق وغاية أزلية كونية، وإنما من أجل مراد إنساني محدود بالغاية الحياتية واحتياجاتها، فيما يتفاوت الناس في القدرة علي فهمه وتحصيله. والعقل هو أداة الإنسان للفهم والتعقل، وللعلم والمعرفة، وهو نعمة الله الكبري علي الإنسان، والعرفان بنعمة الله، يقتضي استثمار هذا العقل فيما هيأه الله له من وظائف، وزوده به من ملكات، ملكة الفهم والإدراك، والفكر والتفكير، وملكة العلم والمعرفة، وملكة الحكم علي الأشياء، وهذه الملكات هي زاد الساعي في الحياة بأشواق المعرفة، الراغب في حسر ظلام الجهل بنور العلم والمعرفة. والشوق إلي العلم والمعرفة لا يعرف حدودًا، ويدرك أن الدنيا بأسرها في حالة « صيرورة »، وأن من يتوقف في تحصيل روافدها، يتراجع، فالحياة لا تكف عن هذه الصيرورة، ولا عن القذف بكل جديد، فيتطور العلم، وتتطور الفنون والآداب، وتتطور السياسة والنظريات والنظم السياسية، والمفاهيم الاجتماعية، وكل ذلك يمثل تحديا للإنسان أن يلاحقه ويلم به ويفرزه ليتبني الصالح، وينحي الطالح الذي لا نفع فيه. ويبقي الآدمي قادرًا علي توسيع مداركه وتعميق رؤيته، ما بقيت أشواقه مشدودة إلي المعرفة، راغبة فيها، حريصة عليها، غير مكتفية بما حصلته منها، فإذا قنع بما لديه، وتصور أنه علم، فقد جهل، فالعلم بلا حدود، مثلما كثافة الجهل بلا حدود، ومن هنا حاجة العقل الدائمة إلي زيادة علمه ومعارفه. من آفات الزهو والغرور ! كان الخيال والتصور والاستنباط أساس ما حصله الإنسان من أفكار ومذاهب ومبادئ، وأساس ما عرفه وحققه من ثورة في العلوم.. أطلقها العقل البشري والخيال البشري والإصرار البشري والمثابرة البشرية.. ومن الجهالة والتحجر، استغلال ما أتاحته هذه الثورة الهائلة ماديا وفكريا، في استخدام السيارات والطائرات والانترنت والفاكس واللاسلكي والكمبيوتر والراديو والتليفزيون والإليكترونيات، دون فهم أن أساسها هو حرية عقل الإنسان، هذه الحرية التي أتاحت للعقل إبداع وابتكار وإنتاج هذا كله، ودون فهم أن التفكير يلتقي بالعلم والدين معًا، وأن بهما صناعة الحياة وعيشها، وأنه لا تناقض بين العلم والحضارة وبين الدين. ولكن غرور الجاهل يغيب عنه ذلك ، وقد لا ينجو العالِم أيضا من عماء الغرور، حين يتصور أنه صار يعرف غير المحدود والمطلق والأزلي والأبدي، فيتوهم أن هذه المعرفة قد خولته تجاوز آدميته وبشريته، ومكنته من تخطي حدوده هذه كما يجب ويشتهي، ومن هنا كان غرور البعض الهائل وزهوهم بما يعرفون ويبدعون ويتصورون، وكان اعتزازهم بما لديهم من المعرفة النسبية، وعدم تفطنهم للمحيط الواسع المجهول من حولهم، بلا حدٍّ ولا نهاية ! ولا تلتفت غالبية الناس، إلي أن معظم ما يعرفونه ويباشرونه مما يتصل بحياتهم وأنشطتهم المختلفة المتنوعة، إنما مصدره الممارسة واعتيادها، لا الفكر أو النظر أو الرؤية، وأنه بدون مداومة هذه الممارسة والاعتياد عليها تضمر أعضاؤهم واستعداداتهم المادية والحسية. ومن المهم أن يعرف الآدمي أن معرفته مهما اتسعت نسبية، وأن يتفطن إلي أنه مع ولادته جاهلاً جهلاً تامًّا، فإنه يولد مزودًا في الوقت ذاته باستعدادات متنوعة تمكنه من المعرفة والتعلم بمرور الوقت، وبتجاربه واحتكاكه واختلاطه، وأنه يمكنه بالسعي الدءوب أن ينمّي معلوماته ومعارفه ، وأن يحسر كثافة المجهول بالمزيد من التعلم لا بالغرور والادعاء والاكتفاء. حين يدرك الآدمي كم يكون سعيه للمعرفة نافعًا يفض مغاليق الجهالة، ويؤثر تأثيرًا مجديًا في حياته، فإنه سوف يتجاوز الانحصار في أغراضه الشخصية أو الذاتية، وسيعرف أن الواحد للكل، وأن الكل إنما يصب في الواحد، وأنه قسيم مشترك في الحياة، لا تستقيم حركته ما لم يكن نافعًا لحياته، ونافعًا في الوقت ذاته للناس وللحياة !