دار الحديث, فيما سبق, حول الصلاة في الأديان السماوية, وكيف يجمعها أنها ايمان وذكر وإخبات وتبتل وخشوع, وطفنا ببعض ماورد بالقرآن المجيد حول هذه الصلاة ومقوماتها التي يجمعها الخشوع والإخلاص في التعبد الي الله. وإلقاء كافة المقادير إليه سبحانه وتعالي, وألممنا بما ورد في الإصحاح السادس(9 13) من إنجيل متي في العهد الجديد, من عبارات تمثل صلاة خاشعة بها يخاطب المخلوق خالقه أن يسود سلطانه ويتبع الناس هداه علي هذه الأرض, كما يتبعه أهل السماء.. وقلنا إن قوام الصلاة إخلاص الآدمي في الاتجاه بها الي الخالق عز وجل, ينتوي بها طلب المعونة منه, راضيا بالمقسوم له بلا مداهنة ولا افتعال, في توجه ينفض فيه كل مااعتدنا علي تعظمه من المنزلة والكرامة والمكانة الدائرة حول الذات. بذلك يمكنه ان يرفع رأسه حقيقة الي السماء ضارعا ومقلبا عينيه في هذا الوجود الباهر, في فهم عاقل للكون. ومن الناس من يفضلون الألفاظ علي المعاني, ويؤثرون العموم علي الالتزام بموازين أو مقاييس استعمال الكلمات, وهذه ظاهرة اجتماعية, تردد فيها الأسماء والصفات بلا تفطن حقيقي لمعناها, فيصير المجتمع هو المعبود الفعلي الذي تعود إليه دون أن ندري عبارات التنزيه أو التقديس المتواتر اطلاقها بلا تفطن لتعيننا علي الرضاء بالعيش في إطاره, وهذا الالتصاق الغريزي بالمجتمع ووراء تدين جماعات الناس بأديانها ومللها ونحلها, ووراء تباين الصور المختلفة التي يتخذها دين كان في الأصل دينا لجماعة واحدة بعينها في الجماعات المتباينة الأعراف والبيئات.. وهذا الالتصاق هو هو الذي وراء انصراف المجتمع عن الدين وإهماله إياه وعدم مبالاته به! وقفنا من ذلك عند التدين كظاهرة أو موهبة فردية قوية تلازم الإنسان منذ الصغر, وقد تنمو مع نمو العقل والنفس والقدرة علي التأمل والمقارنة والنظر, وقد يزيد نموها كما قلنا الي حد الإفاضة علي كل من يتصل بها. أما التدين كظاهرة اجتماعية فهو امتصاص مجتمع معين لدين معين امتصاصا يصبح به هذا الدين من مقومات هذا المجتمع.. وهذا الامتصاص لا يحتاج الي توافر موهبة لدي المعتنق بل يكفي فيه التقليد الإرادي واللاإرادي ورضاء المقلدين عن تقليد بعضهم بعضا وعن نجاحهم في التقليد وأفضلية حالهم بعده عما كانت عليه قبله.. فليس في بنية هذا النوع من التدين إلا ماهو مستعار من الجماعة التي تدين به أو نجاح هذه الجماعة وتاريخها إجمالا أي في هزائمها وانتصاراتها وتشريدها وانتشارها. وفي الجماعات التي تنتمي الي دين أو ملة معينة يغلب التدين اذا غلب كظاهرة اجتماعية فقط.. قوامها تقليد الكثرة وتمسك هذه الكثرة بتقليدها او بتقاليدها.. ولا يكاد يلاحظ فيها التدين كموهبة فردية في انسان بعينه.. لان الاغلبية الغالبة تفرض رؤيتها عن طريق أئمتها واحبارها وعلمائها وكهنتها. فلا يكاد يسمع في هذا الجو المسيطر صوت لموهبة او نداء لعقل تأمل أو قارن أو نظر الي ما هو أبعد أو اعمق من رؤي المجتمع المتدين والمتحدثين باسم هذا المجتمع. وفي الازمات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية يستعمل الرؤساء الدينيون إما في محاولات التهدئة أو في محاولات الاهاجة والإثارة.. ويتنازعون علانية فيما بينهم, أو يجتذبون الي جانب كل فريق فريقا من عامة الناس انحازوا لهم في حقهم وباطلهم متأثرين بكيفية احساسهم بالازمة. فينعكس علي الجدال او العراك العام لون ديني تثار فيه قضايا دينية قديمة كانت قد نامت من قرون.. وذلك بطبيعة ان الدين كظاهرة اجتماعية هو تعلق بماض غال علي الناس.. لايتغير مع تغير الاحوال في المستقبل القريب أو البعيد. وقد كان هذا الاتجاه الي الماضي لا غبار عليه في الجماعات البشرية الي القرن الثامن عشر في اوروبا, وظل لا غبار عليه في الشرقين الادني والاقصي الي نهاية الحرب العالمية الأولي, وبدأ الاتجاه إلي المستقبل الذي انتشر في أوروبا الغربية وامريكا الشمالية يسري الي بقية اجزاء العالم كخطي سريعة او بطيئة علي قدر حظ كل جزء من اليقظة والاجتهاد والمثابرة والاصرار علي المنافسة في الزيادة من العلوم والمعرفة والتطور والتفوق في ذلك. فأدي ذلك بالاديان المعروفة المعترف بها الي مأزق لم تعرف له سابقة.. هو افتراق الحاضر عن الماضي افتراقا شاسعا لا سبيل الي ان تعيش الجماعة دون التسليم به والاعتراف بضرورياته ولوازمه ومقرراته.. ودون ان تهيئ نفسها لمقابلة ومواجهة اتساع الفارق المستمر بشكل اكثر عنفا في مستقبل قريب جدا نظرا للسرعة الهائلة في التطور التكنولوجي والتقدم العلمي المبني عليه أو الباعث له. هذا التطور العالمي الهائل ابرز ويبرز مسئولية الانسان كفرد.. ومسئوليته كفرد ضمن مجموع لا عن ماضيه فقط, بل وعن مستقبله ومستقبل المجموع الذي ينتمي اليه.. وهذا لا يتحقق فقط بدوام العبادات, وإنما لابد من دوام الفهم والتعلم واليقظة الي ما كان خافيا والالتفات الي ما أبصره وعرفه الآخرون ومساهمتهم فيه وإعانتهم علي المزيد من البصر والمعرفة لتجنب خطايا المستقبل, وهي أدهي وأفدح من خطايا الماضي.. ولاغتنام نجاح الأيام الآتية والزيادة المطردة في نجاحها تشريفا للآدمي في اداء رسالته في هذا الكون العظيم. وإذا كانت الحياة المنصرفة الي الفوارغ والتوافه والجهالات خليقة بالهوان والاحتقار لانها تحيل نعمة كونية الي سراب وتراب فان الحياة الجادة التي تطلب ما هو جاد ولتزيد منه لخيرها وخير أمثالها, تمضي في طريق نعمتها الي الأمام متدفقة من حال الي حال.. اكثر بركة وأعمق فهما وأشد إحساسا بالتبعة وترحيبا بكل ما يزيد المعرفة ويكشف عن اسرار الوجود حولنا ويرفع من رأس الانسان العاقل الفاهم في حواره مع نفسه, أو مع أمثاله أو إزاء خالقه تبارك وتعالي. إن التدين كظاهرة اجتماعية جزء من حياة المجتمع الانساني.. لم يكف قط عن التغير والتطور في الماضي مع تطور وتغير مقومات حياة الناس وظروف عيشهم ومقدار مازاد أو نقص في اهتماماتهم.. ولن يكف عن التغير والتطور في المستقبل تبعا للسرعة الهائلة المتزايدة التي نلاحظها الآن في كل جانب من جوانب الحياة في التغير والتجديد والقفز والانطلاق.. فالطمع في بقاء القديم علي ماهو عليه أو في إعادة القديم الي ماكان عليه طمع كاذب بيقين.. أيا ماكان مقدار تعلقنا بذلك القديم أو كان توهمنا لإمكان إنقاذه من موجات التغيير والتطوير العنيفة المتتالية علي الحياة الآدمية بعامة. ربما كان الأقرب للصواب والأدني الي النجاح والتوفيق هو انتقاء الأساس أو الجوهري من ذلك القديم مما لا يتأثر بطبعه بتغير ظروف المكان والزمان في حياة الناس واستخلاصه مما علق به من التفصيلات الزمانية والمكانية غير اختلاف الأزمنة والأمكنة.. وذلك لا يتأتي إلا بعد فهم عميق لما بين يدي الناس الآن من معارف وعلوم وفنون جادة أشد الجد والاكتئاب فيها كما يفعل غيرنا بهمة وإخلاص ومثابرة وإصرار.. بحيث تدخل وتندمج في التيار الرئيسي الجاد السائد في حياة الآدمي المبني علي المعرفة العميقة والعمل الواثب والمنافسة التي لا تنقطع!