أتمني ان يثير مقالي هذا اهتمام الرأي العام حول قضية أصبحت مثار اهتمام الكثيرين، إنها "الوعي الزائف الذي يشكله الخبراء المزيفون الذين يعيثون في الفضاء العام والإعلامي فساداً وجهلاً . حتي صدقت فيهم العبارة القائلة "لو أن الناس لم يتحدثوا إلا فيما يفهمونه لبلغ السكوت حداً لا يطاق".. الخبراء أو بالأحري مدعو الخبرة أصبحوا في كل مكان يتحدثون عن كل شيء، ويفتون في كل الأمور، بدون فهم حقيقي، وبدون حياء!! المستشارون الوهميون لمؤسسات دولية قائمة بالفعل، أو مخترعة، ومدعو الحصول علي شهادات دكتوراه من جامعات حقيقية أو مزيفة، وأصحاب الفتاوي التي ما أنزل الله بها من سلطان، والمحللون الاستراتيجيون الذين يتحدثون عن كل ما هو غير استراتيجي، أولئك كلهم يتحدثون في وسائل الإعلام وينشرون الجهل في المجتمع، ويمارسون الإفساد العام للوعي العام بدون رقيب أو حسيب! ولذلك ليس غريباً أن تكون قضية "الوعي الزائف أو المزيف" هي أهم قضايا البحث الاجتماعي في العقد الأخير!! المجال الاقتصادي علي سبيل المثال هو مجال ضد الفتي، وضد وجهات النظر المسترسلة .. في تقييم خطوات الاصلاح الاقتصادي لدينا وجهات نظر فضفاضة من خبراء غير متخصصين!! يملؤون الفضاء التليفزيوني بتقييمات بدون أرقام! وبدون دراسة حقيقية للموضوعات .. علي النقيض .. التقارير الغربية عن الاصلاح الاقتصادي المصري، التعبير الرقمي الدقيق عن تأثيرات هذا الإصلاح، وتوقعات محسوبة عن مؤشرات تكاد تكون متطابقة مع الواقع .. وتفاصيل مقنعة عن الخطوات .. اختلاف وجهات النظر ليست المشكلة، ولكن ما أشير إليه هو طريقة التعبير عن وجهات النظر.. والسؤال عن ماهية وجهة النظر هل هي "كلام من الراس" أم دراسة حقيقية وبحث موضوعي، وتقييم علمي .. المقارنة بين كلام الخبراء وكلام مدعي الخبرة هو موضع المقارنة. إني لأتعجب حين أجد خبراء عالميين يؤكدون أن ما حدث في مصر من سياسات إصلاح نقدية ومالية هو شيء جدير بالاحترام، وأنه حقق نتائج لم تتحقق في كثير من تجارب الإصلاح الدولية المماثلة، وهم لا ناقة لهم في ذلك ولا جمل .. في المقابل، نسمع فتاوي وآراء غريبة من بعض مدعي الخبرة عندنا، يطلقون تقييمات ليس لها أساس علمي أو موضوعي، ويجد بعضهم في هذا الإصلاح خسارة ذاتية!! "ثقافة الفتي" ثقافة منتشرة في مجتمعنا .. ليس من المألوف أن تجد مسئولاً في الغرب يتحدث من رأسه وليس معه ورقة بها نقاط محددة وأرقام وإحصائيات عن الموضوع .. المسئولون عندنا لديهم خصام مع الكلام المحدد.. بعض نوابنا في مجلس النواب يتحدثون في أعقد التشريعات والقضايا من وحي ثقافتهم ومن وحي الخاطر، لا يوجد فريق عمل وبحث لكل نائب كما يحدث في برلمانات الغرب .. ثقافة الكلام المسترسل بدون تحديد هي ثقافة نجيدها وللأسف نتحمل تبعاتها الباهظة وبعض نوابنا قد تقفز إلي ذهنه فكرة قانون أو تشريع يذهب به إلي وسائل الاعلام ويتحدث عنه وكأنه قرار إلهي أو نهائي سيصيب مجلس النواب في مقتل لأنه لا يعرف أنه ينتمي إلي مؤسسة برلمانية، ولأنه لا يملك مقومات هذا القرار أو هذا التشريع. نحتاج إلي ضبط الألقاب، ونحتاج إلي احترام التخصص، ونحتاج إلي التخلي قليلاً عن الفهلوة في الكلام الذي يصلح لكل المناسبات .. نحتاج إلي كثير من احترام الذات قبل احترام الآخرين .. نحن في مأزق حقيقي وفي حالة انتشاء زائف بمعرفة مزيفة ينشرها أشخاص مزيفون .. أنني لا أري هذا العيب الذي يصل إلي حد الجريمة يرجع إلي هؤلاء المدعين وأصحاب الألقاب المزيفة، وإنما المتسبب الأكبر فيه وسائل الإعلام وخاصة برامج التوك شو التي لا تضع معايير لمن تستضيفهم لكي يتحدثوا بوعي وفهم ومعرفة، مما يؤدي إلي تشويش الرأي العام سواء كان محلياً أو إقليمياً أو دولياً.